الخميس، 18 يناير 2018

"الثامنة مساءً" مباراة مسرحية حامية يفوز بها الجمهور

بين الوهم والحقيقة وكيف يسجن الإنسان ذاته داخل الأوهام غافلاً عما بين يديه، تدور مسرحية "الثامنة مساء"، التي كتبتها ياسمين فراج عرابي بعذوبة لا تخرج إلا من  قلم أنثى تستطيع الدخول بين ثنايا التفاصيل الدقيقة للنفس البشرية.

اختارت ياسمين بيئة الصعيد مكاناً لتدور بها أحداث مسرحيتها، ربما لأن الصعيد حتى الآن مُغلق على عالمه الذي يمتد بعاداته وتقاليده لطبقات زمان ولى ولم يعد مناسباً لعصرنا الحالي، فأصبح يتقلب بين قشور الحاضر وأعماق الماضي، ليأتي العذاب البشري مناسباً تماماً لهذه الحالة من الوهم الذي لا يعرف للواقع المحيط به طريقاً.
الجذور التي ننشد إليها ونحن نبحث عن الخلاص منها، دون أن نبذل مجهوداً حقيقياً على الأرض، فنترك أنفسنا للضياع مستسلمين تماماً، بل ومتشبثين أيضاً.. هكذا دارت أحداث مسرحية "الثامنة مساءً"، التي كانت أقرب في الحوار المستخدم بين الأبطال إلى الدراما التلفزيونية من المسرحية.



تمكن المخرج هشام علي من القبض على خيوط الدراما، فاستطاع بحرفية مسرحية ذات رؤية تلفزيونية، أن يوهم المشاهد بأنه أمام شاشة عرض تلفزيونية، حيث تجتمع العائلة لمشاهدة مسلسل شديد التكثيف، وذلك بسلاسة مبهرة حيث استطاع أن يلعب بالإضاءة التي أشرف عليها كل من طارق عليان ومحمد عشري وأحمد فرج، فانتقل بين فكرة التركيز على المشاهد الفردية من خلال بقعة الضوء المتحركة، وفكرة التركيز على جزء من المسرح لتقديم مشهد بين اثنين داخل الفضاء المسرحي المظلم، فكان الانتقال من مشهد لآخر سريعاً وسلساً لا يفصل المشاهد عن متابعة الأحداث، بل ويوحي بأنها مشاهد فيديو مُمنتجة باحتراف.

نجحت المؤلفة والمخرج في تقديم الأحداث بشكل لا يبعث على الملل، حيث جاءت أحداث المسرحية مكثفة دون إخلال بعمق تفاصيل الفكرة، فخرجت المسرحية في شكل وجبة دسمة من الدراما الإنسانية الدافئة، والمُعَذِبة أيضاً، فلا يمكن أن لا تلمس حكاية "الثامنة مساءً" شيئاً ما داخل كل إنسان، حيث أننا جميعاً لدى كل واحد منا وهم يعيش داخل سجنه ولا يستطيع الفرار منه حتى يأكله تماماً أو يتمكن من التصالح مع فكرة التعايش معه، وقليلون هم من يستطيعون كسر حوائط السجن الصلبة لينجون بأرواحهم محلقين إلى فضاء الحقيقة والواقع.


بدأت المسرحية بقصائد شعرية عامية كتبها وأداها بصوته الشاعر عبد الله حسن، حيث قُدمت من خلال شاشة صغيرة في أعلى ديكور المسرح، احتوت على رسوم زيتية وديجيتال لحنان مجدي وأحمد أبو عقرب، كما تخللت أيضاً أحداث المسرحية كنوع من الفصل بين الأحداث، أو لتهيئة المشاهد للنقلة الدرامية التالية، فخرجت موفقة إلى حد كبير في قدرتها على تعميق الاندماج مع محتوى القصة، والتي لعب أدوارها مجموعة من الفنانين الكبار سواء من حيث تاريخهم الفني أو قدرتهم التمثيلية المتميزة.

ربما استطاع الفنان محمد عبد العظيم أن يثبت بأدائه أنه بالفعل الشخصية المحورية بالمسرحية، فلقد استطاع هذا الفنان القدير أن يتلاعب بحرفية بمشاعر المشاهدين، وإصابتهم بالحيرة، حيث لا يدري المشاهد إن كان عليه أن يكره هذه الشخصية أو يتعاطف معها. كانت قدرة عبد العظيم على التقلب بأدائه بين الجبروت والضعف من خلال أدائه الصوتي وتعبيرات وجهه وجسده موحية وملهمة، واستطاع أن يعيد إليّ ذكرى الفنان الراحل عبد الله غيث الذي كان يلتهم المسرح بجبروته المسرحي، ويخرج من كواليس خشبة المسرح وهو فائز بضحكات ودموع المشاهدين، وهذا ما فعله بالحرف الأستاذ الكبير محمد عبد العظيم الذي أخرج بيديه الآهات من قلوب المشاهدين، وكتم أيضاً انفعالهم وخوفهم وحيرتهم لتخرج من بين مآقيهم دموعا.


الفنانة القديرة وفاء الحكيم، لم تكن مفاجأة العرض، فهي ملكة المسرح بلا منازع منذ سنين طويلة وكان أداءها الرفيع تكملة لمشوارها المسرحي المٌلهم في عصر يفر فيه الممثلون نحو نجومية السينما والتلفزيون. إن وفاء تمتلك الساحة المسرحية وتعرف خطواتها جيداً عليها. حيث استطاعت بسهولة ممتنعة أن تحتكر عيون المشاهدين وتكسبهم لقضية شخصيتها، فهذه الزوجة المكلوم قلبها ورغم أنها خططت لقتل زوجها مثل الجميع، لم تستطع في النهاية سوى أن تكون الصدر الذي يتلقاه جثة هامدة وهي تحاول رغم كل شئ أن تُعيده إلى الحياة وإليها. فبين دهاء المرأة المطعونة بخنجر الخيانة وبين الزوجة المٌحبة لزوجها أوقعت وفاء الحكيم المشاهدين في حبائلها، فزادت حيرتهم حيرة جديدة، فاشتعلت المباراة بينها وبين محمد عبد العظيم ليخرج الجمهور موجوعاً وفائزاً في النهاية.

الفنانة الشابة لمياء كرم، كانت مفاجأة العرض بالفعل حيث اكتشفت شخصياً فنانة مسرحية موهوبة تستطيع أن تستدرج مشاهديها بخفة للوقوع في شرك الشخصية التي تتقلب بين العجز والأنوثة الطاغية والشر، فاستطاعت بالفعل أن تلعب ثلاثة أدوار مختلفة داخل عباءة شخصية واحدة، وتمكنت من تجسيد نفسية كل شخصية بحرفية عالية.

الثامنة مساءً من كل يوم هو موعد تنفيذ خطة الانتقام .. لكن يا ترى من سينتقم ممن؟ هذه هي اللعبة المسرحية التي تلعبها علينا ياسمين فرج عرابي، فكلنا بلا استثناء لدينا أسباب للانتقام، وكلنا لدينا خرائط معقدة للوجع، لكن من منا سيتمكن من القفز فوق خريطة أوجاعه لينجو؟ ومن سيظل مجاوراً للوجع يجتره ويعيد مضغه، ومن سيلتقط الخنجر أولاً ليزرعه في ظهر من؟

بيت جحا الذي لا أبواب له سوى باب واحد لا يعرف الوصول إليه إلا قليلون.. فهل أنت واحد من القلة؟ .. أعتقد تماماً أن مشاهدة هذه المسرحية ستساعدنا على الإجابة. 
نُشرت المقالة في جريدة القاهرة بتاريخ 16 يناير 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق