الاثنين، 13 مايو 2019

"يعيش أهل بلدي" مسرحية كوميدية سياسية تناقش الحالة المصرية دون خطابة





في إطار كوميدي، يقدم المؤلف محمد بغدادي تشريحاً سياسياً مشوقاً للحالة المصرية، ودون أن يسقط في هوة الجدل أو النقاشات المطولة، وربما استطاع أن يخرج عن دائرة الخطابات المباشرة الفجة وإن لم تغب تماماً عن مسرحية "يعيش أهل بلدي".  
يناقش بغدادي قضية العصر بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والمصرية بشكل خاص، حيث يغيب الصوت الحقيقي للشعب وسط ضجيج المنتفعين والمؤدلجين سياسياً والمتطرفين دينياً والمحتكرين للأسواق وغيرهم ممن يتصدرون الصورة دائماً، فيشوشون على رؤية الحاكم أو يستدرجونه إلى مناطق منافعهم خوفاً من فقد كرسي الحكم أو طمعاً فيه دون أدنى رغبة أو فعل حقيقي يصب في مصلحة الوطن وأهله من الأغلبية الشعبية والمعروفة سياسياً بطبقة المهمشين، هؤلاء الذي تُقطع ألسنتهم كي لا تظهر الحقيقة وتُشل أيديهم عن الإصلاح، فيبقى الحال ثابتاً للأبد ويظل المحتكرون للبلد رابضين على أنفاسه مهما طال الزمن، فهم لا يموتون أبداً مثلماً أوضح بغدادي بذكاء شديد في الدراما التي قدمها.

يستخدم المؤلف قصيدة "يعيش أهل بلدي" لأحمد فؤاد نجم والتي لحنها وغناها الشيخ إمام عيسى كإطار لرؤيته السياسية في المسرحية، حيث الحاكم الجديد يصر على أن يشكل مجلساً وطنياً من ممثلي طوائف الشعب المختلفة مستعيناً بمساعده الذي ورثه من تركة الحاكم السابق، لكنه لا يقابل سوى المنتفعين وأصحاب المصالح على اختلاف توجهاتهم وأشكالهم، وهنا نجد التفصيل لأبيات القصيدة، حيث المثقفين أصحاب الكلمات الرنانة والخطابات المفوهة والتي لا علاقة لها بحقيقة الشارع وآماله وطموحاته، ورجال الأعمال الذين لا يحملون أي رؤية اقتصادية وطنية، لكنهم مع ذلك يتحكمون في كل موارد البلد ويستخدمونها لتحقيق مكاسب كبيرة وسريعة تعود بالنفع عليهم وحدهم. يقابل أيضاً "ولاد الرايقة" أو تلك الطبقة التي يمكن وصفها بالعاطلين بالوراثة، والذين لا ينتمون فعلياً إلى البلد ولا يعرفون عنها شيئاً ليستمتعوا بحياتهم دون أدنى اهتمام بأي شئ يدور حولهم، وكذلك هوامير الروتين الذين يتحكمون في البرلمان والقوانين فيقتلون أي فرصة للتغيير، ثم طائفة المتشددين دينيا الذين يهدمون فكرة الوطن من أساسها.


تظل صورة الحاكم المعلقة في مكتبه وغرفة الاجتماعات تتناقص تدريجياً بعد مقابلة كل طائفة شعبية مزيفة، ليظل وحده في الصورة مع الشعب الحقيقي الذي يتصدر المشهد خلفه مع هؤلاء المثقفين الشعبيين إن صح التعبير، الذين يعرفون جيداً آلام وطنهم ويمتلكون العلاج الصحيح، لكنهم دائماً ما كان يتم استبعادهم من الصورة.


ملحمة وطنية صيغت برهافة حس عالية ووضعت في إطار كوميدي بعيد عن المغالاة والإفيهات المزعجة، استطاع المخرج عاصم نجاتي أن يؤولها إخراجياً باحتراف ودون أن ينحو بها إلى أي شكل غرائبي لاستعراض العضلات، فلقد سمح لنا بمشاهدة مسرحية ذكرتنا بالمسرحيات الخالدة التي تحمل الكلمة والمتعة البصرية، فلقد استعان بالمسرح الدوار مقسماً إياه إلى ثلاثة أقسام، قسم يمثل غرفة المكتب وقسم لغرفة الاجتماعات وغرفة لكرسي الحكم الذي يبدأ به أحداث المسرحية، وبالتالي يتم الانتقال بين مشاهد المسرحية في سلاسة ودون استخدام "الإظلام" كثيراً لتغيير قطع الديكور أو دخول وخروج الممثلين.


كان اختيار نجاتي لمجموعة الممثلين بالمسرحية موفقاً جداً، فلقد تألق النجم أحمد سلامة في تأدية دور الحاكم، ما يشكل إضافة كبيرة لرصيده الفني، حيث الثبات في الحركة وصياغة الأداء باحترافية بعيداً عن الاستسهال في نسخ الشخصية من أعمال كثيرة سابقة قدمت أبعاداً مشابهة لشكل الحاكم، حيث يمزج في أدائه بين وقار شخصية الرئيس وبين شعبويته، فهو يملك مواصفات الحكمة والذكاء ولكنه لا يعدم بساطته التي تنبع من انتمائه لوطنه.


أما النجمة انتصار فقد أبدعت في دورها المتعدد الوجوه الذي لعبته، وأعادت به تأكيد حرفيتها كفنانة مسرحية أصيلة، قادرة على مواجهة الجمهور والتفاعل معه، كما أن مسرحية "يعيش أهل بلدي" قدمت لها الفرصة لتلعب بوجوهها الأدائية كيفما شاءت، فهي مدعية الثقافة وهي سيدة الأعمال الجشعة وهي المتشددة دينيا وهي موظفة الحكومة الروتينية المنتفعة والفتاة العابثة المدللة وهي الاقتصادية المتلاعبة. وجوه متعددة نحتتها انتصار بدقة وبذلت معها مجهوداً كبيراً يستحق الثناء، فلقد كانت تغير الشخصيات بملابسها واكسسواراتها في وقت قليل جداً دون أن يبدو عليها أي تشتت ما يؤكد قدراتها الأدائية كممثلة لم تركن إلى ما حققته من نجومية وتتطلع إلى المزيد.
أما الفنان محمد رضوان الذي لعب دور مساعد الحاكم، فنستطيع أن نلقبه بفاكهة المسرحية، فهو يمتلك قدرات كوميدية شديدة الشفافية وبعيدة تماماً عن أي ابتذال في محاولة لاستدراج الضحك من أفواه الجماهير، كما أنه يتمتع بلياقة وقدرات حركية مسرحية مبهحة تشد النظر نحوه بمجرد ظهوره على الخشبة.

لم يكن تصميم الاستعراضات بالمسرحية موفقاً للأسف، فلقد ركن محمد عبد الصبور إلى حركات معتادة وأصبحت مملة من كثرة تكرارها، كما أنها لم تتفق وأحداث المسرحية، إضافة إلى أن الراقصين أنفسهم لم يتمتعوا بالكفاءة المطلوبة وشعرت بثقل حركاتهم وأنا على مقاعد المتفرجين للأسف، رغم أن الموسيقار الكبير علي سعد قدم ألحاناً عذبة للأغاني التي ألفها محمد بغدادي، كانت لتتيح قماشة عريضة لتصميم رقصات إبداعية أكثر تعبيراً عن مضمون المسرحية.
في النهاية يمكننا اعتبار مسرحية "يعيش أهل بلدي" بداية موفقة لإعادة العروض الكبيرة والمتميزة للمسرح القومي بعد غياب طويل وهو ما يحسب لمديره الجديد الفنان أحمد شاكر عبد اللطيف.

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 7 مايو 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق