الأربعاء، 15 مايو 2019

المكان يلعب البطولة في عرض"الرجال لهم رؤوس" بعلبة ألوان





دائما ما تراودنا الأحلام بتحويل كل فضاء متاح إلى ساحة فنية، نقدم عليها كل أنواع الفنون، لنصل إلى كل الناس في كل مكان، فنخلق البديل للأفكار الظلامية والهدامة، بالأدب والفن، وهذا هو ما شعرت به في "علبة ألوان" بالزمالك، المركز الثقافي الخاص الذي قرر أن يضيف العروض المسرحية إلى أنشطته الثقافية والفنية المتنوعة، فكان "الرجال لهم رؤوس" هو باكورة عروضهم المسرحية، ما يجعلها انطلاقة قوية في هذا العالم، ساعدهم عليها بلا شك الدكتور علاء قوقة، الذي يلعب بطولة هذه المسرحية المنتجة من قبل المعهد العالي للفنون المسرحية والذي يعد أباً روحياً لها، حيث سافر بها في الفترة القريبة الماضية إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية مع الفنانة الشابة إيناس المصري ومهندس الديكور والمخرج محمود فؤاد صدقي محققين نجاحاً كبيراً، وهو ما يحسب له في دعم انتشار فن المسرح خارج أطره التقليدية المتعارف عليها.
ربما يلعب المكان هذه المرة دوراً ملحوظاً في تقديم مسرحية "الرجال لهم رؤوس" من تأليف الكاتب الكبير محمود دياب، حيث استطاع محمود فؤاد صدقي أن يستغل القاعة التي هي في الأصل صالة كبيرة داخل قصر من القصور التاريخية التي تشتهر بها منطقة الزمالك، مستخدماً قطع الأساس الموجودة في المكان بتكوين  صالة منزلية داخل حيز في آخر القاعة لتدور داخله الأحداث مع تعليق وحدة إضاءة في السقف إضافة إلى استغلاله لمصابيح الإضاءة العادية داخل الصالة، وهو ما لفت انتباهي بشدة طوال العرض، فلقد جلس صدقي على كرسي مرتفع القوائم، بجوار أزرار الإضاءة المثبتة في الحائط، ليلعب بالإضاءة وفقاً للأحداث باحترافية محسوبة أدت الغرض منها، فلم نشعر بأن خروجنا بعيداً عن خشبة المسرح التقليدية أثر سلباً على العرض، ولم لا؟ فمحمود يعشق تحطيم الحوائط الإيطالية ويفضل الغوص دائماً مع المشاهدين في عالم يشبه الواقع، متحدياً نفسه ومتجاسراً في المواجهة.
مقاعد الجمهور أيضاً أخذت شكلاً حداثياً أقرب إلى الطبيعي، فلقد جلس بعضنا على مقاعد خشبية والبعض الآخر جلسة على وسائد موزعة على الأرض أمام فضاء الأحداث، لا يفصل بيننا وبين بطلي العرض سوى خطوات قليلة ما جعلنا نتأثر بالأحداث ونتفاعل معها أكثر، ونحن نرى قطرات العرق التي تنساب على وجهيهما، بينما تصل أنفاسهما إلى مسامعنا ونشعر بكل خلجة من خلجات أدائهما النابض على جلودنا، وهو ما أضفى على المسرحية روحاً واقعية جعلتنا نشعر وكأننا نشاهد عرضاً حياً داخل دفئ المنزل.
قُدمت مسرحية "الرجال لهم رؤوس" كثيراً من قبل، سواء داخل مصر أو في مختلف البلاد العربية، ومازالت تُقدم برؤى إخراجية متنوعة، ولكن هذه النسخة التي يلعب بطولتها الفنان الدكتور علاء قوقة تتميز ببساطتها وقدرتها على الاقتراب من المشاهد، فلقد فكك قوقة شخصية الزوج ليخرجه من إطاره المحدد في الرجل ضعيف الشخصية الذي ينسحب بإرادته من كل المعارك رغم إدراكه التام لكافة أبعادها وخفياها، ويجبر المشاهد على التعاطف معه أو الاقتناع بوجهة نظره الانسحابية، فرغم أن محمود دياب يسقط شخص الجثة على الزوج ليجعلهما واحد، إلا أن قوقة ينجح في اللعب بالشخصية لتكون محببة لدى المتلقي، وبدلا من أن يسخر منها أو يتخذ موقفاً مضاداً لها، يتبنى قضيتها.
أما إيناس المصري التي لعبت دور الزوجة، فقد استطاعت أن تجسد باحتراف شخصية الزوجة العصابية التي فقدت صبرها مع زوجها المتخاذل دوماً، والذي يجد طوال الوقت أسباباً للانسحاب، لتشتعل جدلية الرجولة في مواجهة الإنسانية، وهل الرجل الحقيقي هو من تنعدم لديه الإنسانية ليكون مجرد مخلوق فظ يتعامل بدم بارد مع كل شئ بشع وقبيح؟
جدال ممتد بين الزوج والزوجة "قوقة والمصري" فيما يشبه المباراة الكلامية حتى يأتي الطرد الذي يحمل الجثة منزوعة الرأس، وهنا يصل الصراع بين الاثنين إلى ذروته في محاولة الوصول لصاحب الجثة وكيف يمكنهما التخلص منها، وهنا تنشأ فكرة علاقة الرأس بالرجل، فهل تكمن قوة الرجل في جسده الثقيل؟ أم أن قوته في رأسه؟ هذا الرأس الضائع الذي يأتي متأخراً بعد محاولات ساذجة من قبل الزوج للتخلص من الجثة أو إخفائها بطرق كوميدية تشعل غيظ زوجته، التي فاض كيلها من انهزاميته المستمرة.
رأس الجثة هي نفسها رأس الزوج، ولذلك عندما تستعيد الجثة رأسها يخرج الزوج ليبلغ الشرطة بعد أن قرر أخيراً أن يتخذ موقفاً شجاعاً واحداً في حياته، لكن الزوجة تعلن بعد خروجه أن بيتها الآن لم يعد يحتوي على جثث، وهنا يأتي السؤال: من الذين لهم رؤوس؟ الرجال أم النساء؟
نص مسرحي مثير للجدل بلا شك، فهو يترك المشاهد حائراً بين أصابع اتهام موجهة للزوجة وكأنها هي التي وقفت وراء كل ذلك للتخلص من زوجها الخانع أو المسالم، وبين الشعور بالفرح، لأنها تمكنت أخيراً من إقناع زوجها بأن يكون شجاعاً ويتخذ موقفاً إيجابياً لأول مرة في حياته.
نص حيوي متجدد أضفى عليه المكان هذه المرة دفئاً قربه من نفس المشاهدين، ما يجعلنا نتمنى أن يجد المسرح مكاناً في كل المساحات من حولنا، فهذه التجربة فتحت باباً يمكن للمسرح فيه أن يصل إلى الجميع دون حمل عبئ التفكير في ميزانية تأسيس مسرح، فنحن لا نحتاج إلى خشبة تقليدية أو ديكور مصنع خصيصاً للنص كي نشاهد مسرحاً، فقط علينا فتح كل المنافذ المتاحة لاستقبال العروض. 
المقال نشر في جريدة القاهرة بتاريخ 14 مايو 2019

هناك تعليق واحد:

  1. استمتعت بمشاهدة العرض مسجلا من اكاديمية الفنون واخراج ومشاركة في البطولة سماح السعيد ..وكنت اتمني مشاهدة العرض الجديد لكن ظروف تواجدي خارج مصر حالت دون ذلك ..اتمني الحصول علي فرصة لمشاهدة العرض الجديد ..تحياتي وكل عام وانت بخير دكتور علاء يا نجم وغول وبرنس المسرح المصري

    ردحذف