الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

صحراء منهاتن .. رواية تسطر بحرفية تداعيات حقبة التسعينيات وتراهن على الزمن

(صحراء منهاتن) رواية صدرت عن دار الدار في أول هذا العام 2017، للكاتب أيمن نيازي، الذي فيما يبدو وضع فيها تجربته الأدبية كاملة، حيث أنه ينتمي إلى جيل التسعينيات، لكنه لم يخض غمار الكتابة الروائية قبلها، ووفقاً له؛ فهي قد احتاجت إلى ثلاث سنوات حتى ينتهي من الكتابة الأخيرة لها.

تعتبر هذه الرواية من الروايات القليلة جداً لحد الندرة، التي تتناول فترة التحولات السياسية والاقتصادية العالمية، والتي بالطبع أثرت على الواقع العربي، وفرضت آليات جديدة للتعامل مع قضاياه العروبية، وبالطبع القضية المحورية التي تكاد أن تكون أزلية الآن ( القضية الفلسطينية)، ومنذ ذلك التحول الاجتماعي العربي من مدني حداثي إلى أصولي ديني، مع ظهور وتصاعد قوي الإسلام السياسي في السبعينيات التي دَيَنَت القضايا العربية التحررية، وحولتها من التحرر من الاستعمار الأجنبي للوطن، إلى التحرر من السيطرة الصليبية أو ( النصرانية الغربية) للبلاد والشعوب الإنسانية.
لم يغرق أيمن نيازي في أسر النقاش السياسي على حساب الدراما في الرواية، بل استطاع بمهارة تُحسب له أن يضفر التاريخ السياسي لتلك الحقبة التاريخية القريبة مع الأحداث الدرامية والشخوص ما بين أبطال وأشخاص ثانوية. ولا يمكن لقارئ الرواية أن يشعر أبداً أنه وقع في فخ المعلومات الغزيرة التي تقدمها الرواية، أو يرتبك في الربط ما بين تلك الأحداث وعلاقتها بالأبطال، فالدراما في الرواية بدأت من الصفحة الأولى وبدأ معها السرد المعلوماتي أيضاً، بحيث سارت الأحداث السياسية مع سير الشخصيات الروائية في خطين متشابكين طوال العمل، ليجد القارئ نفسه مع آخر صفحة أنه قرأ كتابين متعانقين بدلاً من كتاب واحد، الأول تاريخي سياسي لأحداث المنطقة منذ السبعينيات مع التركيز بالطبع على عقد التسعينيات، والثاني حكاية الأبطال أو الشخصيات المحورية في "صحراء منهاتن" أمل وحازم وبطل الرواية أو السارد الرئيسي فيها، الثلاثة الذين يمثلون جيل التسعينيات بالرواية، والذين كانوا انعكاساً حقيقياً لتأثير معركة قتل الوطنية العروبية طوال عشرين عاماً سابقة على مرحلة شبابهم (السبعينيات والثمانينيات).
لا يفرد أيمن نيازي أو يغرق في تفاصيل الأحداث التي مرت على جيل الآباء للشخصيات المحورية باعتبارهم سبباً رئيسياً في تحركات وتوجهات الثلاثة، لكن برشاقة ملحوظة في السرد والقفز ما بين الأحداث التي شملت عقوداً تصل إلى الأربعة، قدم خلفية سريعة لوالدي كل من حازم وطارق وأمل، وتمكن من بداية الرواية أن يغزل قماشة واسعة جداً يمكنه من خلالها أن يسرد تفاصيل كثيرة لأحداث مثيرة مع شخوص عديدة جداً، لا يمكن معها أن تتوه أو تفقد خيطاً بالدراما، بل على العكس ظهرت كل تلك الشخصيات وكأنها أبطال، وكانوا بالفعل فاعلين ومحركين للأحداث.
أنت مع أيمن نيازي في روايته الأولى "صحراء منهاتن" ستنتقل عبر البلاد من مصر إلى المملكة العربية السعودية إلى أفغانستان ثم السودان وفلسطين المحتلة وفلسطين السلطة وحماس والولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه سيأخذك إلى أماكن أخرى أيضاً بشكل خاطف وسريع مثل فييتنام، وكل ذلك دون تشتيت للقارئ، ودون أن تشعر أنك تهت في أحداث لا لزوم لها.
لا أدري لماذا اختار نيازي اسم "صحراء منهاتن" تحديداً للرواية، ولكن ربما لأن بطل الرواية أو السارد الرئيسي لها، الذي كان بطلاً مركزياً نرى من خلاله الأحداث، استقر في النهاية بالولايات المتحدة وتحديداً في نيويورك بحي منهاتن، وربما أيضاً لأن نيازي يطرح وبثقة فكرة أن الولايات المتحدة، سبباً رئيسياً وربما المسبب الوحيد لصناعة التطرف الديني الإسلامي، وبالتالي تدمير وضياع مصائر بلاد كثيرة بما فيها هي شخصياً مع تفجير برجي التجارة العالمين عام 2001.
يتعدد صوت الراوي في الرواية، رغم أن لدينا راوي رئيسي وهو البطل الرئيسي، العقل المفكر الوحيد في ثلاثي التسعينيات، فهو الوحيد الذي لم ينجر وراء الشعارات الدينية أو الوطنية دون تفكير، ومنذ طفولته وهو يبصر ما يحدث حوله بدقة ويترجمه إلى تحليلات منطقية ساعده عليها أمه الناصرية القومية المتعصبة ثم أشخاص آخرون كان آخرهم الدكتور جلال أستاذه في الجامعة الذي قدم له منحة دراسة الدكتوراة في نيويورك، لكن هناك أيضاً صوت آخر لراوٍ عليم بكل شئ، يحكي خلفيات وقصص الآخرين، وربما يكون هو نفسه "البطل" ولكن من الصعب الجزم بذلك، حيث أن "البطل الرئيسي" مثلاً لم يكن شاهداً على أحداث عشق الدادة لعدنان في رام الله عندما كانت في مراهقتها وهو لم يأت إلى الحياة بعد، أو يروي قصة العلاقة الثلاثية المشبوهة بين السيناتور وليام وديفيد اليهودي والزوجة العشيقة في نفس الوقت.
بذكاء شديد يقدم نيازي قناعاته بأن التطرف الديني ليس إسلامياً فقط، بل هو مسيحي ويهودي أيضاً، ويقدم دلائلة من خلال الدراما على أن التطرف الإسلامي كان ومازال الأعلى صوتاً في العالم لأن أمريكا والقوى الغربية يدعمونه بالمال والسلاح لتحقيق أهدافهم سواء في المنطقة العربية أو في بلاد أخرى مثل أفغانستان للقضاء على التواجد الروسي هناك.
ومن اللافت للنظر أيضاً أنه لم يغفل إلقاء الضوء على سيطرة الرجل الأنجلوسكسوني الأبيض على مقدرات العالم الاقتصادية والسياسية منذ الاستعمار الأوروبي للمنطقة والعالم بداية من القرن الثامن عشر، والذي مازال مستمراً وممتداً وتتحرك بإرادته كل مصائر الكرة الأرضية حتى الآن، مع الإشارة البسيطة لأن عالم هذا الرجل الأبيض على وشك أن ينهار بإفصاحه في نهاية الرواية لأن ابن السيناتور وليام هو الابن الطبيعي لعشيق زوجته اليهودي، وكذلك بقرار توم الابن أن يتزوج من الفتاة الفيتنامية التي يحبها رغم عن إرادة والده الذي قالها صراحة؛ بأنه يمكنه العبث مع الفييتنامية لكن عند الزواج يجب أن يتزوج من كاثوليكية بيضاء.
ما بين جهاد حازم الذي وقع في براثن الجهاديين منذ دراسته في الجامعة، فأمضى حياته بين أفغانستان والسودان واليمن ثم أمريكا في النهاية لتفجير البرجين، وبين أمل ابنة القيادي في حماس حسن الزهار والسيدة المصرية المنحدرة من أصول أريستوقراطية زائلة، والمتخبطة بين الاسلامية والعروبية لفلسطين، وبين "البطل الرئيسي" الذي اختار ألا يكون فريسة لكل هؤلاء حتى والده الذي وقع أسير الحياة الرغدة بالعمل في الخليج وأمه التي ظلت متشبثة بعشقها لعبدالناصر وفكره القومي، نتنقل بين أحداث الرواية، التي تسطر نهاية درامية متميزة جداً، فبرشاقة يُحسد عليها فعلاً أنهى خيوط روايته المتشابكة بالشخصيات والأحداث في أربع صفحات فقط، حيث وضع نهاية لكل الأبطال بالرواية بما فيها الشخصيات الفرعية، بالتنقل بينهم جميعاً ورسم نهاية مصائرهم، كنوع من الهذيان وكأنه يعلن بصوت صارخ في الوجوه موت أوطاننا، والعبث الذي نعيشه الآن دون معنىً مفهوم لقيمة وجودنا على أرض لم نعد نعرف؛ هل هي أوطاننا فعلاً؟ أم أوطان الغرباء؟

رواية " صحراء منهاتن" رواية تستحق القراءة عن جدارة، فبين الكثير من الأعمال الأدبية التي تعبر دون أن تترك أثراً، يقف أيمن نيازي بروايته الأولى الناضجة جداً، في مكان له وحده، مقدماً عملاً أدبياً  لن يغفله الزمن بالتأكيد. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق