الثلاثاء، 11 مايو 2010

حدوتة مصرية!



أعلم تماماً أننا جميعاً وبلا استثناء، لدى كل واحد منا قصة مأساوية عن اصطدامه بحوائط الصد المصرية، وكيف أنه في مقدرة أي أجنبي أياً كانت جنسيته عربية أو غربية، أن يحقق أحلامه في القاهرة بسهولة ويسر، فتنفتح أمامه كل الأبواب الموصدة والأذرع المغلقة، ليصبح نجم النجوم في مصر وربوع بلاد العرب في غمضة عين، بينما المصري لن تقابله سوى الأسوار العالية والحوائط الشاهقة وكل قوى الطرد الموزعة بحرفية عالية أعلى كافة الأبواب. وكأنه كُتِب علينا أن نثبت أنفسنا في الخارج أولاً لنعود إلى مصر ونحن مكللين بالغار فعلاً، فلا يجد من يحتكرون مفاتيح الأبواب بدا من فتحها والسماح إلينا بالعبور حتى لا يفوح عفنهم في كل الآفاق.
حكاية مصطفى سعيد مثل حكايتنا جميعاً، لكنني لن أتراجع عن سردها وإن كانت مكررة على المسامع، فالحكاية واحدة رغم اختلاف أسماء الأبطال. هذا الفتي ذو السبعة والعشرين عاماً، مثل بالنسبة لي مفاجأة حقاً، فلقد تمت دعوتي بواسطة إحدى صديقاتي لحضور حفل له وفرقته " أصيل" ضمن فعاليا مهرجان أنغام من الشرق الذي تقيمه هيئة الثقافة والتراث في العاصمة الإماراتية أبوظبي. ذهبت لأستمع إلى تجربته الموسيقية الشرقية الجديدة والتي تتصدرها آلة العود التي يتخصص مصطفى فيها. لآخر لحظة كنت مترددة في الذهاب إلى الحفل، فلقد استمعت إلى العديد والعديد من التجارب الموسيقية العربية التي يتزعمها العود، فما الذي يمكن أن يضيفه مصطفى حتى أترك منزلي يوم الجمعة وأقود سيارتي متخطية كمية مهولة من إشارات المرور والسيارات المجنونة حتى أصل إلى مسرح قصر الإمارات؟. قررت التوجه في النهاية إلى الحفل على الأقل حتى لا أكسر اتفاقاً بيني وبين صديقتي التي تكبدت عناء الحصول على تذكرة مجانية لي.
كان رد مصطفى وفرقته على خمولي وجلوسي على كراسي المسرح في تراخي جد قاسي، فلقد صفعني بموسيقاه مشعلاً داخلي وقود الانتباه والدهشة والتساؤل، أين كان هذا الموسيقار العظيم قبل ذلك؟ وكيف لم أسمع عنه من قبل وأنا التي تدعي أنها من كبار المهتمين بالموسيقى والباحثين عن كل جديد فيها. مصطفى ليس مجرد عازف للعود ماهر، فهو مؤلف موسيقي أيضاً حيث أن كل ما قدمه مع فرقته " أصيل" من تأليفه، هو أيضاً منشد يمتلك صوتاً نادراً وكما نقول بالعامية " صوته يسطل". استطاع مصطفى بموسيقاه الشرقية المجددة والمطورة أن يسحب روحي لتحلق فوقه مع فرقته التي تتكون من عازفين مهرة حيث غسان سحاب على القانون ومحمد عنتر على الناي والمغني أسامة عبدالفتاح. يقدم مصطفى تجربة موسيقية شرقية بامتياز، لكنك عندما تستمع إليها تشعر أنها قديمة وحديثة في ذات الوقت، فهي أليفة جداً بالنسبة إلى مسامعك، لكنك تستطيع أن تؤكد أنك تسمعها لأول مرة، وهذا ما شرحه لي مصطفى عندما تحدثت إليه عقب الحفل، حيث قال لي أنه يرفض أن يجدد الموسيقى العربية من خارجها بمزج ما هو غربي أو حتى شرقي آسيوي إليها، وإنما يعمل على تطويرها من داخلها. مصطفى تجاسر وأعاد تلحين قصيدة " أراك عصي الدمع" للحمداني والتي غنتها أم كلثوم من قبل من تلحين الشيخ أبوالعلا محمد، ثم من تلحين رياض السنباطي، وهذه شجاعة يحسد عليها، بل ونهنئه عليها أيضاً فلقد لحنها وأنشدها بصوته، كما لو أنها لم يتم تليحينها أو غنائها من قبل، كذلك قدم عزفاً منفرداً لمقطوعات موسيقية من تأليفه على العود، ومقطوعات موسيقية قدمتها الفرقة كلها باعتبارها تخت شرقي حداثي مبهر.
ما هي المشكلة إذاً في كل ما سبق؟ المشكلة أن محمد يعيش في بيروت منذ عام 2003 ، حيث حصل على الماجستير في الموسيقى من الجامعة الأنطونية اللبنانية، وهو الآن يحضر الدكتوراة ويقوم بتدريس عود وعلوم ارتجال وتأليف موسيقى شرقي وغناء في نفس الجامعة. عندما سألته لماذا لا تدرس في معهد الموسيقى العربية وتقدم حفلاتك مع فرقتك في مصر وتعيش في القاهرة؟ أجابني بهدوء شديد يحسد عليه "معهد الموسيقى العربية لا يدرس للعميان" وبيروت فتحت ذراعهيا لي وأعطتني الشهرة فأنا مشهور في لبنان وباريس وعدد كبير آخر من البلاد العربية والعالمية. نسيت أن أخبركم أن مصطفى ضرير لأنني كنت حتى التقيته مؤمنة بأن الإعاقة الجسدية أمر لا اعتبار له أمام الذكاء والإبداع والعطاء الانساني، فلا يمكنني مثلاً أن أحشر طه حسين في صندوق العتمة ولا يمكنني أن أتعامل مع الشيخ سيد مكاوي والشيخ إمام وعمار الشريعي وغيرهم كثيرون، على أنهم لا يبصرون. كيف يمكن لمعهد الموسيقى العربية أن يرفض الطلاب الذين لا يرون بأعينهم طالما أنهم يمتلكون الموهبة والنبوغ الموسيقي، ألا يدرسون لطلابهم روائع الشيخ سيد مكاوي مثلاً أو العظيم عمار الشريعي؟.
بعيداً عن معهد الموسيقى العربية، أتساءل: أين وزارة الثقافة من موهبة مصطفى ونبوغه الموسيقي؟ ألا يمكن للوزارة التي منحت نصير شمة العراقي بيت الهراوي الأثري كي يحوله إلى مدرسة لتعليم العود، أن تمنح مصطفى المصري ولو نصف بيت أثري كي يدرس منهجه الموسيقي الشرقي المطور للطلاب المصريين والعرب، الذين يتوافدون على مصر كي يدرسوا بها الموسيقى، في حين يخرج المصريون ليدرسوا في لبنان؟ وأين دار الأوبرا والسيدة المبجلة رتيبة الحفني التي أحضرت سليم سحاب من لبنان ونصير شمة من العراق لتضعهما على قمة الموسيقى في مصر، ألم تنتبه إلى موهبة مصطفى الذي حمل حقائبه وفر إلى بيروت لأن بيروت تقبل بالعميان بينما القاهرة لا تعتبر أو تعترف بهم.
لا أناصب العداء لأي شخص تم ذكره في مقالي كما أن بيروت وكل العواصم العربية على رأسي وفي عيني، فكل العرب مرحب بهم في مصر، لأنها أم الدنيا التي تفتح ذراعيها إلى الجميع، لكن أليس من الأولى أن تكون مصر أماً لأبنائها أولاً قبل أن تتبنى باقي الدنيا؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق