الأربعاء، 5 مايو 2010

النيل يحزم حقائبه في اتجاه إسرائيل

عندما قال هيرودوت " مصر هبة النيل" لم يخطئ، وإن كان انتقص بكلمته حق المصريين. لا أقصد المصريين المعاصرين، إنما أقصد هؤلاء المصريين الذين عاشوا يوماً ما على أرض مصر واحترموا النيل وقدسوه واستطاعوا بحسن استخدامه أن يشيدوا أهم حضارة شهدها الانسان بل أم الحضارات جميعاً. كان نهر النيل دائماً الشغل الشاغل للمصريين منذ مطلع التاريخ، عملوا دائماً على السيطرة على مجاريه حتى المنابع، وكان هذا الوعي يظهر بوضوح في تلك الأوقات التي تكون فيها مصر مركزاً لإمبراطورية كبيرة، أو في تلك الأوقات التي يتجدد فيها الطموح للإستقلال عن المركز. كما أن اهتمام المصريين بالنيل شمل الحرص دائماً على الحيلولة دون ظهور عوائق تمنع استمرار تدفقه إلى داخل مصر، ما أثر منذ البداية على طبيعة الدولة والكيان المصري وأولوياتها التنظيمية الداخلية، بما يشمل ذلك من إقامة نظام ري وشبكات لتوزيع المياه، وتنظيم المجاري الرئيسية والفرعية، وإلزام الناس بذلك التنظيم الدقيق عن طريق الحزم وعدالة التوزيع وتطوير الأساليب عن طريق سلطة مركزية قوية وصارمة. كانت مصر في ذلك شأنها شأن الدول الكبرى التي قامت حضاراتها على الأنهار مثل حضارة بلاد ما بين النهرين والصين، لكن لم تعرف أي من تلك الحضارات تأسيس علم للنهر مثل مصر، كما لم تعرف كذلك أيضاً سلطة مركزية قوية ومستمرة عبر عشرات القرون مثل مصر أيضاً. وسواء خلال عهد الأسرات الفرعونية القديمة أو خلال عصور الإمبراطوريات اليونانية والرومانية والإسلامية، لم تتخل مصر أبداً عن هدفها الاستراتيجي الدائم، ألا وهو السيطرة على منابع النيل لضمان تدفق المياه إلى مجرى النيل في الداخل. حتى في عصر الدولة المصرية الحديثة مع محمد علي، كان هناك الوعي الخاص بالامتداد جنوباً باتجاه السودان وحتى أعالي النيل. ولا يمكن أن نتغافل أبداً عن محاولات إنجلترا المستميتة من أجل فصل السودان عن مصر أثناء الحقبة الاستعمارية، وهو ما نجحت فيه في نهاية المطاف، على أيدي الضباط الأحرار الذين ارتبكوا لقلة خبرتهم السياسية بين أعباء الاستمرار في الدفاع عن وحدة مصر والسودان وبين ضرورة إخراج البريطانيين من مصر. ومنذ ذلك الاستقلال المشين بين طرفي الدولة المصرية السودانية عام 1956، والعلاقة بين طرفي البلد الواحد والذي تمزق إلى بلدين، لم تستقم أبداً، لكنها لم تضطرب تماماً أيضاً إلا في عهد حكومة الترابي والبشير ومحاولة إقامة دولة إسلامية في السودان عام 1989.
رغم ما سبق، فإن الحكومات المصرية التي قامت بعد ثورة يوليو 1952، لم تغفل أمر النيل أيضاً، ففي عهد الرئيس جمال عبدالناصر، اهتمت مصر ببناء سياسة أفريقية قوية، قامت على تزعم حركات الكفاح ضد الاستعمار، وكانت لمصر يد طولى في تحرير القارة السوداء من كافة أنواع الاستعمار سواء الإنجليزي أو الفرنسي، كما تزعمت مصر إقامة منظمة الوحدة الإفريقية، وأقامت علاقات تعاون وتنمية مع سائر دول القارة وبخاصة دول منابع النيل والقرن الأفريقي، حتى أنه في عهد الرئيس السادات، ورغم توتر العلاقات المصرية العربية وتحديداً المشرق العربي والخليج، إلا أنه لم يغفل أبداً العلاقات المصرية الأفريقية وكان هناك وزارتان للخارجية، الأولى وزارة خارجية عادية ونائب وزير للخارجية متفرغ للشؤون الإفريقية.
لكن خلال العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت العلاقات المصرية الإفريقية انكماشا حقيقيا، رغم وجود بعض الجهود التي تم بذلها لتنظيم العلاقات مع دول منابع النيل وحوضه ودول القرن الإفريقي، لكنها لم تكن أبدا على المستوى الذي تفرضه تلك الاستراتيجية المصرية التاريخية والتي تضع دائماً في أولوياتها السيطرة على منابع النيل، حيث أن مصر لا تتمتع بأي مصدر حيوي آخر للحصول على المياه سوى ذلك النهر الذي لطالما حمى مصر من ويل المجاعات التي اجتاحت العالم أكثر من مرة على مدار العصور.
اتفاقية مياه النيل
عام 1929 أبرمت الحكومة البريطانية بصفتها الاستعمارية، نيابة عن عدد من دول حوض النيل هي أوغندة وتنزانيا وكينيا، إتفاقية مع الحكومة المصرية، تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر حق الفيتو في حال إنشاء هذه الدول، مشروعات جديدة على النهر وروافده. ثم تم استكمال تلك الاتفاقية بأخرى مصرية سودانية تعطي لمصر حق استغلال 55 مليار متر مكعب من مياه النيل التي تصل إلى البلدين من أصل 83 مليار متر مكعب، كما تضمنت بند الأمن المائي، الذي يقضي بعدم السماح بإقامة مشروعات على حوض النيل، إلا بعد الرجوع إلى دولتي المصب. وفي فبراير عام 1999، تم توقيع مبادرة دول حوض النيل العشر، بهدف تدعيم أواصر التعاون الإقليمي بين هذه الدول.
مما سبق، قد يعتقد البعض أن مصر تستولي على حصة الأسد بينما تترك باقي دول النيل معوزة تعاني الجفاف وشح المياه، لكن الحقيقة هي أن مصر لا يوجد لديها مصدر آخر للمياه غير مياه النيل وتعتمد في 97% من احتياجاتها عليه، بينما لا تعتمد رواندا مثلاً سوى على 15.4% من احتياجاتها المائية على نهر النيل، و بوروندي على 2.8% وكينيا على 6.6% وأثيوبيا على 2% وتنزانيا على 1.3 % و أوغندا على 0.08 % وكذلك الكونغو الديمقراطية على نفس النسبة، حيث تتوفر لدى تلك الدول مصادر أخرى للمياه، فمناخها رطب معتدل ويبلغ معدل هطول الأمطار بها 1000/1500 ملم في السنة، في حين لا يتعدى هطول الأمطار في مصر والسودان 20 ملم في السنة، بينما أثيوبيا وحدها يبلغ فيها منسوب هطول الأمطار 900 ملم في السنة. هذا عدا شواطئ البحيرات الحلوة التي تجري في طول وعرض تلك البلاد.
إذا ..ما الذي حدث حتى تتفجر تلك الأزمة بين دول المنبع ودول المصب ولماذا تتزعم أثيوبيا هذه الأزمة؟
إبحث دائماً عن اسرائيل في كل مصيبة، فلقد سارت الأمور على ما يرام حتى بدأت إسرائيل تنشط بين الدول الإفريقية، حيث من أهدافها تأليب دول الحوض على مصر لأسباب عديدة، منها إضعاف مصر وإخراجها من الطوق العربي ( نجحت في ذلك)، كما تعمل الآن على تغذية الحرب الأهلية في دارفور لتقوي ميزان كفة الانفصال بين السودان الشمالي والجنوبي، ومازالت تسعى للحصول على حصة من مياه النيل كما نجحت على الاستيلاء على نهر الأردن.


علاقة اسرائيل بأفريقيا
كانت قارة أفريقيا مستهدفة من قبل المخطط الصهيوني وجزء من مشروعه، حيث تم اختيار بعض مناطقها كمواقع بديلة لتوطين اليهود في حالة تهديد المركز الأصلي " فلسطين". من تلك المناطق المستهدفة في أفريقيا، منطقة شرق أفريقيا، حيث اهتم تيودور هيرتزل وحاييم وايزمان على أوغندا وكينيا كوطن لليهود، وكذلك تمت مخاطبة اللورد كرومر لإقامة الوطن القومي لليهود في السودان خلال عامي 1903 و 1907، عندما كانت السودان مستعمرة بريطانية، وذلك لرغبة اليهود الروس الذين يرغبون في أرض يستطيعون فلاحتها بعدما ساءت أحوالهم في روسيا. رحب هيرتزل بالفكرة لأنه رأى أن شرق أفريقيا مكاناً مناسباً، خاصة وأن التواجد اليهودي مكثف في أفريقيا ويساعد على جمع يهود الشتات الأفريقيين. ومن الملاحظ أن الجاليات اليهودية في أفريقيا أصبحت متحكمة في مفاتيح السلطة والثروة، حيث أصبحت أفريقيا تحتضن جاليات يهودية مختلفة ومتباينة الأحجام.
لقد ركزت إسرائيل على القارة الأفريقية بعد أن فشلت في إيجاد موطن قومي لليهود فيها، وذلك نظراً لما تتمتع به القارة من مزايا استراتيجية وثروات طبيعية هائلة ومخزون من المياه الوفيرة. ظلت علاقات إسرائيل بإفريقيا قاصرة على دولتين هما، ليبريا التي كانت أول دولة تعترف بدولة إسرائيل، و أثيوبيا. لكن عندما نجحت الدول العربية في إقصاء إسرائيل من حضور قمة عدم الانحياز عام 1955 وإحباط محاولتها للحاق بعضوية الحركة، عزم الاسرائيليون على فك طوق العزلة الذي فرضته عليهم الدول العربية، وذلك بكسب علاقات سياسية مميزة مع الدول الإفريقية تستطيع في المستقبل أن تؤيد الدولة الاسرائيلية في المحافل الدولية وخاصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولتنفيذ استراتيجيتها عملت إسرائيل على الاعتراف بالعديد من الدول الأفريقية التي نالت استقلالها، وكثفت من زيارات الرسميين الاسرائيليين لهذه الدول لحضور حفلات أعياد استقلالها، كما شجعت رؤساء تلك الدول على زيارتها، وذلك لخلق رأي عام أفريقي يساعد على دفع محاولات الكيان الصهيوني للتغلغل في أفريقيا، عن طريق توقيع العديد من الاتفاقات في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع هذه الدول.
وفي الفترة من العام 1963 و حرب يونيو 1967 بين العرب واسرائيل، ركزت الدولة اليهودية على منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر باعتبارها منطقة استراتيجية من الناحية الأمنية والعسكرية والاقتصادية لها، وسعت إسرائيل إلى إيجاد نفوذ لها على ساحل البحر الأحمر عبر علاقتها مع أثيوبيا في ذلك الوقت، وبالفعل نجحت في إنشاء مراكز عسكرية لها في جزر فاطمة ودهلك وحالب على الساحل الإرتري، حيث احتفظت بمراكز رصد معلومات وقوات كوماندوز وقطع بحرية صغيرة على تلك الجزر. ويعد البحر الأحمر هو المخرج الجنوبي الوحيد لدولة إسرائيل، حيث عن طريقه تستطيع فك الحصار المفروض عليها من دول الطوق العربي، ولازالت حرب أكتوبر 1973 ماثلة في الذاكرة الاسرائيلية حيث تم فيها إغلاق مضيق باب المندب بواسطة القوات المصرية واليمنية، وبالتالي تم إغلاق المنفذ الجنوبي لإسرائيل، وتعطل ميناء إيلات تماماً أمام حركة الملاحة البحرية، ما دفع الكيان الصهيوني للتحرك مباشرة بعد الحرب للتواجد في منطقة القرن الإفريقي ودوله المطلة على ساحل البحر الأحمر، واحتفاظها بقواعد لها في أثيوبيا والجزر الإرترية الموجودة على ساحل البحر الأحمر.
استراتيجية الصهاينة في السودان
ساعدت اتفاقية كامب ديفيد إسرائيل، على أن تطرح نفسها بشكل جديد أمام الأفارقة الذين ساندوا مصر في حربها الطويلة مع إسرائيل، خاصة عند استيلائها على شبه جزيرة سيناء. فقد عادت إسرائيل إلى أفريقيا بمفهوم جديد، ألا وهو أنها أبرمت اتفاقية سلام مع مصر وبالتالي لا يوجد ما يبرر مواصلة الدول الأفريقية لمقاطعتها. بدأت بعد ذلك الدولة اليهودية في تنفيذ استراتيجيتها التي تسمى بحلف المحيط لمحاصرة مصر والعالم العربي، حيث تغلغلت في شرق أفريقيا ومنطقة البحيرات، وفي دول المحيط الغربي للسودان، وذلك لمحاصرة السودان الذي يمثل العمق الاستراتيجي لمصر، ونقطة الوصل بين العالم العربي وأفريقيا، وذلك لأن السودان كان ومازال العمق الاستراتيجي لمصر، حيث شارك السودان بكل إمكانياته العسكرية والاقتصادية في حرب أكتوبر، ما ساعد مصر في الانتصار على إسرائيل، إضافة إلى ما يمتلكه السودان من موارد طبيعية هائلة من بترول ومعادن وأراضي خصبة ومصادر مياه وفيرة، والتي إن تم استغلالها بالجهود السودانية المصرية المشتركة، ستؤمن البلدين مسألة الغذاء لكليهما وسيفيض ليغطي احتياجات الوطن العربي بأكمله. مما سبق كثفت اسرائيل جهودها في دول المحيط الإقليمي للسودان خاصة دول المحيط الشرقي وخاصة دول القرن الأفريقي، حيث عملت على تقوية علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا، ورغم المشاكل القائمة بين البلدين بعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا بسبب النزاع على منطقتي زالمبسا وبادمبي، إلا أن اسرائيل نجحت في إقامة علاقات قوية مع البلدين بمعزل عن تلك المشاكل بينهما. كما أنها كثفت تواجدها في أثيوبيا ومدت الحزب الحاكم هناك بالخبرات والمستشارين والخبراء في مجال تطوير القدرات العسكرية والأمنية والزراعية، إضافة إلى مساعدتها في بناء السدود على النيل الأزرق ( توكر أباي) واضعة في إعتبارها الموارد المائية الهائلة التي تتمتع بها أثيوبيا، وخاصة بحيرة تانا التي تعتبر من أهم المنابع التي تغذي النيل، والتي تشكل أهمية لإسرائيل في صراعها مع عدوها الاستراتيجي ( مصر)، والسودان العمق الاستراتيجي لمصر، حيث لا تبعد تلك البحيرة عن الحدود السودانية سوى بـ 380 كيلو متر. هذا عدا التواجد الاسرائيلي في جيبوتي من خلال القاعدة الفرنسية منذ السبعينات والقاعدة الأمريكية التي أنشئت قريبا هناك، مستفيدة منهما في مراقبة الدول العربية المطلة على البحر الأحمر ورصد الساحل السوداني. أما في منطقة البحيرات فقد كثفت إسرائيل وجودها في أوغندا، حيث بحيرة فيكتوريا المنبع الرئيسي للنيل، وقد أخذت العلاقات الاسرائيلية الأوغندية في تطور مستمر حتى وصلت الآن إلى علاقات استراتيجية في كل المجالات السياسية والإقتصادية والأمنية، كما استطاعت إسرائيل أن تنفذ إلى مراكز صنع القرار في كينيا من خلال علاقات مصاهرة بالنخب الحاكمة هناك والتي تنتمي إلى الجالية اليهودية الكبيرة في مومباسا، هذا بالإضافة إلى التواجد المكثف لها في زئير والكونغو عبر الوجود الفرنسي هناك، وبالتالي ومما سبق يتضح لنا كيف أصبحت إسرائيل تحاصر السودان حتى تمكنت من التوغل في الإقليم الجنوبي السوداني. كما يجب علينا أن لا نغفل أيضاً أن إسرائيل تطوق السودان من الغرب الأفريقي من خلال علاقات جيدة مع تشاد وأفريقيا الوسطى تساعدها في ذلك فرنسا أيضاً وكذلك أمريكا بسياساتها الرامية إلى تشكيل ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير. ومن خلال تطويق السودان بالتغلغل في دول الجوار الخاصة به، استطاعت إسرائيل زرع الفتن والدسائس داخل السودان من خلال تغذية الصراعات الإثنية ودعم المجموعات الانفصالية ودعم حركات التمرد في الجنوب. وقد أثر كل ما سبق على الأمن الوطني السوداني، إضافة إلى خلق توترات بينه وبين دول الجوار، بل تفتيت السودان إلى أجزاء، وهو ما نحن بصدده قريباً، حيث تشير كافة الاستطلاعات إلى أن الجنوب سيصوت من أجل انفصاله عن حكومة الخرطوم.
مما سبق ندرك أن إسرائيل تسعى إلى السيطرة على منابع النيل من أجل تهديد الأمن الوطني السوداني والأمن القومي المصري، وذلك لأن النيل يعتبر شريان الحياة بالنسبة لمصر والشمال السوداني، ومن ثم يصبح هذا الأمر ورقة رابحة في يد إسرائيل تستخدمها في صراعها التاريخي مع مصر والعرب. هذا عدا سيطرتها على البحر الأحمر أو البحيرة العربية الإقليمية والذي تحده ستة دول عربية هي السعودية ومصر والسودان واليمن وجيبوتي والأردن.
الأزمة الحالية
كانت إسرائيل شريك غير مرئي في اجتماعات وزراء مجلس المياه بدول حوض النيل العشر، والتي عقدت في شرم الشيخ وانتهت بالفشل في 14 إبريل الماضي، حيث يسعى الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى الاستيلاء على مياه النيل أو جزء منها " تيودور هرتزل كان يسعى لتحويل جزء من مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء عام 1903"، والهدف المرمي إليه الآن، هو تدويل نهر النيل وتسعير المياه بعد أن منعت مصر ظهور فكرة هرتزل إلى النور. كما أن هناك آراء تؤكد أن تفجير موضوع الاتفاقية الجديدة حول مياه النيل ووصولها إلى طريق مسدود كان أمراً متوقعاً، حتى تنشغل مصر والعرب في موضوع مياه النيل، وينشغلوا بها عن موضوع الدولة اليهودية التي يسعى نتنياهو إلى إعلانها. والشواهد على هذا الأمر كثيرة، منها زيارة وفد إسرائيلي لإثيوبيا سراً قبل أيام من اجتماعات شرم الشيخ، و غرابة المطالب التي تصر عليها دول المنبع السبع، ما يؤكد أنها تنفذ أجندة صهيونية، حيث أن الحجج الخاصة بتوزيع حصص النيل بصورة أكثر عدالة، تثير السخرية، لأنه كما ذكرنا من قبل هذه الدول لا تعتمد بشكل كبير في احتياجاتها للمياه على النيل مثلما تعتمد عليه كل من مصر والسودان، أيضاً هذه المطالب تنتهك بصورة سافرة الاتفاقات الدولية التي عقدت من قبل، ومعروف مسبقاً أن محكمة العدل الدولية كانت قد قضت عام 1989 بأن اتفاقيات المياه شأنها شأن اتفاقيات الحدود لا يجوز تعديلها، ما يلفت النظر إلى أن اللجوء للقضاء الدولي موضوع محسوم أمره لصالح مصر والسودان، وكذلك يلفت النظر إلى أن هذه القضية مفتعلة من الأساس لتنفيذ أجندة خفية قد تكون بالفعل تمرير موضوع تهويد القدس وإعلان إسرائيل دولة يهودية في المنطقة، وقد يكون هناك أمور أخرى لا يستطيع عقلنا البسيط إداركها الآن.
وكانت الدول السبع قد بررت دعوتها تلك بعدة أمور منها، أن تلك المياه ملك لها ومن ثم لها الحق ليس فقط في حجزها وراء السدود، بل وبيعها إلى مصر والسودان، كما زعمت كل من كينيا وتنزانيا أن الحصص ينبغي أن يعاد النظر فيها بما يلبي تطور احتياجاتها التنموية خصوصاً في التحول من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة، وأخيراً احتجت الدول السابقة أيضاً بأن اتفاقية 1929 وقعتها مصر مع سلطات الاحتلال البريطاني، التي لم تراع احتياجات مستعمراتها السابقة، ما يجعل الأمر مختلفاً بعد أن حصلت على استقلالها. كذلك رفضت الدول السبع مقترحات دولتا المصب وهما مصر والسودان، خلال اجتماعات شرم الشيخ وقبلها كينشاسا في مايو 2009 و الأسكندرية في يوليو 2009، حول ضرورة قيام دول المنبع بإخطار دولتي المصب قبل تنفيذ أي مشروعات في أعالي النهر، قد تؤثر في حصصهما في المياه واستمرار العمل بالاتفاقات السابقة باعتبارها حقوق تاريخية في حال إبرام اتفاقية جديدة، وأن تصدر جميع القرارات المتعلقة بتعديل أي بنود لتقاسم المياه، بالموافقة بالإجماع أو بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة مصر والسودان. كما تحدت تلك الدول دولتي المصب وهددتهما بإبرام اتفاقية جديدة في منتصف مايو سواء قبلت بها مصر والسودان أم لم تقبلا.
وتكشف الصحف الأفريقية سواء في أثيوبيا أو في كينيا طبيعة المؤامرة المحاكة من قبل إسرائيل وأمريكا بالطبع بالتعاون مع أثيوبيا، حيث ذكرت صحيفة جيما الإثيوبية في 24 إبريل أن هناك رأياً عاماً تزداد قوته في دول منابع النيل يطالب بضرورة دفع مصر ثمن استخدام مياه النيل، ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة أن أغلب الكينيين يرون أن من حق بلادهم وباقي بلاد منابع النيل، الحصول على مقابل لمياه النيل التي تصل إلى مصر والسودان. أشارت الصحيفة أيضاً إلى اعتزام دول المنبع السبع التوقيع على معاهدة جديدة بشأن تقاسم مياه النيل رغم رفض دولتي المصب قائلة : من المنتظر أن توقع كينيا وإثيوبيا وأوغندا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية وتنزانيا على الاتفاقية الجديدة التي ستحل محل اتفاقيتى عام 1929 و1959 المنظمتين للعلاقة بين دول حوض النيل في 14 مايو ".
وأضافت الصحيفة أن الكينيين يطالبون بالتعامل مع مياه النيل كما تتعامل الدول العربية مع البترول الذى يتم استخراجه من أراضيها وبالتالى يجب أن تشترى مصر ما تحتاج إليه من المياه من دول المنابع على اعتبار أن كلا من البترول والمياه مصادر طبيعية للدول.
واختتمت قائلة إن إقامة منطقة للتجارة الحرة تضم مصر وباقى دول حوض النيل يمكن أن تحد كثيرا من احتمالات قيام نزاع بين مصر وتلك الدول على مياه النيل حيث يمكن لمصر التى تعانى من قلة مصادر المياه شراء احتياجاتها من الغذاء والكهرباء من كينيا وإثيوبيا وغيرهما من دول الحوض بدون أى أعباء إضافية.
ولا يقتصر الأمر على ماسبق، بل يمتد ليشمل معلومات تتردد في الأوساط السياسية أن تل أبيب تخطط حاليا لإنشاء خط أنابيب لنقل مياه النيل من الهضبة الإثيوبية إلى إسرائيل، ورغم ما يؤكده البعض أنه ليس بمقدور دول المنبع إيقاف قوة اندفاع المياه باتجاه مصر والسودان أو مد خط أنابيب لنقل مياه النيل من الهضبة الأثيوبية ( أثيوبيا هي التي تتزعم موقف دول المنبع المتعنت) إلى إسرائيل بسبب الفيضانات وكثرة هطول الأمطار أغلب شهور السنة ووجود مرتفعات البحر الأحمر، إلا أن الترويج لمشاريع تدويل الأنهار ومصادرة المياه، يعد أمر بالغ الخطورة لأنه يشجع الدول الإفريقية على احتجاز جزء من مياه النيل أمام السدود التي تتزعم إسرائيل مهمة بنائها وتمويلها تمهيداً لبيع تلك المياه لدول أخرى منها إسرائيل نفسها.
ولا تعد هذه المخططات الصهيونية وليدة البارحة فكما ذكرنا من قبل، هي ركن من أركان قيام الدولة الصهيونية منذ هرتزل، كما بدأت في تنفيذ أهدافها بالقفز إلى أفريقيا منذ عام 1955 عندما أعلن بن جوريون أن اليهود يخوضون مع العرب معركة مياه، وأنه على نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وصولاً إلى مشروع شركة تاحال الإسرائيلية عام 1974 بشق قناة توصل مياه النيل إلى إسرائيل عن طريق سحارة أسفل قناة السويس تمد إسرائيل بحوالي 8 مليارات متر مكعب سنوياً، وسرعان ما استولت إسرائيل علي روافد نهر الأردن ومياه الليطاني في لبنان واليرموك في سوريا، ورغم توقيعها معاهدة السلام مع مصر، إلا أن تطلعاتها للحصول علي حصة من مياه نهر النيل لم تتوقف، وحين عجزت أن تفعل ذلك عبر الطرف المصري مدت نفوذها إلي دول المنبع الإفريقية، التي كانت قد استعادت العلاقات الدبلوماسية معها في أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد.



أين مصر من كل ما سبق؟
رغم استقلال مصر عن السودان عام 1956 بموافقة حكومة الثورة بقيادة جما عبدالناصر، إلا أن مصر كانت تولي اهتماماً كبيراً للعلاقات بين مصر والسودان ودول حوض النيل، وعمل جمال عبد الناصر جاهداً على خلق دور مهم لمصر في أفريقيا وأنشأ شراكات اقتصادية تعمل على تقوية العلاقات وتبادل الخبرات، إضافة إلى التبادل التجاري بين مصر وهذه الدول، ما عمل بالتبعية على تقوية العلاقات وكذلك على تقوية الوجود الأمني لمصر داخل أفريقيا، حتى أن هذه الشركات الاقتصادية المصرية الأفريقية امتد نشاطها إلى أوروبا نفسها، ما دعى الدول الغربية وأمريكا إلى التحرك وبالطبع إسرائيل معهم.
واجهت مصر خلال الفترة الناصرية، كل التحركات الغربية والصهيونية داخل أفريقيا بشتى الطرق، وذلك بإرسال البعثات الثقافية والتعليمية إلى السودان والصومال وباقي دول منابع النيل في مواجهة بعثات موزاية ترسلها أمريكا وفرنسا للسيطر على المنطقة ثقافياً. كما قاومت مصر حركات التمرد التي كانت تقوم بها بعض العناصر المدفوعة من قبل أوروبا وأمريكا وإسرائيل، حيث ساعدت مصر أفريقيا باستمرار على الاستقرار من خلال دعم حركات التحرر الوطنية والقضاء على أي محاولات لإثارة البلبلة فيها، وليست مساعدة مصر للكونغو من أجل القضاء على حركة تشومبي ( كان مرعياً من قبل أمريكا) الذي اغتال الرئيس الشرعي للبلاد "لومومبا"، إلا دليل بالغ الوضوح لقوة التواجد المصري في أفريقيا.
لكن بعد هزيمة 67، تغيرت السياسة المصرية تدريجياً وبعد عام 1973 كانت مصر تعاني من قلة الموارد المالية بسبب الإنفاق العسكري، ما ساهم أكثر في تراجع الدور المصري في أفريقيا، حيث أن الدول الأفريقية تحتاج دائماً إلى الانفاق عليها وتقديم المساعدات المالية حتى تكون معك، وما حدث من تراجع للدور المصري وفتح المجال لتقوية إسرائيل لدورها في أفريقيا بمساعدة أمريكا وأوروبا أمعن في تهميش التواجد المصري في أفريقيا. كما أن مصر شهدت فساداً سياسياً خارجياً أدى إلى إفلاس الشركات المصرية التي كانت متواجدة بالفعل في 22 دولة أفريقية.
لكن ما يثير للغيظ المصحوب بالتساؤل والدهشة، هو أن الحكومة المصرية بالتأكيد كانت على علم بكل ما يدور داخل أفريقيا وما يحاك ضدها من دسائس من قبل إسرائيل هناك، وبالطبع كانت على علم أيضاً بأهمية دول حوض النيل والسودان على رأسهم بالنسبة لها، فلماذا ورغم المشاكل المالية، لم تهتم بأي قدر كان بعلاقاتها الإفريقية، خاصة وأن مصر في خلال الثلاثين سنة الماضية تعرضت لنهب منظم على أيدي شركات توظيف الأموال وكبار المستثمرين الذي نهبوا أموال الدولة وهربوها إلى الخارج وغيرها من صور السرقة والنهب داخل المحروسة. ألم يكن من الأفضل مقاومة تسريب أموال الدولة إلى الخارج والاستفادة بصرفها داخل أفريقيا؟ سؤال ساذج ولكن لا يسعني سوى طرحه هنا.

ماذا ستفعل مصر الآن ؟
لن تستطيع الاستمرار في البكاء على اللبن المسكوب، فلابد من التحرك فوراً، لكن الموقف المصري حتى الآن لا يشي بخطوات حقيقية لحل الأزمة، وبالطبع لن يمكننا في شهور حل أزمة تم التخطيط والتنفيذ لها على مدار أربعين سنة..... فما هو الحل إذاً؟
لقد دخلت مصر بالفعل في مرحلة أزمة المياه ووصل نصيب الفرد فيها إلى أقل من 1000 متر مكعب وهو الحد العالمي لمجاعة المياه، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فلن تتمكن مصر من زراعة 60% من الأراضي الزراعية الحالية. إذا نحن لا نمتلك رفاهية الوقت فعلاً، ولم يعد من المهم الآن تحديد من المسؤول عن هذه المصيبة، بقدر ما هو ضروري التحرك بسرعة من أجل رأب الصدع بين مصر والسودان وباقي دول حوض النيل. كما أنه لم يعد كافياً أبداً تمسك مصر بالحقوق التاريخية المكتسبة أو حتى التلويح بقدرات مصر العسكرية في مواجهة دول أفريقيا. يجب أن تتحرك الدبلوماسية المصرية في اتجاه خلق لغة حوار جديدة ومشتركة بين مصر وبين تلك الدول وتقديم اقتراحات بمشاريع مشتركة لتنمية الموارد المائية بواسطة طرق غير تقليدية مثل تجميع المياه المفقودة ومياه الأمطار وتحلية مياه البحر وإعادة معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي، كي لا تكون إسرائيل هي اللاعب الوحيد والرئيسي في التأثير على قرارات تلك الدول. أما إذا استمرت دول المنبع في تعنتها فلن يكون أمامنا سوى التقاضي أمام محكمة العدل الدولية حيث أن القانون الدولي يضمن لنا حقوقنا التاريخية. لكن مع هذا أعتقد تماماً أن على مصر مراجعة حساباتها الأفريقية خاصة مع توأمها السودان، حيث أنني كنت ومازلت أومن تماماً بأن مصر والسودان دولة واحدة ولا يمكن أبداً أن يستقيم حالهما بالانقسام إلى دولتين، فما بالكم بثلاث دول ونحن على أعتاب انفصال جنوب السودان عن شماله. ونسأل الله في النهاية أن يضع ختاماً لطيفاً لهذه المصيبة، وإن كان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق