الاثنين، 4 يناير 2016

مجمع الأديان ... في مكان واحد توقد شمعة للعذراء ومارجرجس ثم تقرأ فاتحة الكتاب في جامع عمرو





يُحكى أن هناك بلد اسمها (حا – كا – بتاح) أي مكان الإله بتاح، وكان أهلها يطلقون عليها اسم (كيمة أو تاكيمة) أي السوداء أو الخمرية نسبة إلى لون تربتها، وأطلقوا عليها (تاوي) أي الأرضين نسبة إلى الدلتا والصعيد، وأسموها (تامري و إيرا رع) أي المكتملة وعين الشمس، وكذلك (إثرتي) أي ذات المحرابين في الشمال والجنوب، وأطلق عليها اليونان (إيجيبتوس) أما الآشوريين والفينيقيين فعَرَّفوها بـ (مصرم)، أما المعينيون في اليمن فكانوا يسمونها بـ (مصري)، والعبريون أطلقوا عليها ( إيرس مصر) أي أرض مصر، وفي النصوص الآرامية والسريانية جاء اسمها (مصرين. مصر) وتعني حضارة أرض.
إنها ببساطة مصر ... أول حاضرة في الكون، عرفها البشر من حولها باعتبارها الأرض الأم التي تتسع لاحتوائهم جميعاً، دون تفرقة بين أي منهم واتسعت الأرض الممتدة على شريط  نهر النيل لكل أنواع العبادات وأقيمت المعابد للعديد من الآلهة المختلفة، لتُعبر عن التنوع والتطور الفكري للبشر في محاولاته للوصول إلى الله.
لم تكن مصر أبداً، بلد صراع ديني مثلما كانت أرض العراق مثلاً، وهذا ما أعطى لحضارتها الفرعونية عمراً مديداً لتستقر على قمة الحضارات المصرية القديمة، فتكون هي النظام الحاكم القديم الوحيد الذي استقر على مدار 30 أسرة فرعونية كاملة، حتى غزا الرومان المنطقة وبما فيها مصر، فعمدوا إلى طمس أي نوع من أنواع الهويات الثقافية، في سبيل سيادة ثقافتهم وحدها.
ورغم الاضطهاد الديني الذي واجهه المصريون في عصر الحكم الروماني، إلا أنهم أجبروا الرومان في النهاية على الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، حتى دخل عمرو ابن العاص مصر فاتحاً، ولم يجبر أحداً على الدخول في الإسلام، وعندما أقام عاصمته الفسطاط، لم يقترب من منطقة الأديرة والكنائس التاريخية هناك، وتركها ليبني جوارها أول مسجد في مصر والذي سُمي باسمه، ليرتفع الآذان في حضن أجراس الكنائس.

فسطاط الأديان الثلاثة

منطقة (مجمع الديان) في مصر القديمة، تمتلك روحاً مُشعة تتلبسك بمجرد أن تطأ قدمك أرضها، فبمجرد أن تترجل من المترو في محطة مارجرجس، يبدأ شعاع من نور في الدخول إلى قلبك. وعند السلم الخارجي ترى أول ما ترى قٌبة كنيسة مارجرجس بصليبها الذي يزين قمتها، وهي تعد من أهم الآثار للأقباط الروم الأرثوذوكس بمصر وأفريقيا ويعود تاريخ إنشائها إلى القرن العاشر الميلادي على أحد الأبراج الثلاثة لحصن بابليون. أكثر ما يجذب النظر لكنيسة مارجرجس، تصميمها الدائري وبرج الجرس الذي يرتفع 30 متراَ، إضافة إلى ما تحويه من لوحات ونقوش مطليه بالذهب والأبواب المشغولة بالأرابيسك الذي يختلف عن النمط السائد لدى باقي الكنائس في المنطقة.
لا تستطيع ألا تبدأ بمارجرجس لوجودها تماماً أمام سُلَم المترو، لكن من المفترض أن تبدأ بالكنيسة المعلقة، التي تضم أيقونات قبطية شديدة الروعة وأهمها لوحة ( العدرا الموناليزا) والتي لُقبت بهذا الاسم نظراً لأن عيني العذراء في اللوحة تنظر إليك أينما اتجهت ما يدل على تطور الفن التشكيلي لدى الأقباط قبل أن تبدأ المدرسة الانطباعية في أوروبا. وسُميت "المعلقة" بهذا الاسم نظراً إلى أنها بُنيت على برجين من أبراج حصن بابليون.
ولتاريخ بناء المعلقة أكثر من رواية، فالبعض يقول أنها بُنيت على أنقاض المكان الذي استقرت فيه العائلة المقدسة لمدة ثلاث سنوات هرباً من الملك الفلسطيني هيرودوس الذي أمر بقتل جميع الأطفال، بناءً على نبوءة وردته بشأن سيدنا عيسى. وهناك أقوال أخرى أنها بُنيت على آثار "قلاية" لإحدى الراهبات.
ربما تكون الكنيسة المُعلقة دليلاً كبيراً على روح التسامح المصرية التي استمرت منذ القدم، فلقد تعرضت إلى الانهيار لأكثر من مرة منذ دخول الإسلام مصر بسبب المياه الجوفية، لكنها دائماً ما كانت يتم تُرمم على أيدي الخلفاء المسلمين.
عندما تخرج من "المعلقة" وتبدأ السير بين الأجناس المتعددة التي أتت لتتبرك بالقديسين، يُخايلك امتداد الأبنية التاريخية والمعمار المتأثر بفكرة الحصن، حيث أن المنطقة بأكملها مبنية على آثار "بابليون"، فتشُعر بطاقة إيجابية تدخل روحك، فجوارك يسير المسلمون والمسيحيون يشيرون بأصابعهم إلى أبنائهم عن تكوين معماري أثري مميز، ليحكي له قصة ما يعرفها عن المكان.
عندما تصل إلى السلم الذي يهبط بك نحو كنيسة "المغارة والشهيدين سرجيوس وواخس الشهيرة بكنيسة أبوسرجة"، ومزار مار جرجس وكنيس بن عذرا اليهودي، لا يمكن ألا تمر على البازارات التي تبيع الأيقونات القبطية والصلبان والمسابح وغيرها من اللوحات المُعبرة عن الديانة المسيحية. السير في هذا الممر مع رؤية الضوء الذي يغمرك هابطاً من عَلٍ لا يسمح لك سوى بالشعور بالغبطة، فتجد نفسك تشرع نحو لوحتي العذراء ويسوع في كنيسة أبو سرجة، لتشعل الشمع وتنال بركة المكان وتحاول التلصص لرؤية فوهة البئر التي كانت السيدة مريم ويسوع الطفل يشربان منها، ثم تهرع مسرعاً نحو مزار مارجرجس لتشعل له أيضاً شمعة مستمداً منه القوة وهو يغرس رمحه في قلب التنين، وفي الداخل ستحكي لك الراهبة المسئولة عن المزار حكاية القديسة فلومينا صاحبة المعجزات التي تحدت الإمبراطور ديقليديانوس، إلى أنا نالت الشهادة.
لا تكتمل بركة المكان إلا بزيارة كنيسة القديسة بربارة والموجودة في شارع على اسمها (حارة الست بربارة)، فتسرح بخيالك عن هذه القديسة التي لا يؤكد التاريخ حقيقة وجود جسدها في كنيستها كما هو شائع، حيث كانت فتاة آسيوية تعلمت على يد راهب مصري، فاعتنقت المسيحية وكرَّست نفسها لخدمة الله.
وقبل أن تُنهي جولتك السماوية، عليك أن تمر على كنيس بن عذرا اليهودي، والذي لا يتسم بأي معمار مميز، كما أنه صغير جدا ولا يضم في الداخل سوى صالة كبيرة تتسع للشمعادانات اليهودية ومذبح الصلاة، لكنك أيضاً لن تستطيع أن تمر بينها حيث أنها مسيجة بالحبال التي تمنع العبور وتطالبك بأن تنظر من بعيد.
تجلس على المكتب الخارجي سيدة من الطائفة اليهودية في مصر، والتي تتحدث يسيراً وتُجيب بهدوء شديد أنه لم تعد هناك صلاوات تُقام في المعبد الآن، وذلك للحفاظ على آثار اليهود من الاندثار.
عندما تنتهي من معبد بن عذرا الذي يُقال أنه كان كنيسة مسيحية في الأساس وتم بيعها لليهود ليقيما داخلها معبداً لهم، ستبدأ رحلتك نحو ختام الأديان السماوية عند جامع عمرو ابن العاص.

الطريق إلى عمرو بن العاص

تبدو سماحة الدين الإسلامي في اختيار عمرو ابن العاص لموقع أول مسجد في مصر، حيث تحتاج إلى السير مسافة كيلومتر تقريباً منذ نهاية ممر الكنائس القديمة لتصل إلى المسجد، وذلك لأن الفاتح لمصر لم يرغب في مزاحمة الكنائس أو الاستيلاء على أحدها لتحويلها إلى مسجد بمنطق المنتصر. والمكان منذ أُنشىء الجامع رمزاً لعناق أبدي يجمع بين الديانات السماوية الثلاث التي ترمز لقدرة هذه الأرض على استيعاب كل الأفكار والأديان.
في مسجد عمرو ابن العاص، يحذرك الحارس عند البوابة الرئيسية من وجود سيدات تسرق الهواتف والنقود، وأنه علينا الحفاظ على حقائبنا جيداً، وهو أمر مثير للحزن حيث لم أقابل مثل هذا التحذير عند الكنائس، كما أنه من المحزن أيضاً، أنه محاط بالأبنية العشوائية التي انزرعت كنبت فاسد يعمد إلى تقبيح المشهد الروحاني له. قبل الوصول إلى المسجد يصادفك بعض من أكوام القمامة ما يجعلك تتعجب لعدم اهتمام وزارة الآثار بمحيط المسجد، وكذلك تحزن لأن المصلين أنفسهم لا يحترمون جلال المكان بعشوائيتهم.
رغم ذلك فالصلاة داخل مسجد عمرو ابن العاص تختلف تماماً عن الصلاة في أي مسجد آخر، حيث الفضاء المفتوح على السماء داخل الصحن، يُشعرك بجلال الله يتسرب إلى فؤادك، وهؤلاء المسلمون من كافة البلاد يركعون جوارك يأخذهم جمال الأعمدة التي يعج بها المسجد، فننظر إليها من كل الزوايا فتأخذك في رحلة إيمانية متأملة مع الضوء الذي يشملنا ويفتح لنا تباريح الخالق.
مُجمع الأديان منطقة واحدة تعبر عن مصر، البلد التي تحمل أسماءً عديدة وتحتضن كل المؤمنين والمفكرين بروح سمحة ترفض الرضوخ لأي محاولات لتجريف الحب...  دينُ مصر الحقيقي منذ لحظة خلقها الأولى.




 الموضوع تم نشره في جريدة جورنال مصر الأسبوعية في ديسمبر 2015