الثلاثاء، 23 مايو 2017

"واحدة حلوة" ... مونودراما موجعة حولت النص الإيطالي إلى مأساة مصرية أصيلة

لم أكن أتخيل أنني عندما سأذهب إلى مشاهدة عرض المونودراما "واحدة حلوة" بقاعة صلاح عبد الصبور داخل مسرح الطليعة بالعتبة، أنني شأشاهد عرضاً مصرياً صميماً وموجعاً إلى هذا الحد، فكما هو مكتوب على أفيشات العرض أنه مأخوذ عن نص " امرأة وحيدة" للأديب والمسرحي الإيطالي داريو فو وفرانكاراما، لكن وفقاً لما شاهدته؛ استطاع المخرج أكرم مصطفى أن يقدم معالجة نصية متميزة للمسرحية الأصلية، تجعلك تشعر أنك تتعامل مع نص مكتوب من قلب المجتمع المصري، ومعبر بما لا يدع أي مساحة للشك عن دواخل المرأة المصرية وأزماتها العاطفية والنفسية تجاه مجتمعها ومحيطها الأسري.


لم يغير أكرم في الديكور الخاص بالمسرحية الأصلية "امرأة وحيدة"، حيث صالة منزل متوسط الحال تتوسطه طاولة مكوى عليها ملابس جاهزة للكوي وعلى الجانب يوجد راديو يصدح بالغناء وهناك أربعة منافذ موزعة على جوانب الصالة تُمثل باب المطبخ وغرفة الأطفال وغرفة الأخ العاجز للزوج ثم باب المنزل، ويتصدر صالة المنزل، نافذة وهمية تطل على جارة متخيلة وهي النافذة التي تُعتبر المنفذ إلى الجمهور في صالة المسرح والذي يتابع من خلالها أحداث المونودراما التي تجسدها تلك المرأة الوحيدة أو "الست الحلوة".



أثناء العرض تداخلك مشاعرَ مضطربة، فهل تضحك أم تبكي على تلك المرأة التي ربما تُجسد حال أغلب نساء مصر، والذين يعيشون نفس تضارب المشاعر والأحاسيس ويضيعون بين ما يشعرون به في داخلهن وبين ما ينكره عليهن المجتمع وبين ما هو مفروض عليهن من المحيط الذي يعيشون فيه. حالة من البلبلة في المشاعر التي تداهمك طوال المسرحية، فتجد نفسك تتأهب للذهاب إلى تلك السيدة لتغمرها بين ذراعيك وتربت على كتفها ربما لتقول لها "معلش"، أو تقدم لها نصيحة بما يجب أن تفعله كي تفر بسعادتها وحياتها إلى عالم أفضل من ذلك الواقع القاتل الذي تعيشه، لكنك في النهاية لا تملك سوى أن تتسمر في مقعدك لتكمل الفرجة على الملهاة المأساة التي تُجسدها أمامك ببراعة الممثلة الفاتنة شكلاً وأداءً مروة عيد.

لا يمكن بأي حال من الأحوال، إنكار جرأة المعالجة النصية للمونودراما الصعبة "واحدة حلوة"، وهي في النهاية جرأة محمودة نتمنى أن تتحلى بها كافة النصوص التي تعالج مواضيع المرأة في مصر، فنحن بحاجة فعلياً لتغيير هذا الواقع المرير الذي اعتاد الجميع أن يواجهه بدفن رأسه في الرمال، لكن واقع الأمر يصرخ بأنه لم تعد هناك رفاهية لتكملة مسيرة الصمت حيث أصبحت أزمة المرأة في عالمنا أشبه بالقنبلة التي شارفت على الانفجار في وجه المجتمع كله.


النص يتناول أزمات المرأة المُعنفة في محيطها المجتمعي والتي تواجه كراهية مستترة، واستخداماً رديئاً لجسدها وتجاهلاً صارخاً لرغباتها ومشاعرها وتوازنها النفسي، حيث نجد "صباح" بطلة العرض الوحيدة والتي جسدت دورها ببراعة فائقة مروة عيد، امرأة تعيش وحدة من نوع خاص فهي زوجة لرجل اعتاد أن يُغلق عليها باب البيت بالمفتاح بمجرد أن يخرج حارماً إياها من ابنها الكبير الذي يقيم عند عمته، بينما هي مسجونة في المنزل بين متطلبات فتاتها الرضيعة وأخو زوجها المُقعد إثر حادث أفقده النطق وفقد أيضاً أطرافه فيما عدا ذراع واحدة يستخدمها في التحرش بصباح كلما اقتربت لتقدم له خدمة.
الأبواب في المنزل تُجسد المتاهة التي تعيش فيها صباح، فهي مشتتة بين الأبواب الأربعة التي تتعاون على الإمعان في إرهاقها وسحب الحياة من جسدها، حتى باب المنزل الذي كان مصدر أمل لها، غدر بها في نهاية المسرحية لتتأكد أنها وحدها في هذا الكون وأنها ليست أكثر من مجرد شئ للاستخدام وليست كائناً حياً له عقل وروح.
الشباك الذي يُعد نافذة صباح إلى العالم حتى تجد من تُحدثه عن أخبارها وحياتها ومشاعرها، وتشعر معه بأنها موجودة تدُب في أوصالها الحياة، يكاد يكون مُتخيل حيث لا إثبات على كونه حقيقي، وأن الجارة الجديدة التي عَثُرَت عليها ذات يوم قد تكون مجرد وهم ابتدعته صباح كي تحكي مكنونات دواخلها التي تفتك بها بطيئاً، بينما يحاصرها زوجها بعنفه وشكه ومكالماته المُهاجمة المهينة دوماً.


الهاتف الذي يرن جرسه طوال العرض لتقطع صباح حديثها مع الجارة، يُعبر عن اكتمال خيوط الحصار المحكم حول تلك المرأة المحكُوم عليها بالوحدة المُذلة، فهو يعبر عن أن كل أساليب التواصل مع مفردات المجتمع لا تؤدي إلا إلى الاستخدام والتشييئ للمرأة في مجتمعنا، بينما عليها أن تصمد ولا تقع في شرك أي صياد آخر غير زوجها.
الزوج والعشيق في مونودراما " واحدة حلوة" يُجسدان أحد أهم أركان الاستخدام للمرأة، فالتي تهرب من استخدام الزوج لابد وأن تقع في براثن استخدام العشيق، حيث لا مهرب في النهاية من الموت على مِذبح الذكر الذي لا يرى في المرأة سوى قطعة لحم وخادمة.

لا يمكن أن أنهي مقالي دون التطرق للفنانة مروة عيد، المشهود لها بالبراعة دائماً، لكنها في هذه المونودراما أخذت فن التمثيل إلى أبعاد أخرى من الصعب الوصول إليها، فلقد تماهت تماماً مع الدور لدرجة شعرت فيها بالإشفاق عليها، فكيف سيمكنها أن تمارس حياتها الطبيعية بعد هذا التجسيد الكُلي لدور صباح؟ فأنت تبكي معها وتضحك بهيستريا معها، ويصيبك القلق والأرق معها، ولا تتركك مروة تعود إلى منزلك سليماً كما أتيت قبل بدء المشاهدة، فهي تترك بأدائها الفائق نُكتة سوداء في جبهتك تسألك: لماذا تركت صباح وحيدة ولم تحاول إنقاذها؟ 

نُشٍرَ المقال في جريدة القاهرة عدد 23 مايو 2011 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق