الخميس، 1 يناير 2015

"سيلفي" .... أنظر نحوي ...أنا هنا ...أنا موجودة


عندما أتاح لنا موقع الفيس بوك الشهير، أن نتواصل مع أصدقائنا القدامى، ونستعيد معهم ذكريات مضت، بدأ كل واحد منا يبحث في أدراجه وصناديقه القديمة عن صور جمعتنا بهؤلاء الأصدقاء يوماً. عن نفسي، ونظراً لهوسي الخاص بالتصوير منذ لقائي الأول بالكاميرا الكوداك الإيكتراليت 400 والتي كانت تتعامل مع الأفلام ذات البكرتين (24 صورة)، بعدما أهداها لي ولأختي خالي المهاجر إلى أستراليا، وكنت حينها في الثامنة من عمري تقريباً، حيث لم تهتم أختي بالتصوير مثلما وقعت أنا في أسره، وأصبح من أهدافي الدائمة، ادخار النقود لشراء فيلم ومن ثم ادخار نقود لتحميض الفيلم وطباعة الصور. كنا نتعامل مع اللقطة الواحدة بحرص شديد، حيث أن إهدار صورة معناه إهدار نقود تساوي صبراً طويلاً، أفنيه في ادخار القرش من أجل الحصول على فيلم وبالتالي ممارسة ولعي الخاص.
كان للقطة الواحدة معنى كبير، ومع ذلك، ونظراً لأن جيلي عاش حقبتين تكنولوجيتين غير متشابهتين بالمرة وفي زمن قصير جداً، فلقد نسيت تماماً قصة الصورة التي تساوي دماً ودموعاً وابتسامات، مع سيطرة الكاميرات الديجيتال على حياتي بالكامل، فعشقي للتصوير جعلني أحرص دائماً على تحديث كاميراتي ولا أرضى إلا بالحصول على الأفضل، وبالتالي فأنا بالفعل أتعامل مع الكاميرات الديجتال منذ ما يزيد عن العشرة سنوات الآن، ونسيت تماماً فكرة الصورة العزيزة، فمع الديجتال يمكنني التقاط ألف صورة لنفس المنظر ومن ثم اختيار أفضلهم فيما بعد.
نعود للفيس بوك، والذي أصابني بالصدمة عندما فتحت صناديقي لأخرج منها الصور القديمة من أجل مشاركتها مع أصدقائي، حيث اكتشفت أن كل عام من عمري كنت أستهلك خلاله على أقصى تقدير ثلاثة أفلام، وبالتالي فإن عدد الصور التي استهلكها جيلي في ذكريات طفولته ومراهقته وأوائل عشريناته، كانت بالفعل قليلة، حتى وإن كان مهووس تصوير مثلي.
هل ما سبق، هو نوستالجيا أو حنين للماضي؟ ربما.. ولكني أعتبره مدخلاً للصورة "السيلفي"، وهي الهوس الجديد الذي بزغ نجمه مع التطور الأخير لكاميرات أجهزة الهواتف الذكية، حيث أصبح من السهل أن يصور الإنسان نفسه. في الماضي القريب، كان التصوير في كل صوره، يحتاج على الأقل لفردين، أي أن التصوير كان يتطلب علاقة بين اثنين من البشر. لكن بعد السيلفي أصبح التصوير لا يتطلب سوى فرداً واحداً وهاتفاً ذكياً... أي علاقة بين إنسان وشئ.
في بداية التسعينات، ومع تسارع  وتيرة  الاختراعات التكنولوجية، كتب كثيرون عن (تشييئ الإنسان) متنبئين بأن المُضي قدماً في تطور اختراعات مثل الموبايل والكمبيوتر ببرامجه المختلفة، سيحول الانسان تدريجياً إلى شيئ بعدما يفقد علاقته بالانسان المماثل له، وتتلخص علاقات حياته في الأشياء من حوله، لينعزل وتتعمق أحاسيسه الفردية، فيشعر بعدم احتياجه للآخرين، وتكون سعادته الحقيقية مع أشيائه.
أعتقد تماماً أننا وصلنا إلى هذه المرحلة، فحتى عندما يجتمع الأصدقاء في مقهى، فهم يتحلقون جميعاً حول طاولة واحدة، بينما ينفرد كل واحد فيهم مع جهازه سواء كان هاتف ذكي أو لاب توب أو تابليت، فلقد أصبح تعليق أو إعجاب أحدهم بصورة أو عبارة وضعها على حسابه الخاص بفيس بوك، أهم من حوار يتبادله في الواقع مع صديق يجاوره، ولقد شاهدنا هذا النموذج من الأشخاص، في أحداث الثورة وما تلاها من أحداث، فبينما كان كثيرون داخل المظاهرات والاحتجاجات والاشتباكات والاعتصامات بالفعل، كان هناك آخرون يكتفون بالتصوير من بعيد ومن ثم رفع الصور على فيس بوك أو ارسال تغريدات على تويتر تصف الأكشن الدائر على الأرض، بينما اكتفى بعض آخر بإعادة التغريدات أو مشاركة "البوست".

"السيلفي"، كان خطوة هامة  للمنظومة الفردانية أو التشييئية التي نسير نحوها بسرعة منذ اختراع الويندوز والموبايل، فهي في الأساس تعبير واضح عن الاحساس بالوحدة، فعندما يطالعك في الصباح وجه أحدهم وقد صور نفسه وهو يتناول إفطاره أو يحتسي قهوته ويكتب أسفل الصورة ( صباح الخير ...اتفضلوا معايا ...فطار ملوكي)، أو تصور نفسها وهي بكامل أناقتها على باب بيتها وهي تقول ( أنا في طريقي للعمل) أو يصور نفسه في فراش المرض ويكتب ( أنا مريض) ..... فكل هذا، ما هو إلا تعبيراً صارخاً عن الاحساس بالوحدة الذي تعمق في الإنسان المعاصر، والذي وجد في الصورة السيلفي ومن ثم رفعها على الفيس بوك، مخرجاً من آلام الوحدة التي لا يعيها وإنما هي كامنة في عقله الباطن، فالصورة السيلفي ما هي إلا صرخة ناعمة للإنسان المعاصر تقول بوضوح: ( أنا هنا ...أنا موجود ....أرجوك انظر نحوي) ..... فهل سنعي أزمتنا ونقاومها؟ أم سنستمر ماضين في طريقنا نحو تأصيل الفردانية والتشيؤ، ليصبح صفة طبيعية للانسان الحديث، وتصبح الصورة الجماعية تاريخ ومن آثار الماضي؟ 

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 23 ديسمبر 2014