الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

"القرصان" عرض باليه يجمع عناصر الجمال الكلاسيكي ممزوج بروح الشرق الأسطورية

"لي كورسير" أو القرصان، هو  في الأصل عرض باليه يُقدم في ثلاثة فصول مع نص أوبرالي محكي، قام بإبداعه كل من جوليوس هنري فيرناي دي سانت و جورج لوسلي مستوحيين النص من قصيدة "القرصان" للورد بايرون. قُدم العرض لأول مرة بشكل متطور على المسرح الإمبراطوري بأوبرا باريس في الثالث والعشرين من يناير عام 1865، لكن كل الإنتاجات الحديثة لعرض القرصان مبنية على العرض المستحدث الذي قدمته فرقة باليه ماستر ماريوس بيتيبا للباليه الإمبراطوري في سان بيتريسبرج بعد ذلك.

ونظراً لأن باليه القرصان يحتوي على العديد من المشاهد الراقصة الاحتفالية ما يجعله محبباً لدى الجمهور على اختلاف العصور، حظى بتحديثات عدة، منها عام 1955 على يد فرقة باليه بيوتر جيوزف التي قدمت نسخة جديدة للقرصان على مسرح مالي للبالية بليننجراد، وفي عام 1973 قدمت فرقة باليه كيروف لقسطنطين سيرجييف نسخة محدثة أيضاً تحتوي على مشاهد راقصة جديدة، ليشهد العرض تحديثاً شاملاً على يد مسرح البلشوي عام 2007، وربما إعادة إحياء كاملة بعد سنين طويلة من النسيان، ليعود ويجوب العالم من خلال فرق باليه أوروبية كانت أولها فرقة الباليه الوطني الإنجليزية عام 2013، وقدمتها فرقة باليه أوبرا القاهرة لأول مرة في الشرق الأوسط منذ خمس سنوات لتعود إلى تقديمها الآن في ثوب مبهر يليق بالمسرح الكبير وجمهوره.
تدور أحداث باليه "القرصان" في منطقة الشرق وتحديداً في أحد الموانئ التي تقع على مضيق البسفور، حيث نشاهد في بداية العرض مع موسيقى تُجسد الصراع، مقاومة القراصنة لعاصفة شديدة تواجه سفينتهم ما يُعرضها للتحطم بالقرب من الميناء. يُعرض المشهد من خلف ستارة شفافة توحي بالضباب وبعد المسافة بين السفينة والمشاهدين في صالة المسرح، لترتفع بعد ذلك ونحن نشاهد مجموعة من الفتيات ينجحن في إنقاذ قائد السفينة "نور الدين"، ومساعده "علي" وبعض الأتباع.

مع بداية المشهد الأول نتعرف على ياسمين وجولنار اللتان تنقذان نور الدين وعلي، فيقع القرصانان في عشق الفتاتين، لكن يظهر فجأة تاجر الجواري أحمد مع العسكر الذين يهجمون على الجمع وينجحون في أسر الفتيات استعداداً لبيعهن في سوق الجواري.
في المشهد الثاني من الفصل الأول يتحول ديكور المسرح إلى سوق كبير للجواري، يعج بالتجار الذين أتوا لشراء الفتيات ومعهم الثري سعيد باشا. حيث نشاهد رقصة العبيد التي أضافها بيتيبا على موسيقى أمير أولدينبرج بيتر جورجفيتش، وصاغها في شكل رقصة ثنائية تعبيرية يعرض فيها أحمد بائع الجواري الفتيات على الأغنياء لشرائهن، وتحتوي الرقصة على حركات شرقية مستوحاة من الرقص الشرقي مع الاستعانة بتنويعات موسيقية شرقية أيضاً.  

الرقصة الثانية بالمشهد الثاني هي رقصة الجاريات الثلاث والتي كانت في الأصل عبارة عن فالس فقط تؤديها جاريات ثلاث على موسيقى أدولف آدم، ثم قام بوجني بإضافة أجزاء موسيقية جديدة لتتحول إلى رقصة ثلاثية تستهل بالفالس ثم يتبعها تنويعات على اللحن الأصلي، وهذه الرقصة تعتمد على أسلوب رقص الباليه الكلاسيكي ولا تحمل أي عناصر شرقية في الحركات أو الموسيقى.
ينجح سعيد باشا في شراء جولنار وقبل أن يشتري ياسمين، يدخل نور الدين والقراصنة متخفيين في زي تجار عرب وينجح في شراء ياسمين، لكنه بعد أن يفصح عن شخصيته الحقيقية لها، تقع مشاجرة كبيرة بين القراصنة والعسكر الذين يساعدون سعيداً في اختطاف ياسمين والفتيات ولكن نور الدين يتمكن من القبض على تاجر الجواري أحمد ويرغمه على اصطحابه لمنزل سعيد باشا.
في الفصل الثاني ننتقل إلى قصر سعيد باشا حيث جناح الحريم المزدان بالثريات والبلورات الرقراقة والستائر المُخملية. يظهر الباشا وهو يحاول استمالة ياسمين له بالإغداق عليها بالمجوهرات في حركات تعبيرية راقصة، لكنها ترفضه ما يثير حفيظته ويترك المكان غاضباً.
مع إظلام خشبة المسرح يتغير الديكور ليقدم حديقة القصر في المشهد الثاني من الفصل الثاني، ونشاهد أحمد وهو يرشو الحرس لفك أسر ياسمين وجولنار وباقي الفتيات، وبعد أن يلتقي نور الدين بياسمين ويقدما رقصة باليه كلاسيكية تُعبر عن الحب الذي يجمعهما، يدخل عليهما سعيد باشا ويأمر حراسه بالقبض على الحبيبين.

المشهد الثالث من الفصل الثاني لا يقدم أحداثاً إضافية، وهو بشكل كبير مُصمم لتقديم متعة متابعة الرقص على الموسيقى الرومانسية الساحرة، حيث نور الدين في الأسر نائماً من التعب ويحلم بنفسه مع حبيبته في حديقة مليئة بالأشجار. هذا المشهد مشهور باسم "الحديقة المسحورة" ويرجع تاريخ تصميمه عندما أعاد مازلييه عرض باليه القرصان في باريس عام 1865، حيث أضاف إليه رقصة جماعية أسماها "رقصة الزهور" على موسيقى ليو ديليب وبعد عام قام بيتيبا بالتوسع في تصميم هذه الرقصة وأسماها مشهد الحديقة المسحورة، ليقوم بوجني بتوسيع فالس الافتتاحية لديليب وإضافة تنويعين جديدين للموسيقى الأصلية.
في المشهد الرابع من الفصل الثاني يستيقظ نور الدين من حلمه الساحر ليجد من حوله رفاقه، وقد استطاعوا أن يحرروه من الأسر، ليدخل سعيد باشا ومعه الحرس ونشاهد معركة راقصة على موسيقى تتسم بالقوة لتوحي بشدة المعركة بين الجميع، والتي ينجح فيها القراصنة ويحرروا الفتيات والهروب بهن.

الفصل الثالث والأخير من باليه القرصان، يتكون من مشهد واحد احتفالي بشكل كبير، حيث لا نتابع أحداثاً هامة، فقط نشاهد وصول القراصنة إلى الجزيرة سعداء بالفوز وتحرير الفتيات، ويحاول بعض القراصنة الانتقام من أحمد تاجر الجواري لكن نور الدين يتدخل ليخبرهم أن أحمد هو من ساعدهم في إنقاذ الفتيات.
نشاهد في الفصل عدداً من الرقصات الجماعية الاحتفالية، ليبدأ أبطال العرض نور الدين وياسمين وعلي وجولنار في تقديم رقصات متشابكة حيث تبدأ الرقصة بشكل رباعي للراقصين الأربعة، ثم ينفصلا ليقدما رقصات ثنائية لكل من علي وجولنار ثم ياسمين ونور الدين، ليبدأوا بعد ذلك في تقديم صولهات راقصة ممتعة للغاية.

لا يمكننا إغفال دور الإضاءة التي صممها ياسر شعلان والتي اعتمدت طوال العرض على التعبير عن فكرة الأسطورة التي تعتمد عليها قصة القرصان، فهي تتضامن بشكل كبير مع ألوان ملابس الراقصات بين الأزرق والبنفسجي الفاتح والوردي، ما لعب دوراً كبيراً في تعليق قلوب المشاهدين بالعرض، كذلك لم يستخدم ياسر إضاءات قوية وصريحة سوى في مشاهد مثل مشهد سوق الجواري، بينما اعتمد الإضاءة الداكنة المكتومة في قصر سعيد باشا ليوحي بالظلم والقهر والطمع في بيت هذا التاجر الثري.
لعب الأوركسترا دوراً هاماً في العرض، حيث كان أدائه تحت قيادة قائد الأوركسترا ديفيد كريشينزي ناعماً ومبهراً ما ساهم بشكل كبير في إنجاح العرض بين شغف المتابعة وانسيابية الراقصين على نغمات الموسيقى.

ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نغفل روعة أداء الراقصين سواء كان الصوليستات أو المجمايع، حيث يواصل أحمد نبيل ضجته الرائعة في الأداء، بينما كانت كاترينا زابرزنايا تجسيداً حقيقياً لمعنى الفراشة الحالمة على المسرح، وواصل بطلا العرض أنجا أهسين وممدوح حسن روعة أدائهما في لعب دوري نور الدين وياسمين.
عرض باليه القرصان من العروض التي لا تُترك بالفعل، فهو يجمع كل عناصر الجمال الخاصة بالموسيقى والباليه الكلاسيكي، مع زهوة ورقة الديكور والملابس، إضافة إلى روح الشرق المستوحاة في القصة والتي تأخذنا إلى أجواء أساطير علاء الدين والقراصنة التي اشتهرت في تلك الفترة.



 المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 17 أكتوبر 2017 

الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

"قلعة آلموت" عرض للرقص الحديث يستلهم أسطورة الحشاشين في الإسقاط على واقع الإسلام السياسي المعاصر

استضاف مسرح الجمهورية عرض الرقص المسرحي الحديث "قلعة آلموت"، ضمن عروض مهرجان المسرح التجريبي لمدة ثلاثة أيام، استطاع خلالها العرض أن يحقق نجاحاً فنياً وجماهيرياً كبيراً، حيث استطاع المخرج مناضل عنتر إضافة عرضاً مميزاً جديداً إلى قائمة عروضه التي حققت نجاحاً محلياً وعالمياً منذ عرضه الأول (الآلات) عام 2008.
العرض الجديد (قلعة آلموت) يُعد قراءة مسرحية راقصة للرواية الشهيرة بنفس الاسم للروائي والمفكر السلوفاكي فلاديمير بارتول، والتي كتبها عام 1939 عن طائفة الحشاشين التي أسسها الحسن بن الصباح في القرن الخامس الهجري، فكانت أول طائفة دينية متشددة تُنفذ اغتيالات سياسية في شكل استشهادي بدائي يناسب تقنيات ذلك الوقت.

من بروفات العرض 

كتب بارتول الرواية في زمن تميز بصعود النظريات الشمولية وبوجود شخصيات سياسية قيادية تتطلع إلى تغيير العالم، ما جعل الكاتب يتأثر بهذا الظرف التاريخي ويتجه باهتمامه إلى شخصية "شيخ الجبل" الفذة التي استخدمت فكرة الجنة والحور العين لاستقطاب الشباب لتنفيذ اغتيالاته السياسية باسم الدين والدفاع عنه، معتمداً في ذلك على كتابات المستشرقين وعلى ما تضمنته تلك الكتابات من أساطير أحاطت بداهية من كبار دهاة التاريخ السياسي الإسلامي في بلاد فارس.
وبالطبع ورغم أن الرواية قديمة جداً إلا أنها تعبر بجدارة عن واقعنا الذي يعج بالتطرف الديني واستخدام الاسلام سياسياً وتحويله إلى دين اغتيالات وحروب، وهذا هو ما أعتقد تماماً أنه كان السبب وراء اختيار مناضل عنتر للرواية لتكون مصدر قراءته المسرحية الراقصة الجديدة، لكن المدهش حقاً هو أنه لم يتم ذكر الرواية أو مؤلفها بأي شكل من الأشكال في كُتيبات المسرحية أو الأخبار المنشورة عنها، وكأن قصة المسرحية إنتاجاً فكرياً خالصاً لمنتجيها المحليين، وهو ما يجعلنا نطالب يتصحيح الأمر مستقبلاً، فرواية "قلعة آلموت" ومؤلفها بارتول ليسا بمغمورين كي يتم تجاهل ذكرهما بهذه الطريقة.
اختار مناضل الجزء الخاص بانتقال المقاتلين الشباب الذين دربهم الصباح على الاغتيالات السياسية إلى منطقة الحريم أو كما ادعى الصباح الجنة وحورها العين العذراوات أبدأ، حيث يقع أحد الشباب في غرام جارية أو واحدة من الحور العين الملفقات، لنشاهد عروضاً راقصة ثنائية مبهرة حقاً تتميز بكريوجراف محكم وقادر على التعبير عن تفاصيل القصة بلغة جسد بليغة، استطاعت أن تفوز بتصفيق الجمهور لأكثر من مرة.
العرض احتوى على الصراع بين شغف الحياة والرغبة في تحقيق الهدف الذي يعتقد الشباب أنه سامي من أجل رفعة الدين، من خلال حوارات راقصة بين الشباب والشيخ الصباح الذي يدفعهم نحو اغتيال الشخصيات السياسية البارزة في الدولة، لكن الموسيقى في بعض المواضع لم تأت مناسبة لفكرة العرض، حيث تم الاستعانة ببعض الأغاني الحديثة باللغة الفرنسية وهو ما لم يكن مفهوماً في السياق العام للعمل، بينما جاءت أخرى في إطار صوفي وهو ما لا يناسب طبيعة العمل أيضاً، الذي يعتمد على حالة الصراع بين فكرة الحياة وفكرة الموت أو الاستشهاد من أجل بلوغ الجنة، في حين جاءت في مواضع أخرى مناسبة ومتجانسة مع المحتوى الدرامي العام للعرض.
كانت الإضاءة موفقة بالعرض، حيث عبرت بصدق عن حالة الغموض والمجهول الذي يسعى إليه الشباب المقاتل، بينما عبرت في مواضع أخرى عن الشر والأهداف التدميرية التي يسعى إلى تحقيقها الصباح، وكذلك حالة الصراع السياسي في الداخل وتربص الأجنبي لينقض على البلاد وسط كل هذه البلبلة الداخلية، وذلك دون اللعب بالضوء والظل كثيراً، حتى أن المشاهد كان يشعر بحالة الظلام الذي يشوبه الضوء الخافت الخانق والكئيب دون أن يلاحظ التغيير الذي يحدث مع كل مشهد، فجاء تغيير الإضاءة وفقاً لطبيعة كل مشهد انسيابياً دون ضجة غير مريحة للعين.
من بروفات العرض 

الديكور كان ثابتاً أيضاً، حيث القلعة على جانبي خشبة المسرح، وسلالم تؤدي إلى مساحة مسرحية عليا يتغير عليها المشاهد الخاصة برجال السياسة والذي رمزوا لعملية الصراع السياسي وكونهم أهدافاً للاغتيال، بينما كانت هناك شاشة تغطي خلفية المسرح كله يظهر عليها العرض مُصوراً في تسجيل سابق، ومن المفترض أن تتناغم الحركة على المسرح مع الحركة المسجلة والمعروضة عبر الشاشة، وهو ما لم يحدث في الكثير من المشاهد، ما يجعلنا نتساءل عن السبب الدرامي الذي تم من أجله استخدام هذه الشاشة؟ فهي لم تقدم شيئاً تكميلياً للأحداث المسرحية الراقصة، وجاء استخدامها معيقاً لعملية التوحد الكامل مع العرض الدائر على الخشبة، فكانت عنصراً بعث على التشتت، حتى أنني لجأت إلى تَعمُد تجاهلها طوال العرض كي أركز مع العرض أكثر.
لم يُقدم عنتر في مسرحيته عملية الاغتيال بشكل صريح واكتفى بالترميز لها، لينتهي العرض جامعاً عناصره الدرامية القائمة على الصراع بين الحب والحياة والموت من أجل جنة مُلفَقة، لكن الغريب حقاً اننا فوجئنا بمشهد ختامي صوفي لعرض تنورة وهو ما كان دخيلاً بالفعل على العرض وخارج السياق تماماً، لينتهي العرض بشكل يشذ عن المسار العام للأحداث الراقصة.

في النهاية لا يمكننا إنكار أن العرض كان ممتعاً بشكل عام، وجامعاً لكافة عناصر الكريوجراف الناجح في التعبير بصدق عن الأحداث، فكان التواصل بين المشاهدين والأحداث التي شملت الصراع والحب قوياً وبليغاً. 
المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 10 أكتوبر 2017