السبت، 21 يوليو 2018

"كوميديا البؤساء" ... الوصول للجمهور من خلال دراما مسرحية بسيطة





لا يمكن بأي حال من الأحوال، التعامل مع مسرحية (كوميديا البؤساء) بأي شئ من الفلسفة في نقد وتحليل مكوناتها المسرحية، فهي ببساطة مسرحية استعراضية شعبية خفيفة تسعى إلى الترفيه عن المشاهد مع تقديم رسالة محبة وتفاؤل، دون أي نوع من أنواع التقعير سواء على مستوى النص المسرحي أوالإخراج.
لكن هذا لا يعني أننا بصدد مسرحية تافهة، فبساطة التناول الواضحة في (كوميديا البؤساء) ربما تكون نقطة قوة لديها وليست نقطة ضعف، فمشاهدة تفاعل الجمهور مع أحداث المسرحية وأداء الممثلين والراقصين الحيوي على خشبة المسرح، لا يفصح بغير نجاح هذه المسرحية البسيطة في توصيل رسالتها والتي تبدو مباشرة كثيراً، حيث نسمعها من الممثلين في بعض الأحيان في شكل جمل موجهة بوضوح.

"كوميديا البؤساء" تقدم دعوة للتفاؤل والصبر، والأمل في أن الحياة لا يمكن أن تكون بائسة طوال الوقت لو كان لدينا العزيمة والإصرار على النجاح، ولو فكرنا بعقلنا جيداً وأدرنا حياتنا بشكل منظم دون أن نلعب دور رد الفعل دائما لكل ما يحدث حولنا، فنفقد كل  مكتساباتنا ونفقد أيضاً أنفسنا وقدرتنا على السعادة.


في رأيي لم يلعب الاقتباس من "البؤساء" لفيكتور هوجو دوراً محورياً في نص المسرحية والدراما الخاصة بها، فقد كان من الممكن ببساطة بناء نص المسرحية وتقديم رسالتها دون اللجوء إلى استعارة شخصية جان فالجان واللعب على تيمة الشمعدانات الفضية التي سرقها من أسقف المدينة، الذي تظاهر أمام الشرطة بأنه أعطاها له. ربما رغبت المخرجة والمؤلفة مروة رضوان باستعانتها بالرواية العالمية الشهيرة، أن تقول أنه لا يمكن أن تكون الحياة بكل هذا البؤس وأن يعيش الانسان طوال عمره تعيسا رغم كل محاولاته للتخلص من الحظ السيئ، لكن في الحقيقة من الصعب أن نُسقط حياتنا الآن في القرن الواحد والعشرين على بؤس اللحظة التاريخية التي عاشتها فرنسا في القرن التاسع عشر والتي على أثرها كتب فيكتور هوجو روايته  ملقياً الضوء على الطبقات المهمشة التي لم تكن الإنسانية كاملة  في كل أرجاء الأرض تهتم لهم في ذلك الزمان.


من خلال ديكور لأحد الشوارع التي يعيش فيها مجموعة من البشر الذين يعانون الحظ العثر في حياتهم ويحتفلون ببؤسهم سنوياً، تظهر شخصية جان فالجان، فنبدأ في التعرف بشكل مباشر على الشخصية المقتبسة من "البؤساء" من خلال شاشة عرض تتوسط خلفية المسرح تعرض ملخصاً للقصة الأصلية بالاستعانة بمشاهد من الفيلم البريطاني الذي تم إنتاجه عام 2012 والمقتبس عن المسرحية الموسيقية التي تحمل نفس الاسم للكتاب آلان بوبليل وكلود ميشيل شونبيرج وهربرت كريتزمر، والتي بدورها مقتبسة عن الرواية الفرنسية الأصلية للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو،  مع أغنية تحكي حكايته.

بعدها نعود إلى الشارع بناسه، الذين يتذكرون جان فالجان بعد أن أنساهم بؤسهم الدائم  أنه كان واحداً منهم. تنتقل بنا المسرحية بعد ذلك بصيغة الفلاش باك السينمائية لتحكي حكايته مع الشارع ومع حبيبته التي تلعب دورها الفنانة رنا سماحة، ومحاولاته الدائمة للخروج من  أزماته، ومحاولاته هو نفسه لمساعدة أهل الشارع للخروج من بؤسهم في مواجهة الشخصية الشريرة في المسرحية، والتي تم رسم أبعادها الشيطانية بشكل درامي مباشر واضح الخطوط.


الاستعراضات والغناء في المسرحية كانا الأكثر بهجة على الإطلاق، فمن خلال تابلوهات راقصة تتميز بحركات حديثة وممتعة نجحت في رسمها المصممة رشا مجدي، قدم أفراد الفرقة الاستعراضية أداءً انسيابياً منضبطاً يوحي بحرفية الراقصين العالية، ما ساهم في جذب أنظار الجمهور، لدرجة أننا جميعاً كنا ننتظر عروضهم التي تخللت العرض بفارغ الصبر لنحصل على أكثر عناصر المسرحية إمتاعاً، فليس من الشائع الآن في مسرحنا المعاصر أن نشاهد أداءً راقصاً احترافياً بهذا المستوى الرفيع، ما جعلني بشكل شخصي أتمنى أن نعود بمثل هذه العناصر إلى تقديم الأوبريتات بكثافة على خشبة المسرح المصري، بعد ما اعتدنا على (الهرجلة) والأوزان الثقيلة وسلمنا بها كأمر واقع مأساوي.


للأسف الشديد لم نشاهد مباراة تمثيلية بين أبطال العرض، فقد جاء الأداء التمثيلي اعتيادياً لا يحمل أي نوع من أنواع الإبهار، وربما ساهمت بساطة النص في ذلك، حيث لم يشعر الفنانون بأنهم في مباراة تمثيلية تتطلب منهم فرد عضلاتهم التمثيلية، وإن كان رامي الطمباري الذي لعب دور شرير العمل، قد تفوق بأدائه على زملائه، ربما لما أعطاه له دوره من مساحات لتنويع الأداء وإخراج مهارات فنية مختلفة.

تبهرنا الأستاذة الكبيرة نعيمة العجمي مرة أخرى في تصميمها للأزياء، والتي جاءت موحية ومعبرة بشكل كبير عن شخصيات العمل والروح العامة للنص، كما ساهمت الأزياء بشكل كبير في شرح أبعاد الشخصيات للجمهور وأضفت على كل شخصية جواً خاصة مميزاً لها، وهذا أمر ليس بالمستغرب أو الجديد على قامة مثل نعيمة العجمي عاشقة المسرح الكبيرة.


استطاعت المخرجة والمؤلفة مروة رضوان أن توظف أدواتها المسرحية بشكل جيد، كما تمكنت من تقديم صيغة الإمتاع للجمهور بتنظيم حركة الممثلين في الفضاء المسرحي، وتمازجهم مع أعضاء الفرقة الاستعراضية، كما أن فناني العرض أبدوا قدرات متميزة في المشاركة بالاستعراضات، فجاءت المسرحية ككل  منضبطة، بحيث لا يمكن أن يشعر المشاهد بأي فوضى على خشبة المسرح، بل سيمترية الأداء التمثيلي وتحريك الديكور في كثير من المشاهد، جاءت منظمة جداً، ما ساهم في اندماج الجمهور الكلي مع الأحداث وتفاعلهم مع الممثلين الذين تميزوا رغم أي شئ باندماجهم الكلي مع النص.


يمكن اعتبار مسرحية "كوميديا البؤساء" واحدة من مسرحيات البوليفارد الناجحة على الساحة المسرحية المصرية الآن، وهي تدل على أن البيت الفني للمسرح، وعى جيداً أهمية تنويع ما يقدمه من مسرحيات بحيث يجذب جميع أطياف الشعب ويعيدهم مرة أخرى إلى مقاعد الجماهير أمام خشبة المسرح.

نُشر المقال بجريدة القاهرة بتاريخ 17 يوليو 2-18

السبت، 7 يوليو 2018

"يوم معتدل جداً" ... لعبة مسرحية شيقة تأخذ الجمهور في رحلة من المرح




"يوم معتدل جداَ" مسرحية تستطيع أن تحول مزاجك من العكر إلى السعيد، فهي لا تتفذلك كثيراُ في تقديم فكرة فلسفية تُناقش أبعاداً إنسانية من خلال آليات العمل المسرحي بقدر ما تقدم لعبة مبتكرة تأخذ المشاهد في مراحلها ليتصاعد المرح تدريجياً من خلال رؤية مسرحية مسلية وشيقة تبعث على البهجة.


لا تدور المسرحية حول حكاية عميقة تدعو إلى التفكير بقدر ما تقدم حدوتة بسيطة لشاب يكدح في الحياة بتنفيذ كل ما هو مطلوب منه في المجتمع ليحظى بما هو بسيط وإنساني، بعض من الراحة المنزلية والحصول على الفتاة التي يحبها وشارع هادئ يتحرك فيه نحو عمله وبعض من التسلية مع الأصدقاء على المقهى، لكن "معتدل" وهو اسم البطل، رغم تخليه عن أي رغبة داخله في الجموح والانطلاق مثل باقي الشباب واتباع المنهج الروتيني في الحياة ليفوز بما هو عادي، لا يلقى سوى العثرات والهزائم.
تدور المسرحية في يوم واحد يمضيه معتدل، لكن عكس اسمه تماماً يمر عليه اليوم بأبعد ما يكون عن الاعتدال، حيث كل شئ يعانده ويعكر صفوه في البيت وفي الشارع وحتى مع حبيبته، فيقرر الذهاب إلى صديق لديه يعمل في أحد محال الملابس الجاهزة ليشكو إليه همومه، وهنا تبدأ اللعبة التي كتبها باحتراف كل من سامح بسيوني وسامح عثمان، وكتب أشعارها سامح عثمان، بينما أخرجها سامح بسيوني، من خلال ورشة ارتجال مسرحي استمرت ستة أشهر تقدم لها 150 شاباً وأختير منهم ثلاثين شاركوا في العمل كأول تجربة لهم على خشبة مسرح الدولة.

يتصدر بطولة اللعبة أيضاً مهندس الديكور وائل عبدالله الذي استطاع أن يبتكر ديكوراً مُلفتاً ليعبر عن محل الملابس الذي يتم تطويعه بتحريكات بسيطة لقطع مسرحية قليلة ليعبر عن الشارع ومنزل والد معتدل ومنزل عروستة، وبالتالي يتماهى الديكور في رشاقته مع رشاقة محتوى العرض نفسه، وكذلك فإن ميما محمد استطاعت أن تبتكر أزياءً موحية بالحدث الذي يتحرك للخلف فيعتدل يوم معتدل السيئ، فكل قطعة ملابس في العرض عبرت بشكل هزلي أو بمعنى أكثر اقتراباً، بشكل ساخر عن كوميديا عصرنا السوداء والتي نعيشها يومياً لتصبح أمراً عادياً، يثير غضبنا لكن لا نفعل حياله شئ، من باب أن كل هذا أصبح من مقتضيات العصر. الملابس أيضاً لم تخلوا من البهجة، فبإمكان الممثل أن يثير الضحك في الصالة من خلال ملابسه ودون أن يحرك شفتيه بأي جملة، وهذا ما رأيته عبقرياً في التصميم.


امتازت مسرحية " يوم معتدل جداً" كذلك بالحركة، فالمخرج استطاع أن يعبئ الفضاء المسرحي دون مبالغة أو زحام، بل جاءت الحركة المسرحية الغنية ممتعة ومسلية وفي نفس الوقت لا يمكن أن تخطئها أو لا تلحظها عين المشاهد، فمن فرط مرحها وحيويتها تشد عين الجمهور لها، فلا تصيبة أي حالة من الملل وبالتالي لا تضيع منه أي ملمح من ملامح المسرحية العامة أو تفاصيلها. ولا يمكننا هنا أن نغفل براعة الممثلين الذي أدهشونا كونهم مبتدئين ويواجهون الجمهور لأول مرة، فلقد استطاعوا الجمع بين الاحترافية في الأداء والرونق الشبابي المبهج، حيث استطاعوا باقتدار أن يؤدوا الحركة المسرحية رغم صعوبتها في بعض الأحيان، على أكمل وجه، فمن ضمن تفاصيل الأحداث المسرحية، وجود جنية صغيرة تظهر في حياة معتدل وهو نائم، وتقوم بـ "عدل" وقائع أحداث حياته من سيئة إلى جيدة، وبالتالي يقوم المخرج سامح بسيوني بابتكار حركة مسرحية أشبه بشريط الفيديو عندما نقوم بإرجاعه من النهاية إلى البداية، وهنا نجد الممثلين الذين شاركوا في مشهد يعبر عن حدث مؤلم في حياة معتدل، ينفذون نفس حركات هذا المشهد ولكن إلى الخلف وحتى يتوقفون عند بدايته لإعادة تمثيله ولكن هذه المرة في صالح "معتدل".


لم يتوقف سامح بسيوني عن اللعب المسرحي عند هذا الحد، فهو لم يرغب في أن تنتهي مسرحيته نهاية اعتيادية بإسدال الستار أو إطفاء الأنوار ليظهر أبطار المسرحية بعد ذلك تباعاً وفقاً لدورهم لتحية الجمهور، ولكننا فوجئنا ببطل المسرحية الذي لعب دور معتدل ينزل إلى المساحة الفارغة بين مقاعد الجمهور وخشبة المسرح، حيث يجلس على طاولة أمام امرأة ناداها باسم عمته وهي تقوم بخرط الملوخية، ليقص عليها مصائر أبطال العرض ولكن بأسمائهم الحقيقية ليبدأ كل واحد منهم في الظهور وتحية الجمهور، وبعدها يصعد هو ليحيي جمهوره، ثم يهبط الجميع وهم يغنون أغنية "سلفي" التي تدعو إلى التفاؤل والبهجة ويبدأون في التقاط صور السلفي مع الجهور.


لا يمكنني أن أطلق على "يوم معتدل جداً" سوى تعبير (لعبة مسرحية)، فهي فعلاً لعبة كسرت قوالب المسرح المعتادة، وحتى قوالب المسرح الذي يسمي نفسه تجريبياً، فمن خلال تقاليد مسرحية معتادة وقصة بسيطة جداً وحوار أكثر بساطة، قدم بسيوني وكل من عملوا معه، لغة مسرحية جديدة جمعت بين عناصر المسرح الكوميدي التقليدي، وعناصر المسرح البريختي الذي يلتحم مع الجمهور ويناقشه في أحواله، فبزغت هنا اللعبة الجديدة التي جمعت بين الصورة المسرحية والسينمائية في رشاقة مبهجة، قدمت متعة مسرحية جديدة ومتميزة.
تٌعرض المسرحية على مسرح أوبرا ملك بشارع نجيب الريحاني المتفرع من شارع عماد الدين.


 نُشر المقال بجريدة القاهرة بتاريخ 3 يوليو 2018