الخميس، 16 أغسطس 2018

إنهم يعزفون ..... قمة الاتساق والتناغم بين عناصر المسرحية المتشظية






عندما تقرر الذهاب لمشاهدة عرض من إنتاج أكاديمية الفنون وعلى خشبة معهد فنون مسرحية، فأنت تمتلئ بمشاعر متناقضة، الثقة بأنك حتما ستشاهد عرضا مذهلا لأنه يخرج من الشريان الرئيسي المغذي لمصر كلها بالفنانين والمبدعين، والخوف من الشعور بالإحباط أن لا تحصل على شيء فتقلق على مستقبل الفن في مصر.
هذا هو ما أحسست به وانا في طريقي لمشاهدة مسرحية (انهم يعزفون)، اتأرجح بين التوقعات العظيمة والخوف من الإحباط، لكنني حصلت على أعظم من توقعاتي واستطاع أبطال العرض بنص عال الحساسية والرهافة أن يسيلوا الدمع من مآقي وأوقعوني في أزمة البحث عن وسيلة لكبت قلبي من أن يبوح بجيشانه بصوت مرتفع يشق حالة الصمت التي سادت مقاعد الجمهور الذين نجحوا في حبس أنفاسه.
لا شك أن وجود اسم محمود جمال حديني على أفيش المسرحية يعتبر ضمانا الى حد ما بأنك على وشك مشاهدة عمل مسرحي متميز، فهو صاحب اثنين من أعلى المسرحيات مشاهدة واستمرارا في السنوات الفائتة (يوم أن قتلوا الغناء و ١٩٨٠ وانت طالع), لكن المسرح عمل ذو عناصر متعددة اذا ما انهار عنصر انهار العمل ككل، خاصة وان هذه الرؤية الجديدة لمسرحية انهم يعزفون، يقدمها طلاب أكاديمية الفنون بعد أن قدمتها فرقة كومبارس منذ عامين.
 ينشغل مؤلف المسرحية محمود حديني بفكرة الحرية المطلقة ويربط بينها وبين الموسيقى، والموسيقى لديه هي المعادل الموضوعي للبحث عن الحرية, هذه الحرية غير المشروطة بأي إطار أيديولوجي, فقط حرية التنفس والعمل وتكوين اسرة، وحرية الضحك والغناء. هذه الحريات البسيطة التي تعتبر الف باء الحياة, والتي يرى حديني أن النظام العالمي الحديث جعلها مطالب شاقة يصعب الحصول عليها. يناقش محمود جمال بذكاء في نصوصه المسرحية اتحاد الدين بالسلطة لقهر الإنسان وضمان خضوعه، لكنه يتمتع بالذكاء اللازم لعدم تكرار نفسه، فهو هذه المرة يطرح الأمر بشكل غير مباشر، حيث استخدام رموز دينية مثل الصليب الذي يصلب عليه كل ثوري أو كل من يعترض, ويركز على أن السلطة لا تفرق في الاعتراض بين دين وآخر حيث يجمع العسس كل المعترضين من كل الاديان حتى (البوذيين).
لا يحدد المؤلف زمان أو مكان لأحداث مسرحيته بل يتركهما مطلقين ليشملا كل أشكال القمع السلطوي ضد الانسان, لكنه لا يبرأ من استخدام الاسقاط النفسي على الواقع او التاريخ الحديث وتوجهات السلطات العالمية المعاصرة التي لا تعتبر للإنسان بقدر ما تعتبر لأطماعها. يربط النص بين التاريخي والآني طوال الاحداث, فهو يستخدم إطارا عاما تاريخيا يضع داخله الأحداث ويظهر من خلال الملابس والديكور، لكن المحتوى العام للنص يناقش قضايا معاصرة تعبر عن القلق البشري تجاه تغول السلطة الرأسمالية التي تتغذى على فناء الإنسان.
تبدأ المسرحية بنظام الراوي الخفي الذي يحكي أصل الحكاية للمستمعين قبل أن يتعرفوا على أبطال الحدوتة، حيث تبرز النوستالجيا الإنسانية الدائمة لعصر ما في الماضي كان الإنسان يعيش وسط الطبيعة مع باقي الكائنات دون سلطة او أطماع أو حروب، لنتعرف على خشاب بسيط كان يصنع من خشب الاشجار أدوات مختلفة تفيد الإنسان في حياته، لكنه يقع تحت نير حاكم ظالم يجبره بالتعذيب أن يصنع الصلبان ليصلب عليها خصومه، ومنذ تلك اللحظة تتحول حياة الناس وتتبدل ضحكاتهم الى أنين، هذا الأنين الذي يترجمه المؤلف إلى عزف، كلما ارتفع صوت العزف كلما اقتربت لحظة الخلاص. يستخدم المؤلف أيضا ورقة شجر خضراء وحيدة بقت معلقة بفرعها دون أن تسقط مثل غيرها في خريف امتد دون انتهاء، ليرمز إلى الأمل الذي يمكننا التشبث به حتى يأتي اليوم الذي نتمكن فيه من الخلاص من السلطة الرأسمالية العالمية.
المخرج الشاب عبد الله صابر استطاع أن يقدم رؤية مميزة ومختلفة لمسرحية انهم يعزفون، فلقد استطاع أن يحول خشبة المسرح الى كائن حي نابض تصلك خفقات قلبه وانت على مقعدك، وذلك بترجمة محتوى النص المسرحي برهافة مفرطة من خلال تقسيم الخشبة الى ثلاثة أقسام، يمين و يسار وعمق المنتصف، تاركا منتصف مقدمة المسرح للأماكن المختلفة عن بيت أب وأم المصلوب ٣ وأسرة المصلوب ١ والسجن. يستخدم أيضا صابر التقنية المسرحية البريختية بوضع شخصية الثائر بين الجمهور طوال المسرحية ليصعد الى سلالم المسرح في المنتصف أثناء تحقيقات العسس، وبذلك يورط صابر الجمهور في الأحداث ويكسر الحاجز الوهمي بينهم وبين الممثلين فتتحول قاعة المسرح كلها – الخشبة والمقاعد – الى ساحة أحداث واحدة ينغمس في تفاصيلها الجميع.
المخرج مع مهندس الإضاءة مصطفى الهامي، لعبا لعبة الكادرات السينمائية المتتابعة عن طريق الاضاءة فهو ينتقل من مكان الى آخر على خشبة المسرح بتقنية الاضاءة والاظلام، كما يعبر عن الوهم الذي يعيشه المصلوبين بانسيابية شديدة من خلال الضوء، حتى لا تكاد ترى كيف انتقل الممثل من تعلقه على الصليب إلى مقدمة المسرح ثم عاد الى الصليب مرة اخرى.
تلعب الموسيقى دورا هاما في مسرحية (انهم يعزفون) وهذا أمر متوقع بالطبع، فالمؤلف بنى نصه على اساس ان العزف الموسيقي ترجمة لاعتراض الناس وشكواهم، وقد جاءت الموسيقى وألحان الأغاني جيدة ومعبرة بشكل كبير عن الأحداث على اختلاف مواضعها وتصاعدها. المميز فيما يخص موسيقى العرض أن مؤلفها مصطفى منصور والعازفين قدموا موسيقاهم حية، وهذا أمر يتميز به طلاب أكاديمية الفنون عن غيرهم، حيث أنهم جميعا ينتمون لمعاهد الاكاديمية سواء معهد الموسيقى العربية أو الكونسرفتوار.
كنت أتمنى توزيع كتيب صغير بأسماء الممثلين الذين شاركوا في العرض، لينال كل واحد فيهم ما يستحقه من اشادة، لكن هذا لم يتحقق لنا، ولكن في النهاية لا يمكن اغفال براعة الاداء للممثلين المشاركين في العرض بشكل عام، خاصة الفنان الذي لعب دور والد المصلوب ٣، فهذا الممثل على حداثة عمره، غول مسرح كبير يستطيع أن يهيمن على خشبته بقوة، كما يتميز بقدرة فائقة على تقمص الدور والغوص في تفاصيله، لدرجة انه أقنعنا تماما بأنه رجل عجوز أعمى يعاني فقد ولده. وقد برزت ذروة أدائه في مشهد وفاة زوجته حيث عصر قلوبنا بقبضة يده دون رحمة وتركنا نتخبط بين زخات دموعنا.
الفنانون الذين لعبوا أدوار المصلوبين الثلاثة أيضا استطاعوا أن يملكوا ادوارهم بقوة رغم قسوتها، فأدوارهم تفرض عليهم البقاء في وضع الصلب أغلب الوقت ولا يتحركون الا يسيرا ليعودوا الى صلبانهم مرة أخرى، ولا يمكن كذلك أغفال الفنان الذي لعب دور كبير العسس الذي يتمتع بقسوة مستفزة تلازمه طوال أحداث المسرحية، حتى يتوفى الطفل ووالدة المصلوب ٣ فنشاهد التحول في الشخصية والذي لعبه بحرفية شديدة. الثائر أيضا كان مميزا في أدائه هو والفتاة والطفلة والطفل، فهذا النص يفرض على ممثليه وضعا خاصا ان لم يتقنوه انفرط عقد المسرحية تماما، وهو ما لم يحدث، فمسرحية (انهم يعزفون) تجسيد للتوزيع البوليفوني  للموسيقى، حيث قمة التناغم بين المتشظي.



المقال منشور في نشرة المهرجان القومي للمسرح 


الاثنين، 13 أغسطس 2018

(كلهم أبنائي) ... الشباب يحطمون نظرية الهواة بوعي يصل إلى الاحتراف


لا يمكنني أن أتحدث عن العناصر الفنية الناجحة في مسرحية (كلهم أبنائي) والتي عُرضت على مسرح مركز الإبداع، دون أن أبدأ بالحديث عن أهم عنصر ساهم في خروج هذه المسرحية بهذا المستوى الفني المرهف والموزون بحساسية شديدة الألق، ألا وهو مجموعة العمل بالمسرحية بداية من المخرج ومروراً بالممثلين وحتى تصميم الديكور والإضاءة، والذين يطيحون بما تبقى من عقلك في ظل قيظ يوليو، عندما تعلم أنهم هواة وليسوا محترفين، وأنهم أيضاً فرقة جامعية تضم مجموعة من طلبة وخريجي كليات جامعة عين شمس.


الجملة التي صحنا بها عندما خرج علينا شاب صغير ضئيل الحجم في نهاية العرض اسمه نورعبد الله قالوا أنه المخرج هي : " إنت بقى اللي عملت كل ده؟"، لم تكن جملة استنكارية بل تعجبية، فهذا الفهم الدقيق لأعمق تفاصيل مسرحية (كلهم أبنائي) التي كتبها المسرحي الأمريكي الكبير آرثر ميللر ليعري من خلالها المجتمع الأمريكي الذي تأكله قيم العمل الرأسمالية في مقابل المبادئ الإنسانية، هذا الفهم ينم عن وعي وإدراك ودراسة وتعمق شديد في النص وكل الدراسات التي صدرت حوله، لتشريح الشخوص وتفكيكها، فلقد استطاع هذا الشاب الصغير أن يحول خشبة المسرح إلى منطقة لهب مشتعل طوال الوقت، لهب امتد إلى وعينا على مقاعد الجمهور فأخذ بكل تركيزنا حتى آخر نفس خرج من صدر ممثل قبل أن ينطفأ آخر ضوء.
تعتبر مسرحية (كلهم أبنائي) من المسرحيات الصعبة في التنفيذ فهي تحتوي على أصوات متعددة، يمثل كل منها قيمة مناقضة للأخرى، كما أنها في مجملها تشكل بؤرة صراع بين الشخصيات، بحيث كل واحد منهم يرغب في الانتصار لفكرته ومنحها الغلبة والسيادة على الآخرين. في نفس الوقت يلعب كل صوت أو شخصية دور الضحية أو المغفل، رغم أنه في داخله يدرك كل التفاصيل لكل ما يدور حوله، لكنه يختار أن يبقى مغفلاً ومرتاحاً مع مبادئه المعلنة. حالة عنيفة من الشد والجذب بين أطراف الشخصيات في المسرحية، التي تحمل داخلها كل أسباب التنافر إلا أنها لا تفعل سوى الاقتراب والتآزر حتى ولو كان ذلك بالتواطئ على الصمت عن الحق.
شخصية الأم في مسرحية (كلهم أبنائي) أفضل من يعبر عن هذا الصرع الذي تحدثت عنه سابقاً، فهي تبدو في قشرتها الخارجية، امرأة بسيطة وأم حنون مكلومة في فقد ابنها لاري خلال الحرب، وتصر على انتظاره وتحاول أن تجبر زوجها وابنها الآخر على نمط حياة يعيش في حالة انتظار لعودة الغائب، لكننا مع تصاعد الأحداث والوصول إلى ذروتها نكتشف أنها امرأة ذات سطوة ومارست سلطتها القائمةعلى القمع مع أفراد أسرتها وخاصة زوجها، الذي انصاع لتعليماتها الصارمة بخصوص الحفاظ على العمل، ونلاحظ ذلك في الجملة التي تقولها له دائماً (استعمل ذكائك يا جو). لعبت هبة الكومي دور الأم ببراعة وكان أداؤها موزوناً بميزان حساس لدرجة أنها نقلت ارتعاش توترها الدائم من أجل الحفاظ على عالمها المزيف إلينا على مقاعد المشاهدين.
محمد علاء خريج كلية الهندسة والذي ينوي الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، كان أكثر من عبر عن فساد منظومتنا التعليمية خاصة في بيوتنا، فلماذا يضيع هذا الممثل العبقري بالفطرة خمس سنوات من عمره في دراسة الهندسة، بينما مكانه الطبيعي هو خشبة المسرح أو أمام كاميرات السينما والفيديو. لعب محمد دور (جو كيلر) الأب ورجل الأعمال الأمريكي الذي خبر قسوة الهرولة في ماراثون العمل الشاق منذ طفولته، وقاسى الأمرين من قيم الرأسمالية التي قد تعصف بشقاء عقود طويلة من العمل في لحظة واحدة إذا فكرنا مرتين بخصوص واحد من تعليماتها. شخصية جو كيلر هي تعبير صريح عن الصراع الدامي بين معاني الإنسانية الفطرية وبين آليات الرأسمالية الطاحنة التي تجبرنا على اختيار بقائنا في مقابل بقاء الآخرين، فإما موتي أو موتكم؟ وهنا يصبح الفساد أمراً عادياً والقتل إجراء يومي بسيط، وهذا ما تم تلخيصه في جملة بسيطة صدرت مما يمكن اعتباره المذياع، والذي كان يعلن وقائع الحرب وسقوط واحد وعشرين طائرة بطياريها مقتولين، حيث قال ( الطائرات الفاسدة، كلكم فاسدون ونحن أيضاً فاسدون).
جو يحافظ على عمله في مقابل خسارة صديق عمره وقتل 21طياراً ببيع 21 غطاء سلندر للطائرات بها شروخ كبيرة، وهو لا يرى في الأمر غضاضة بقوله:" كنت أحافظ على العمل، كيف يكون الإنسان بلا عمل؟ إنهم قد يعصفون بك في لحظة واحدة ويضيع شقاء أربعين عاماً من العمل، ماذا يفعل رجل في الواحد والستين من عمره إذا ضاع عمله لمدة أربعين عاماً) ... كل الجمل الحوارية الشبيهة بتلك تعمق وتؤصل لفساد الرأسمالية، التي تلهب ظهر الإنسان طوال الوقت من أجل البقاء في مقابل فناء الآخرين، لكنه في النهاية يمزقه الجذب بين شقي الرحى، فابنه الأول قد يكون واحداً من هؤلاء الطيارين وإن أنكر ذلك طوال الوقت قائلا (لاري لا يقود طيارة بي فورتي)، وابنه الثاني لا يسامحه على فساده.
شخصية الإبن أيضاً وإن بدت في أول المسرحية بسيطة ولا تحمل في طياتها تركيبات نفسية معقدة، إلا أننا تدريجياً ندرك أن (كريس كيلر) والذي جسد دوره سعيد سالمان بجدارة شديدة البهاء، يحمل داخله الكثير من التناقضات، فكريس يجسد الجيل الثاني من الرأسمالية، هذا الجيل الذي خرج إلى العمل لينعم بما قدمه لهم آبائهم من عمل منظم ومستقر، فمارسوا العمل دون أن يبذلوا في سبيله الشقاء والمعاناة ودون أن يشعروا بالخوف من فقده، وبالتالي نمت داخلهم قيم إنسانية رومانسية، تنتصر للحب والانتماء وهذا ما يسخر منه الوالد جو كيلر دائماً بقوله (ابني رومانسي)، هذا الابن الذي يعيش ممزقاً لأنه عاش بسبب جبنه بينما مات أصدقائه الطيارين وأخوه لأنهم كانوا  منتمين للوطن وأكثر شجاعة منه. لكن هذا الابن أيضاً يجسد قيمة (قتل السلطة الأبوية)، ويظهر هذا في التحول من الانصياع المستمر لرغبات الأم والأب ومحاولة الفوز بمكتسبات يوافقون عليها بالتحايل والإقناع، إلى إعلان الرفض وفرض رغباته بقوة، سواء على الأم بأن توافق على زواجه من (آن دييفر) محبوبة أخاه لاري، أو بمحاولته قتل والده عندما اكتشف أنه المجرم الحقيقي الذي تسبب في قتل الطيارين.
وهنا نصل إلى سلطة الدولة التي تقوم على مبادئ الرأسمالية، فهدم السلطة الأبوية التي يقوم بها الابن، لا تقتصر على والده وإنما تمتد إلى الدولة نفسها التي تتحكم بالحرب في الشعوب، والتي تستخدم القيم الإنسانية لجر مواطنيها في معارك لا تفعل سوى ضمان عجلة الآلات دائرة في مقابل انطفاء الإنسان نفسه، وقد برع المخرج نور عبد الله في ترجمة مقصد آرثر ميللر من وراء هذه المسرحية، فميللر لم يكن يعني فقط تعرية الفساد في الحرب، وإنما كان يرمي إلى كشف لعبة الحرب التي تستخدمها الرأسمالية دائماً من أجل الحفاظ على جذوتها مستعرة، وهذا ما فهمه الأب ونفذه ليحفظ بقائه وبقاء عائلته، وهذا ما يهدمه الابن.
ومن أهم المشاهد في المسرحية، والتي جسدت قمة الصراع بين كافة الشخوص وكل واحد فيهم يحاول أن يفرض سطوته ومبادئه على الآخرين، ذلك المشهد الذي قسم فيه المخرج فضائه المسرحي إلى قسمين، حيث الجدل دائر بين الأب والأم في الجانب الأيسر من مقدمة الخشبة، وجدل موازٍ آخر يدور في مؤخرتها على اليمين بين الأخوين آن وجورج دييفر، ويمثل هذا المشهد في رأيي قمة الوهم الذي يعيشه الإنسان في ظل سيادة قيم الرأسمالية، فالكل يكذب حتى على نفسه من أجل أن يبقى حياً، حياً فقط ولا ينعم سوى بالشقاء.
رغم البساطة التي قد يبدو عليها ديكور المسرحية، وما يعتقده البعض من كونه استاتيكي جامد، إلا أن الحقيقة أنه ينبض بالحركة والحيوية لما يحتوي عليه من تفاصيل دقيقة تعبر عن حالة الأسرة التي نتعامل معها، وتتضامن الإضاءة مع الديكور في بث الحركة فيه وتطويعها لتحرك الممثلين داخل الفضاء المسرحي، الذي استطاع المخرج في انسيابية شديدة أن يعبؤه على عكس ما قد يبدو عليه في بداية الأحداث.
لا يسعني في البداية سوى القول أن هؤلاء الشباب الجامعي، استطاع أن يقدم مسرحاً احترافياً واعياً عالي القيمة في كافة عناصره، بشكل أفضل بكثير من محترفين، نتعامل مع إنتاجهم كل يوم ونحن نعتقد أن هذا هو أفضل ما يمكن الحصول عليه في مصر.

المقال نُشر في نشرة المهرجان القومي للمسرح 2018

السبت، 11 أغسطس 2018

"مركب بلا صياد" .. طرح جريئ لقيم الرأسمالية العالمية باستخدام تيمة "فاوست"





شهد اللعب على تيمة فاوست للأديب الألماني الكبير يوهان جوته، تجارب درامية متعددة سواء كانت معالجات مسرحية أو سينمائية أو حتى تليفزيونية، وهذه هي التيمة التي تتخذها مسرحية  "مركب بلا صياد" مرتكزاً لها حتى تغزل خيوط أحداثها الدرامية، وإن كانت قدمت طرحاً جديداً للفاوستية، بأنه يمكن للإنسان أن يمزق عقده مع الشيطان ليخرج عن سطوته ويستعيد حياته ليبدأ من جديد.
المسرحية مأخوذة عن نص مسرحي شهير للكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا، والتي ترجمها دكتور محمود علي مكي إلى العربية، ولكن عمرو قابيل الذي لعب ثلاثة أدوار هامة في هذه المسرحية (الدراماتورج والمخرج وبطل العرض)، لم يكتف بالتركيز على المعاني الإنسانية التي تعمل المسرحية على طرحها، واستغل الفرصة جيداً ليقدم محاسبة محسوبة بدقة لآليات الرأسمالية العالمية والسوق الحر ونتائجها المدمرة على الإنسان والقيم الاجتماعية، دون أن يقع في فخ المعلومات الاقتصادية الجامدة، فخرجت مغزولة بحرفية عالية ضمن الإطار الدرامي العام لأحداث المسرحية ككل.

ربما كانت شخصية الشيطان الذي لعب دوره بجدارة الفنان الدكتور هاني عبد الناصر، هي أكثر الشخصيات اللافتة في المسرحية، فهي مكتوبة بشكل يكسر الإطار النمطي المعتاد للشيطان، فهو شخصية حديثة وشابة، يعرف جيداً كيفية اللعب مع الإنسان المعاصر، الذي أعاد توصيف الشر وأعطى لأشكاله غير المباشرة تبريرات قانونية، فأصبح الشر فقط هو ما نقوم بفعله بأيدينا وليس ما نشير نحوه بأصابعنا من بعيد، وهنا تبدأ اللعبة التي تنسكب في مراحلها الأحداث.


شخصية ريكاردو خوردان أيضاً والتي لعبها عمرو قابيل، كُتبت بأسلوب ينم عن وعي شديد بتفاصيل اختلافات الإنسان المعاصر، الذي يعيش مجموعة من القيم المغايرة عن تلك التاريخية، وبالتالي فلا يمكن له أن يخاف أو يرتعش من مقابلة الشيطان، بل سينكره حتماً ويتعامل معه على أنه رجل جاء لينصب عليه، كما أن عمرو قابيل بوصفه دراماتورج تميز بالوعي الشديد عندما أفصح في شخصية خوردان عن وعيها الشديد بقذارة اللعبة  الرأسمالية في مقابل المعاني الإنسانية البسيطة، وجسده كونه مرتاحاً مع قيمه هذه ولا يرى في عكسها سوى خرافات قديمة، وعند هذه النقطة يتم الاتفاق ويوقع خوردان على عقد الشيطان بشروطه وهي (أن يقتل إنساناً دون دم)!


لعبت الموسيقى والمؤثرات الصوتية دوراً هاماً في المسرحية، فنحن لا نستمع إلى موسيقى واضحة تصاحب الأحداث، بقدر ما تقابلنا مؤثرات صوتية تمثلت في صوت البحر في المشهد الأول منها، كذلك جاء صوت قطرات الماء مؤثرة جداً لتجسيد بعض المعاني التي تطرحها الأحداث، ناهيك عن استخدام الموسيقى الدرامية المثيرة التي تمهد للمشاهد عملية الانتقال لحدث فاعل يشكل تحولاً في الدراما، أو يفسر موقفاً ما. هناك أيضاً الأصوات التي تنقلنا إلى الشارع خارج الكوخ البسيط الذي تجري داخله معظم الأحداث، مثل صوت الباخرة التي تستعد للرحيل.
الديكورعلى بساطته جاء موحياً ومعبراً عن تركيبة الشخصيات داخل المسرحية، فنحن لا نتحرك مع الأحداث إلى أماكن كثيرة تتغير قطعها على خشبة المسرح، وإنما نتعامل مع بيت خشبي فقير لأرملة وجدتها العجوز ورغم فقر البيت إلا أنه يوحي بالمحبة وغنى النفس، وعندما ينقلنا المخرج إلى مشهد خارج البيت، فهو لا يحرك قطعاً كثيرة، ولا يستبدل أيها بقطع أخرى، فقط تلعب الإضاءة دور كبير في إخفاء ملامح الكوخ والحديقة التي يطل عليها، ويتم تحويل مكتبة المراكب الشراعية الصغيرة إلى بار في منزل الرأسمالي خوردان.
الإضاءة تلعب دوراً موحياً آخر في عرض "مركب بلا صياد"، فنحن في بداية العرض نتعرض لإضاءة قاتمة وحزينة تعبر بصدق عن الحالة التي تعيشها الأرملة وجدتها اللتان تعانيان من الفقد والحرمان بعد موت بيتر أندرسون زوج ستيلا أو الفنانة راندا التي لعبت دور الأرملة، ولكننا في نهاية العرض وبعض أن يعيش أليخاندرو بين هاتين السيدتين الحزينتين تتحول الإضاءة إلى أنوار صريحة وكأن الشمس تغمر البيت الفقير وهو ما تدعمه الأحداث حيث ظهور الشمس في بلد يمتد فيها الشتاء إلى ثمانية أشهرفي السنة.


يستخدم النص تقنية الفلاش باك في الأحداث، فنحن نبدأ المسرحية من منطقة الفقد والحرمان للسيدتين جراء مقتل الزوج بيتر أندرسون، وحالة الغل التي تعيشها الزوجة التي ترملت على غير توقعها فجأة، ثم نعود إلى الوراء لنتعرف على ريكاردو خوردان، الضيف الغريب الذي هبط من السفينة باحثاً عن بيت زوجة أندرسون، لنعود بعد ذلك إلى نفس المشهد الذي عدنا منه إلى الخلف. تُستخدم هذه التقنية مرة أخرى عندما يتذكر خوردان النتائج المثمرة لعقده مع الشيطان الذي أنقذه من إفلاس محقق، وكيف فقد بعدها قدرته على الحياة أو الإحساس بالسعادة.
تنتهي المسرحية نهاية سعيدة تقليدية حيث ينتصر الإنسان على الشيطان ويهزمه بالخروج على سطوته وسيطرته، لتعيش الشخصيات في سعادة بعد ذلك، وهذا ما يمكنني الاعتراض عليه، ربما لعدم واقعيته فلا يوجد رأسمالي على استعداد لترك كل ما يملك ليعيش حياة الفقراء، التي صورها قابيل بشكل تقليدي لا يتناسب وحداثية رسمه لشخصيات المسرحية، فالفقر ليس جميلاً في النهاية وليس هو السبيل إلى النوم الهادئ والمطمئن، وإن كان من الممكن تفسير هذا الأمر بأنه لا يقصد الفقر ولكن يقصد الحياة في حضن الطبيعة والبساطة بعيداً عن تعقيدات التكنولوجيا وآليات العمل الحديثة التي لا تقوم على الإنتاج الحقيقي وإنما تدوير المال وتحقيق الربح من التجارة فيه.
في النهاية نحن بصدد مسرحية تحقق معادلة متعة المشاهدة، ومتابعة طرحاً جريئاً للعبة الرأسمالية العالمية الحديثة والتي يؤكد الكاتب والمخرج عمرو قابيل، أن نتائجها لا تختلف كثيرا عن نتائج اتباع الشيطان.
المقال منشور في نشرة مهرجان المسرح القومي 2018

الجمعة، 3 أغسطس 2018

عرض الرقص المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" ... بلاغة مسرحية تليق باسم محمود دياب



ربما كان وصف (عرض مؤثر) أبسط ما يتبادر إلى الذهن عند مشاهدة عرض الرقص المسرحي المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" المأخوذ  عن مسرحية الكاتب الكبير محمود دياب والذي يحمل المهرجان القومي للمسرح اسمه في دورته هذا العام، فلقد استطاعت الرؤية المسرحية المعاصرة للمخرجة والكريوجرافر المتميزة سالي أحمد، أن تقدم المسرحية في ثوب مختصر لكن يلخص بعمق القيمة التي سردها النص الأصلي للكاتب الكبير، واستطاعت أيضاً أن تقدمها في لغة الرقص المعاصر الممزوج  بالحوار المسرحي بشكل رومانسي مؤسي وبليغ.
في مثل تلك  العروض التي تجمع بين الإطار المسرحي التقليدي القائم على الحوار بين الشخصيات، والتعبير الإيحائي من خلال تكنيك  الرقص المعاصر، اعتاد الجمهور أن يلعب دور الشخصية اثنان؛ واحد يقدم الأداء التمثيلي وآخر يقدم الأداء الراقص، ولكن هذه المرة نشاهد البطل والبطلة يقدمان كلا الأدائين التمثيلي والراقص في نفس الوقت، وهو ما لم نكن واعين لإمكانية حدوثه بإمكانايات الفنانين المصريين الحاليين، واستطاعت سالي أحمد أن تفصح عنه بسلاسة شديدة، عندما اختارت الممثلة والراقصة ريم أحمد لتلعب دور الزباء (زنوبيا) ملكة تدمر والممثل والراقص طه خليفة ليلعب دور عمرو بن عدي ملك الحيرة.
المبهج بالفعل أن طه وريم زوجان في الحقيقية، وربما لعب ذلك دوراً كبيراً في حالة الانسجام الهارموني الشديد بينهما على خشبة المسرح، لكن الجميل أيضاً أن نعرف أن هناك بيتاً في مصر يضم موهبتين شاملتين وكبيرتين تستحقان تسليط الضوء عليهما واسناد أدواراً متنوعة لهما في المستقبل، تترجم لنا حالات درامية كثيرة تفتقدها ساحتنا الفنية، فقط لأننا كنا نعتقد أنه لم يعد لدينا نموذج الفنان الشامل.

جاء عرض "أرض لا تنبت الزهور" في ثوب مغاير لتلك العروض المسرحية المستوحاة من التراث والتي غالباً ما تحمل في طياتها معانٍ فلسفية عميقة يتم ترجمتها من خلال أدوات مسرحية مقعرة تستهدف مشاهد من نوع خاص،  فلقد ارتدت هذه المسرحية ثوباً رومانتيكياً رائقاً، يسحب الأنفاس ويحملنا على جناحيه نحو سماوات عذبة ومبهجة، رغم مأساوية النص الذي يتباكى على معاني  الحب والخير والجمال، التي لا يمكن أن تنبت في أرض قاحلة تملؤها الكراهية والحقد، بشكل يحمل الكثير  من الإسقاط على حال زماننا، رغم  أنه يسرد قصة تاريخية وقعت أحداثها في منتصف القرن الثالث الميلادي.
لطالما كانت قصة الملكة زنوبيا التي قُتلت بيد حبيبها الشاعر عمرو بن عدي أو انتحرت في رواية أخرى وهو ما تبناه نص العرض الذي نكتب عنه الآن، مصدر إلهام لكثير من الشعراء والكتاب على مدار العصور، فهي تجسيد لما يمكن أن يكون عليه الإنسان، عندما ينتصر داخله الحقد والغل على الحب، ولقد تم تجسيد هذه القصة التراثية على خشبة المسرح كثيراً من قبل، لكن هذه المرة تأتي القصة المأخوذة عن نص محمود دياب، في شكل يروي لغة جديدة سواء على مستوى المعالجة النصية نفسها، حيث تجسيد التشتت بين الحب والحقد، أوعلى مستوى تصميم الرقصات التي عبرت عن التوتر الذي ينهش جسدا البطلين ويجعلهما في حالة مجهولة بين الوعي بالحياة وغيابها تماماً عن جسديهما، بين الإحساس بالقوة والسلطان وبين الإحساس بالقهر والعبودية أمام هذه السلطة التي تسلب الإنسان أبسط ارتجافات تنبت على كف العشق.

استعانت المخرجة سالي أحمد ببعض من تقنيات السينما على خشبة المسرح، فمن خلال الإضاءة نقلت لنا أسلوب القطع في المشاهد السينمائية، بل والمزج والتداخل بين مشهدين، كما تمكنت أيضاً من تقريب الصورة بتجسيدها في عمق المسرح، من خلال الإظلام التدريجي والانسيابي للإضاءة على خشبة المسرح حتى لا يتبقى لنا سوى بقعة ضوء تجسد لنا الصورة التي ترغب في تركيز أعيننا عليها.
لعبت الألوان دوراً كبيراً  في هذه المسرحية، فلقد كانت بشكل كبير الناقل المباشر للمشاعر التي تؤهلنا لها المخرجة كي نستقبل المشهد الجديد بالصورة التي ترغبها تماماً، وذلك من خلال ألوان الإضاءة التي تراوحت بين الأحمر الدموي الذي يمتزج بالأسود، والبنفسجي القاتم الذي يعبر عن الحب المكبوت في الصدور. جاء اختيار ألوان الملابس متناسباً بدقة مقصودة مع ألوان الإضاءة وكان تصميم الأزياء مميزاً في حد ذاته، فلقد استطاع مصمم الأزياء أن يجمع بين أسلوب العصر الذي تدور أحداث المسرحية فيه، وبين الخطوط المناسبة للحركات الراقصة التي تتطلبها طبيعة العرض الراقص.
ولايمكن أن نغفل الإشارة إلى موسيقى العرض، التي ساهمت بشكل كبير في جذب المشاهدين واندماجهم تماماً مع العرض، واستطاع مؤلفها أيضاً أن يمزج بين روح عصر المسرحية، وروح العصر الحالي وتحديداً في المشاهد التي تُفصح عن اختيار الانتقام والحرب على الحب.
منذ زمن لم أشعر بأنني لا أرغب في مغادرة المسرح، لكن عرض الرقص المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" أعاد لي تلك الرغبة، فأنا لم أكن أرغب في أن يُسدل الستار وتنتهي المسرحية من فرط بلاغتها الفنية التي شملت كل العناصر بلا استثناء، فخرجت تليق حقاً باسم محمود دياب، وتؤكد أن المسرح المصري باقٍ لأبد الدهر.
المقال منشور بجريدة القاهرة عدد 31 يوليو 2018