الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

" كأنك تراه " مسرحية تستحضر روح الرسول وتتساءل (ماذا سنفعل وهو بيننا؟)

" كأنك تراه " تجربة مسرحية تحمل في طياتها أبعاداً صوفية، وإن كانت الكاتبة نسمة سمير التي تعد هذه المسرحية هي تجربتها الأولى مع مسرح الدولة، ربطت ما هو صوفي بما هو اجتماعي، في محاولة منها لاستحضار روح الدين الإسلامي في تعاملاتنا اليومية وعاداتنا الإجتماعية التي تكونت بفعل الإغراق في المادية وتأثير الجماعات الدينية المتشددة على أسلوبنا في الحياة، فأصبحنا نرتكب المعاصي دون أن ندري.


النص الذي أنتجه البيت الفني للمسرح ليُعرض خلال شهر رمضان، والذي قرر مدير عام مسرح الطليعة شادي سرور إعادة عرضه، لما رآه فيه من طرح اجتماعي جدير بالانتشار بعيداً عن رُوحانيات الشهر الفضيل، يعتمد على فنانين مغمورين، أتوا من مختلف محافظات مصر، وبعضهم تُعد "كـأنك تراه " هي تجربته الأولى على المسرح، ما يجعلنا فخورين بالمواهب التي تقدمها بلادنا من مختلف أرجائها، حيث أن الممثلين على اختلاف أعمارهم وبلا أي استثناءات أثبتوا قدرات تمثيلية هائلة، إضافة إلى أن أغلبهم يستطيع الغناء، بل ويمتلكون أصواتاً عذبة حملت الكثير من الشجن.
تعتمد فكرة الكاتبة نسمة سمير على سؤال (ماذا لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش بيننا اليوم؟)، وتحاول الإجابة على السؤال من خلال استحضار روح (سيدي أويس القرني) اليمني الذي حدَّث الرسول، عمر ابن الخطاب عنه، فلقد كان يعيش في اليمن وتتوق نفسه إلى رؤية الرسول (ص) ولكن مرض والدته منعه عن الذهاب إلى المدينة لرؤيته، فلما حثته أمه على تركها والسفر لتحقيق ما يصبو إليه قلبه قال:" أيقول الرسول أمك ثم أمك ثم أمك وأتركك وأمضي؟".


اختيار نسمة لشخصية سيدي أويس قائمة على أنه آمن بالله ورسوله دون أن يلقى النبي، وامتثل لأخلاق سيدنا محمد وتعاليم القرآن دون أنه يعلمه أو يراقب تصرفاته أحد، فعاش حياته وكأنه يرى الرسول. ومن هنا تأتي تيمة المسرحية؛ كيف نعيش وكأننا نراه عليه الصلاة والسلام.
تبدأ المسرحية بعد ذلك في طرح أزمات سلوك المسلمين من خلال مشاكل المجتمع المصري ومقارنتها بأخلاق وسلوك الرسول، ومنها الهوس بتسجيل كل لحظات الحياة عبر التكنولوجيا، دون أن نعيش الحياة بالفعل، كما تطرح قضية الحب والزواج والمغالاة في في طلبات أهل العروس ما يشقي الرجال ويؤجل سن الزواج، ورعاية اليتيم ويتم الأبناء في ظل حياة آبائهم بانشغالهم عنهم من أجل المادة، والعلاقة بين الغني والفقير، وبشرية الرسول قبل نبوته، والتظاهر بالسعادة أمام الناس بما نمتلك دون أن نكون سعداء بالفعل، والغش في التجارة والتحايل على الرزق بالكذب، والتحايل بالدين من أجل تحقيق المكاسب، والعلاقة بين المسلم والمسيحي أو أي إنسان ينتمي إلى ديانة أخرى، والإرهاب باسم الدين وتعريض أرواح الناس للخطر بخرق القانون ... إلخ.


تناولت المسرحية كل هذه القضايا على شكل اسكتشات تمثيلية يتخللها الإنشاد الديني، بينما يجيب سيدي أويس الذي لعب دوره الفنان محمد يونس باقتدار،على تساؤلات مريدي مقامه بماذا قال أو فعل الرسول في كل موقف يتعرضون له ويرتكبون الأخطاء بدعوى أن قسوة الحياة هي التي فرضت عليهم ذلك، ويفرق بين فكرة تشبث الناس بالمظاهر الدينية، دون جوهر الدين أو العمل بمبادئه في تعاملاتنا اليومية، وكيف أن مظهر الدين لا يعني الإيمان به.
استطاع المخرج الموهوب ماهر محمود أن يقدم معالجة إخراجية محكمة، تمكنت من ربط تزاحم الأفكار والقضايا داخل النص، بشكل لا يشتت المشاهد، فكانت الحركة داخل الفضاء المسرحي بقاعة صلاح عبد الصبور - لا تحتوي القاعة على خشبة مسرح، بينما يصطف المشاهدون على جانبي المساحة المسرحية- منظمة في تداخل يضفي ديناميكية لا تسمح بالملل خلال الأحداث، التي هي في الأساس تعتمد على الإنشاد الديني.


أما ديكور المسرحية الذي صممته نهى نبيل ونفذته شيماء عبد العزيز، فجاء مقسماً بشكل طولي يناسب تقسيمة ساحة المسرح، حيث جامع سيدي عويس والكنيسة المجاورة له، بينما يجلس الممثلون بينهما، ليتبادلا النهوض والعودة إلى أماكنهم وما يتفق مع دور كل واحد منهم. لم يكن هناك أدوات أو قطع مسرحية لاستخدامها أو تحريكها، حيث كان الممثلون يجلسون على الأرض ويتحركون بين الديكور المجسد للكنيسة والجامع. أما الإضاءة والملابس فخرجوا في شكل بسيط وتقليدي، حيث شخصية سيدي أويس ترتدي ملابس عربية تاريخية، وباقي الشخصيات يرتدون ملابس معاصرة تعبر عن الحالة الاقتصادية أو المستوى التعليمي لكل شخصية. 
الأشعار العامية التي تم إنشادها خلال المسرحية مهداة من الشاعر محمد بهجت، وقد جاءت معبرة تماماً عن الحالة المسرحية، لدرجة أنها حملت في داخلها بُعداً تراثياً يجعل المستمع يظن أنها أناشيد شعبية قديمة بالفعل، كما ان الموسيقي والملحن الكبير محمد عزت، استطاع بالطبع أن يغلفها بتلك الروح التراثية والتي يبرع فيها عزت منذ بداياته، حيث كان ومازال واحداً من أهم الموسيقيين المعبرين عن روح الشعب المصري بموسيقاه التي تحفر عميقاً في الوجدان الفني للمصريين.


فقط يؤخذ على النص تزاحم وتعدد القضايا، حيث داخلني شعور بأن الكاتبة تخاف أن لا تكرر التجربة وتقدم عملاً مسرحياً جديداً، فمن وجهة نظري، خرجت مسألة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وموضوع الإرهاب بزرع قنبلة بين الكنيسة والجامع، والإرهابي الذي ظهر في المشهد الأخير، زائدة عن الحاجة، بل وساهمت في إضعاف الدراما المقدمة، حيث كان من الأفضل أن تتوقف المسرحية على معالجة مسألة السلوك والتعاملات بين الناس، دون حشر موضوع كبير مثل الإرهاب والوحدة الوطنية، حيث أنهما موضوعان يحتاجان إلى تناول درامي عميق لا يصح سردهما على عجل وبتلك السطحية كما جاء في العرض.

"كأنك تراه" تجربة مسرحية يكمن تميزها في استخدام أسلوب طرح بسيط، قادر على الوصول إلى الناس بمختلف طبقاتهم الاقتصادية والتعليمية، فهو يجمع بين الحَكي والإنشاد والحركة الخفيفة التي تجذب المشاهد العادي دون تعقيد أو سفسطة فلسفية مركبة، لذلك أتمنى أن يجوب العرض المحافظات المصرية، حتى تعم الفائدة المرجوة منه. 

نُشر المقال بجريدة القاهرة يوم 26 سبتمبر 2017

الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

تشريح الحالة الجنسية للمجتمع المصري في "سيرة اللذة والجنس في مصر"



هذا كتاب عن الظمأ
ظمأ الجسد، وجوعه، وطرائق إشباعه أو "تحريره" عند رجال ونساء من الحاضر والماضي، عبر أقوال أثارت جدلاً وأفعال أحدثت زلزالاً في مجتمعات حائرة بين دين الفضيلة وديناميت الرغبات الجامحة.
هكذا؛ استهل الدكتور ياسر ثابت مقدمة كتابه " سيرة اللذة والجنس في مصر" والذي صدر العام الماضي 2016، ليلخص بكلمات بليغة محتوى بحثه الرصين في كوميديا الجنس السوداء التي يعيشها المجتمع المصري، الذي يقدم بحرفية شديدة قمة التناقض بين ظاهر الشخصية المصرية وباطنها، والتي تعلن بصخب دنس الجنس بينما تغرق داخله في الخفاء بنوع عالي الحرفية من التواطئ بين جميع أفراد الشعب رجاله ونسائه.
هذه الدراسة التي يمكننا أن نعدها فريدة من نوعها في مصر وربما في العالم العربي، حيث غالباً ما نتعرض إلى كتب مترجمة تقدم أبحاثاً لموضوع الجنس وتأثيره في البنية الاجتماعية للمجتمعات المختلفة، لكننا لا نجد ما يوازيها أو يقترب منها محلياً، فموضوع الجنس شائك وأحد أضلاع مثلث برمودا للمحرمات العربية (الدين والجنس والسياسة)، وحتى لو تجرأ كاتب وقدم بحثاً في الدين أو السياسة، فهو ينأى بنفسه بعيداً عن الجنس الذي دائماً ما يثير زوبعة من الرفض والاستهجان دون حتى الاطلاع على محتوى الكتاب.
يقترب دكتور ياسر من تابوه الجنس بحذر أيضاً، فهو يتعامل بذكاء شديد مع الموضوع، حيث لا يدخل في منطقة التحليل العميق للشخصية المصرية وسبب هوسها الجنسي، وعلاقتها المتناقضة معه، فهذا الشعب الذي تتمحور حياته بشكل كبير حول موضوع الجنس، ينفي الأمر طوال الوقت ويتخذ كافة التدابير للتضييق الجنسي الظاهري في حين يتسامح معه طالما كان داخل الدوائر المغلقة – ( تحتل مصر المركز الثاني عالمياً في أكثر عمليات بحث مرتبطة بالجنس على الإنترنت).
خلال ستة عشر فصلاً يتنقل ثابت بين مواضيع كثيرة حول سيرة الجنس في مصر، من سيرته بين المشاهير في الماضي والحاضر، إلى الجنس في الأعمال السينمائية والأدبية، ثم موضوع الجنس في الحجاب وأزيائه، والتراث المتحرر جنسياً أمام انغلاق عقولنا في الحاضر، والعلاقة بين المال وعشق العواجيز، ولم يغفل أيضاً التطرق إلى مسألة المثلية الجنسية وإن كان القانون قد جرمها صراحة؟
لكن في رأيي كان الفصل الأكثر قوة وربما تأثيراً في الكتاب، هو "تحرش قطاع عام" الذي تناول فيه موضوع التحرش من كافة جوانبه القانونية والاجتماعية، واستعرض ردود فعل المجتمع عليه سواء في الشارع أو عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم انكاره لكونه موجود من قبل ليطفح على السطح في العشر سنين الأخيرة ويكتفي بوصفه بالظاهرة، إضافة إلى صورة مصر في الخارج وتناول موضوع التحرش بالسائحات.  كذلك لم يغفل السرد التاريخي إن جاز لنا التعبير لأشهر حوادث الاغتصاب والتحرش التي تناولها الإعلام المصري منذ الثمانينيات. ولا يغفل ثابت  التركيز الشعبي والإعلامي طوال الوقت في إلقاء اللوم دائماً على الضحية (المرأة), إضافة إلى مناقشة مسألة التحرش من حيث هي قصور أمني أم أزمة اجتماعية مفصلية لها علاقة بنظرة المجتمع للمرأة.
برشاقة معهودة يخط دكتور ياسر بحثه في سرد ممتع، برغم أنه في حقيقة الأمر يقدم دراسة أشبه بالتاريخية للأمر، من خلال رصده للحوادث التي تتمحور حول موضوع الجنس عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة مع إضافة وسائل التواصل الإجتماعي وخاصة موقع الفيسبوك، الذي تحول إلى مسرحاً للتفاعل الاجتماعي المصري، يمكن من خلاله تقديم رؤية شبه واقعيه للحراك الاجتماعي داخل مصر.
تناول أيضاً الكتاب مسألة إثبات النسب، من خلال فصل "عز وزينة ومعركة التوأم" والذي أفرد فيه لتفاصيل القضية معتمداً على ما نٌشر عنها في الجرائد والمواقع الإخبارية، لكن الفصل لم يتوقف عند توأم عز وزينة بل فرد للعديد من قضايا النسب التي طالت مشاهير العرب.
ويعرج الكتاب أيضاً غرام السلفيين والإخوان من خلال فصل "جنس الأخوة"، لكننا نجده يقول:" الأكيد أن هناك من يطابق قوله فعله من حيث الالتزام وحسن الخلق، لكننا نتحدث عن نماذج لا يمكن تجاهلها أصيبت بتشوهات خطيرة نتيجة التناقض بين كبت مستمر تحت شعار الالتزام، ورغبة مستعرة تلهو سراً فتصنع ما تصنع."
وهنا أتساءل: هل يبرر ثابت كتابته لهذا الفصل حتى يتقي شر الأخوة والسلفيين؟ ولماذا لم يقدم مبررات لغيرهم من الفئات الأخرى التي تناولها في بحثه مثل الفنانين؟ فليس هناك من دليل على ان الانفلات الجنسي تختص به فئة دون الأخرى في المجتمع وليس عاديا أن تكون الفضائح الجنسية قاصرة على الفنانين مثلاً بينما هي أمر غريب على الإخوان والسلفيين، فإن كانت فضائح الفنانين هي الأكثر بروزاً فذلك لكونها تجذب القراء والمشاهدين أكثر، لكن في النهاية عندما قرر الإعلام أن يترصد الجماعات الدينية خلال 2011 و 2012، وأصبحوا مادة دسمة للمتابعة جماهيرياً، تصدرت فضائحهم عناوين المواقع الإخبارية.
من الفصول المميزة أيضاً، الفصل الخاص بالمخرجة إيناس الدغيدي التي تُعد بحق أيقونة مصرية لكسر تابوه الجنس في مصر، من خلال تناولها لموضوعه في أفلامها المختلفة، التي لطالما قوبلت بالهجوم اللاذع في الوقت الذي حققت فيه انتشاراً وجماهيرية كبيرة، إضافة إلى حضورها الإعلامي وآراؤها التي كانت صادمة للمجتمع.
كتاب "سيرة اللذة والجنس في مصر" يمكنه أن يكون بداية لتشجيع كتاب آخرين على تناول موضوع الجنس من جوانب أخري تشرح المجتمع المصري بطبقاته المختلفة وتدرس أزمة التناقض الذي يغرق فيها شعب كامل شغوف بالجنس لكنه ينكره.