الاثنين، 4 مايو 2020

"في قفا راجل" كوميديا اجتماعية تفضح ممارسات القمع ضد المرأة




تعد الكاتبة والمخرجة المسرحية نسرين نور، واحدة من أكثر المهتمين والشغوفين بالمسرح، فهي لا تفتأ تنتهي من دراسة مسرحية أياً كان نوعها، حتى تدخل في أخرى، كما أنها تتمتع بدأب شديد، زانتماء قوي لنصها المسرحي، فتظل وراءه حتى تعثر على الإنتاج المناسب له، ليخرج إلى العلن مجسداً تجربة مسرحية مميزة، ونصاً يقدم أفكاراً هامة وحداثية بأسلوب السهل الممتنع.
على مسرح مركز جوتة الثقافي وفي "التحرير لاونج" تحديداً، قدمت سمر مسرحيتها "في قفا راجل"، حيث لعبت البطولة الفنانة الكبيرة ماجدة منير مع الشابين رحاب فوزي وحازم الصواف. تعالج المسرحية الصراع الاجتماعي الذي يفرض على المرأة شكل محدد، عليها الالتزام به وإلا فهي تعيش طوال الوقت في مواجهة حياتها المؤجلة، تحلم بكل أسباب السعادة لكنها لا تنفذها رغم استطاعتها المفردة على ذلك، لأنها وكما كانت تقول لها والدتها باستمرار يجب أن تعيش في حما رجل (ظل رجل ولا ظل حيطة) كما يقول المثل الشعبي.
تجسد نسرين هذا الواقع الاجتماعي من خلال اشتباك متخيل بين فتاة في الثلاثين من عمرها وأمها المتوفاة، والتي رغم وفاتها؛ تظل حاضرة بتعاليمها وأفكارها كرجع صدى دائم التردد في مؤخرة رأس ابنتها، ولا يمكن الفرار منه. وهنا تصوير لمدى قدرة العادات الثقافية التي تربينا عليها، أن تكبلنا مهما كانت خاطئة، فنظل نتعرقل في أحابيلها مرة تلو أخرى، دون أن نعلن فشلها، لنظل نحاول إنجاحها حتى ولو بلي عنق الواقع، حتى ينتهي العمر لنكتشف مؤخراً أن عمرنا ضاع سدىً.
بلغة بسيطة وإطار كوميدي اجتماعي، تقوم نسرين نور بتشريح المجتمع ثقافياً، حيث الحوار بين الأم وابنتها، هو في الأساس محاولة لانتقاد الثقافة العامة السائدة بين الناس ونظرتهم للمرأة، التي هي على الغلب مجرد "شئ" يتم تداوله فيما بينهم، حتى فيما بين النساء أنفسهن في عداء واضح لذواتهن دون إدراك واضح لذلك.
تركز مؤلفة "في قفا راجل" على فضح النظرة الذكورية للمرأة مهما اختلف الوضع العلمي والمعرفي للرجال، فهي تبدأ بالفتاة في مواجهة رجل تحبه وتحاول بكل ما أوتيت من قوة، استدراجه لمنطقة الزواج حتى تنال شرف الاعتراف المجتمعي، ولكن هذا الرجل الذي يظهر باعتباره شخصية عامة تخرج في القنوات التلفزيونية لتدلي بدلوها باعتبرها مثقفة ومؤمنة بالحريات، تبدو تصرفاته عكس أقواله، فهو لا يخرج عن إطار النظرة الدونية باعتبارها مصدراً لمتعة الرجل أو لخدمته، فتجده يطلب منها الارتباط به دون زواج، ما يجعلها تعود إلى منزلها محطمة الفؤاد، في مواجهة شبح أمها التي تتهمها بأنها بالتأكيد ظهر منها تصرف غير لائق، أوحى له بأنها فتاة غير شريفة!


تتوالى الأعوام، حيث تعمد نسرين إلى إلقاء الضوء على مرور الزمن في مواجهة حياة المرأة، لتبرز تبدد عمر المرأة في محاولة لأن تعيش آليات الحياة البسيطة ولكن بموافقة المجتمع وشروطة. يمر الوقت ويبدأ سقف طموحات الفتاة في الاضمحلال، فترضى بزميلها المتزوج بالمدرسة، والذي من الصعب أن تقبله كشريك حياة لها لو كانت في ظروف طبيعية، ولكن وكما يقول المثل الشعبي: (رضينا بالهم والهم مش راضي بينا)، يشترط هذا الرجل عليها أن تتزوجه في السر، بطريقة المسيار، اتقاء لشر زوجته وأبنائه.
تمر نسرين أيضاً على دور مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات في بيع وهم الحب والزواج للفتيات المتلهفات، وكيف أن رجال الإنترنت من ورق، فالحياة الافتراضية لا ينتج عنها سوى افتراضات وهمية لواقع غير موجود من الأساس. تبرع نسرين في رسم مشهد العريس الإليكتروني في كوميديا عبثية تضج معها مقاعد الجمهور بالضحك، رغم مأساوية الواقع الذي نشاهده من خلال الفتاة المصدومة وروح أمها التي تتألم من قهر الموقف.
وبأنامل أنثى تعي تماماً دواخل النساء غير المعلنة؛ تستخدم الكاتبة والمخرجة رموزاً، تمر عليها عبر أحداث المسرحية، ترمز من خلالها إلى حق المرأة للاستمتاع بجسدها المحبوس في الملابس التي تغطيها في الخارج، والملابس التي لا تستطيع الاستمتاع بارتدائها في الداخل، لأنها وفقاً للمجتمع لا ينبغي أن ترتديها لنفسها، بل للآخر (الرجل)، هذا المُنتظر عبثياً للأبد دون دليل مؤكد على بزوغ نجمه في أي وقت، فنجدها تدخل من وقت لآخر إلى منزلها وبالتحديد في يوم عيد ميلادها، وفي يدها حقيبة ورقية تحوي قميص نومٍ عارٍ لتضعه جوار (أخواته) كما تقول، في انتظار من لا يأتي أبداً، وهي تنظر لجسدها أو تتحسسه في حسرة على ذبوله التدريجي دون أن تنطفئ شهوته أو يُروى شبقه الطبيعي. تتلو الكاتبة هذه النقطة الخاصة بقمع المجتمع لجسد المرأة، ما يعد عنفاً غير مرئي أو معلن، بأسلوب يخرج بها من سياق الاتهامات بالجرأة، حيث يأتي في سياق العمل المسرحي مجسداً لحالة البؤس التي تعيشها بطلة المسرحية.
تستخدم نسرين نور سينوغرافيا سلسة، حيث إضاءة بسيطة تنساب بين الشخصيات لتجسيد بعض الأحداث بتركيز الضوء عليها، كما تستخدم المالتي ميديا من خلال شاشة برجويكتور، تعرض عليها مشاهد مصورة فيديو مسبقاً، تدعم الأحداث بالمسرحية، مثل الحوار التلفزيوني الذي يُجرى مع حبيب الفتاة الأول والذي يتخصص في الحقوق والحريات ولكنه لا يمارس تخصصه في الحياة.
استطاعت نسرين أن توظف الشخصيات جيداً من خلال اختياراتها للممثلين أيضاً، فلقد برع الممثل الشاب حازم الصواف في تجسيد الأدوار الرجالية بالمسرحية، بحيث تمكن من إعطاء كل دور وجهه الواقعي، بما يوحي بأن هناك ممثل مختلف لكل دور، فهو يجيد ارتداء القناع الخاص بكل شخصية. كذلك تمكنت رحاب فوزي من تجسيد دور الفتاة بتميز واضح وقدرة على تجسيد الكوميديا السوداء من خلال الشخصية البائسة المقموعة، ولكنها في نفس الوقت، مصدر انبعاث الضحكات الدائم خلال أحداث المسرحية. وبالطبع كانت عودة الفنانة القديرة ماجدة منير إلى المسرح من خلال دور الأم في مسرحية "في قفا راجل" اختيار متميز من فنانة تستطيع رؤية واختيار العمل المميز.

المقال منشور في جريدة القاهرة