الثلاثاء، 4 فبراير 2020

رؤية مغايرة لقصة "ريا وسكينة".. القتل كاعتراض على ذكورية المجتمع




"ريا وسكينة 1921" هو أحدث عروض فرقة "فرسان الشرق للتراث" المتخصصة في تقديم عروض الرقص المعاصر الذي يعالج أو يحكي قصصاً تراثية مصرية أو عربية على مسرح الجمهورية. يعد تناول قصة أشهر قاتلتين في التاريخ المصري الحديث جرأة من المخرجة ومصممة الرقصات كريمة بدير، فالسؤال دائماً عند تناول قصة تم إخراجها بأوجه فنية متعددة وعلى أوقات مختلفة متتالية منذ سينما الأبيض والأسود، وحتى على خشبة المسرح بأشهر ثنائي فني حينها، الفنانتان الكبيرتان شادية وسهير البابلي؛ كيف يمكن تناول القصة؟ أو بمعنى أدق ما هي الزاوية او المدخل الجديد؟
بعيداً عن كون هذه المرة، تقدم كريمة عرضاً راقصاً، أو رؤية فنية بلغة الرقص المعاصر، فهي قررت أن تبدأ من النهاية، حيث تُفتح الستارة على ديكور لمقبرة تحت الأرض، بينما بابها في الأعلى، ينزل منه نابش القبور متحدثاً إلى الموتى، لتبدأ الأحداث ويدور حواراً فلسفياً حول أصل الحياة والموت!

رغم أن عرض "ريا وسكينا 1921" عرضاً راقصاً في الأساس إلى أنه يعتمد الحوار المسرحي بين الأبطال في بعض المشاهد التي يمكن اعتبارها تمهيدية للتنقل بين الأحداث، لكنه في الأساس يعتمد على تابلوهات راقصة صممتها كريمة بدير التي تتميز برؤية مغايرة وأكثر جرأة وحيوية من معاصريها في مصر، فهي ترسم لوحات حركات عروضها كنبض درامي متصاعد في تواتره، ويعبر بقوة عن الحدث، فيأخذ المشاهدين في غمار الحركة الثورية التي تفرش بها فضائها المسرحي بذكاء، فتعبئه بعنفوان راقصيها ودينامكيتهم المؤثرة لتشعر أحياناً بأن تابلوهاتها الراقصة أقوى من الحدث ذاته.

يبدأ العرض بلوحة راقصة للنساء اللائي رحن ضحية للعنف والاضطهاد الذكوري، فيضعك النص في مواجهة سريعة مع الحدث البارز له، فهنا لن تشاهد سرداً عادياً لقصة أشهر سفاحتين في التاريخ، ولكنك ستشاهد نموذجين لأختين مثلا النتيجة الطبيعية للعنف المجتمعي ضد النساء، حيث يتم سرد الأحداث على لسان شخصية "بديعة" ابنة ريا، التي لا يعرف أحد مصيرها بعد إعدام والدتها وخالتها، وبالتالي جاء التعامل مع مصيرها المجهول لتقديم العمل من خلالها، كقماشة عريضة يمكن  تفصيل الأحداث منها بالأسلوب الذي اعتمدته كريمة بدير، وهو التساؤلات الفلسفية حول قيمة الحياة في مواجهة سكون الموت ومفهوم الخير والشر بمقارنة تعريفاتهما المجتمعية السطحية وحقيقتهما المنبنية على دوافع كل منهما.

يلعب "نابش القبور" دور المراقب للأحداث، حيث تعيد كل من ريا وسكينة سرد أحداث حياتهما بشكل منفرد، وما الذي دفعهما إلى أن تتحولا إلى قاتلتين محترفتين، فتعبر سكينة عن إحباطاتها المتتالية في الرجال وكيف وصل بها الأمر إلى الانتقام من المجتمع كله بأن تقتنص حقها في الحياة رغم أنف الحياة نفسها، أما ريا فتقدم بجهامة وقوة شخصيتها مبراراتها للقتل حيث من حقها أن تعيش حتى ولو على جثث غيرها. مواجهة بين ريا وسكينة وبين النساء اللائي يقتلهن، أخرجتها وصممت رقصاتها كريمة بإبداع شديد الاحتراف، حيث استطاعت أن ترفع من حدة الحدث الدرامي بالحركات الراقصة فخرج المشهد عبقرياً من حيث الأداء أيضاً والذي قدمته كل من (ياسمين سمير) و (دنيا محمد) وباقي الراقصات اللائي كن يمثلن الضحايا، فكانت تتكوم الجثث فوق بعضها البعض بأسلوب راقص جمع بين الأكشن والتراجيدي ما شد أنظار المشاهدين الذين كانوا يلهثون وراء الأحداث الراقصة.

لم تنس كريمة بدير وسط الأحداث العاصفة لعرضها "ريا وسكينة"، أن تقدم المتعة للمشاهدين من خلال تقديم بعض التابلوهات الراقصة التي توحي بالتراث السكندري، حيث مكان الحدث، فقدمت رقصات للصيادين بملابسهم التراثية المميزة والتي تميزت بالحيوية والمتعة. كذلك جاءت رقصات الفتيات مع سكينة وهي تعبر عن حرمانها من احتواء الرجال لها وإطفاء نار عشقها جريئاً ومعبراً، ويحسب ذلك لكريمة التي تتميز برؤية جريئة وقوية تعمد إلى المواجهة والكشف دون الخوف أو ممارسة الرقابة الذاتية التي تكبل الرقص بكافة أشكاله في مصر.
جاء مشهد إعدام ريا وسكينة، قوياً وموحياً، حيث حمل الراقصون شخصيتي ريا وسكينة صعوداً نحو حبال المشنقة المتدلية من أعلى لتجسد الراقصتان ياسمين ودنيا مشهد الإعدام بدرامية نجحت في زرع الانفعال بقلوب المتابعين، ليخرج الراقصون بعد ذلك مرتدين الملابس السوداء، بعدها تتحول الطفلة الصغيرة بديعة التي لعبت دورها فاطمة محسن بحرفية مشهودة، إلى قاتلة فتقتل نابش القبور، وكأنها تقول أن التحول إلى العنف، مصير طبيعي للنساء في عالمنا هذا، سواء في الماضي أو الحاضر، وهنا تتجسد العبارة التي كتبتها كريمة بدير على كتيب العرض على لسان بديعة (ولدت وحرمت وتألمت، فثورت فصرخت فبكيت فضحكت، فسكت سكات الموتى بقلب نابض، إلى أن نبش قبري فزال سكاتي وتكلمت فقتلت).


لعبت الإضاء في العرض دوراً رئيسياً، فلقد استطاع رضا إبراهيم أن يعمق الحدث وينحت الحركات الراقصة بتصميمه لإضاءة درامية اعتمدت على اللون الأحمر للتعبير عن فعل العنف والقتل، كذلك خرجت الأزياء معبرة عن الحقبة الزمنية للأحداث في بداية القرن العشرين. نجح الديكور أيضاً برشاقته أن يعبر عن الأحداث على اختلاف أماكنها، فما بين القبر ومنزل ريا وسكينة والشارع والحي والمشنقة، تمكن محمد الغرباوي المشرف العام على الديكور والملابس مع فريق عمله على أن يرسما كل أماكن الأحداث باستخدام حلول بسيطة ودون زحام الفضاء المسرحي بقطع الديكور الثقيلة أو الكثيرة.

المقال منشور في جريدة القاهرة