الاثنين، 28 أكتوبر 2019

تجسيد مفهوم المسرح الهجين في "فلتحيا الحياة" السويسرية بالمهرجان التجريبي






الانطباع الدائم لدي أننا لم نخطو بأقدامنا بعد في عالم المسرح الذي ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين مقارنة بالإنتاج الأوروبي تحديداً، خاصة فيما يتعلق بالسينوغرافيا وعلاقة جسد الممثل بالفضاء المسرحي، ولكنني عندما شاهدت مسرحية ( viva la vie ) أو فلتحيا الحياة لفرقة إنترفانس السويسرية، اكتشفت أنه حتى ما شاهدته من إنتاج أوروبي سواء في مصر أو خارجها لا يمكن مقارنته بتلك التجربة المسرحية الفريدة من نوعها، وربما فرادتها تعود إلى أنها تشبه السيمفونية التي تستخدم العديد من الميلوديات المختلفة والتي تتناغم في بهاء لحظة عزفها في نفس الوقت وبآلات مختلفة، فلقد تمكنت هذه المسرحية من تحقيق ما يعرف بالـ Hybrid Theatre  أو المسرح الهجين، وحققت المعادلة الصعبة في جعل جسد الممثل هو الذي يشغل كل الفضاء المسرحي بحركة محسوبة بدقة سلسة حد النعومة المذهلة.


ورغم ما يؤمن به كثيرون بأن المسرح في شكله "التجريبي" كما يحبون أن يطلقوا عليه، لا يحتوي على قصة أو محتوى فكري مفهوم أو يقدم قضية إنسانية مثلاً، وهو ما أتفق معهم عليه في كثير من الأعمال المسرحية التي تنشغل بالصورة المسرحية أكثر من الفكرة، إلا أن مسرحية "فلتحيا الحياة" تقدم لنا نصاً إنسانياً فلسفياً، يناقش أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد هويته الأصيلة كإنسان وأصبح عبداً للتكنولوجيا التي منحته راحة زائفة في مقابل روحه، تماماً مثلما قايض فاوست روحه بالملذات. لكننا لا نتابع هذا المحتوى الفكري من خلال حواراً مطولاً بين الشخصيات، فلقد نجح الكاتب المسرحي توما لوباشيه في تشكيل نص مسرحي يغطي به مساحة زمنية واسعة، حيث تبدأ الأحداث عام 1900 وتستمر حتى وقتنا الراهن، إلا أننا لم نشعر بأي ملل أو أي نوع من أنواع الزحام في الشخصيات أو الأحداث أو الحوارات الطويلة والمملة (مثلما حدث في تجربة مسرحية شارع 19 للمصري محمود حديني التي امتدت لمائة عام)، فلم يكن هناك حواراً بالمعنى المفهوم في المسرحية، فقط بين الابن ووالده في البداية بينما جسد باقي أفراد الأسرة أدوارهم بالتعبير الجسدي، وظللنا نتنقل من عصر لآخر ببعض الجمل الحوارية الموحية والتي توصل المعنى دون الكثير من الشروح والديباجات، فالكلمة هنا تلعب دوراً متضافراً مع باقي عناصر المسرحية التي شملت الرقص والغناء وحتى ألعاب السيرك المذهلة!


تدور المسرحية حول تحول الإنسان من حياة الزراعة إلى حياة التكنولوجيا الحديثة، بسرد كيفية الانتقال بداية من عام 1900 وتحول النشاط الإنساني من الزراعة إلى العمل في المناجم والبحث عن الثروات واللهث وراء فكرة الراحة والمستقبل الأفضل، ورغم أن الجد الأكبر حاول أن يثني ابنه عن الانخراط في العمل المنجمي وترك الأرض، إلا أن الابن يترك القرية ويجري وراء حلم الثراء الجديد، ونظل نلهث ورائه ومن ثم ابنه فابنه فابنه حتى نصل إلى عصرنا الحالي عندما يقرر الحفيد المعاصر أن يترك حياة المدينة التي حولته إلى آلة بلا مشاعر، ليسافر إلى صديق له، يمتلك مزرعة في ريف أسبانيا ويعيش على منتجات أرضه وماشيته دون أن يتورط في العالم الرأسمالي المعدني، في محاولة ناجحة من لوباشيه للسخرية من الإنسان الذي تمرد على المزرعة ودمرها ليعود ويبحث عنها من جديد!


المخرج أندريه بجنا والذي وضع الموسيقى أيضاً، قدم معادلاً بصرياً رائعاً لهذه القصة الإنسانية الموجعة، فنحن نشاهد من خلال التشكيلات الحركية الراقصة صراع الإنسان مع الحياة في رحلته السرمدية للبحث عن الراحة، ومن ثم ابتعاده تدريجياً عن قيمه الإنسانية ووداعته الروحية، وانغماسه في أسلوب الحياة الرأسمالية المادية، فنرى التحولات الكبرى من جيل إلى جيل في الملابس التي يتم تبديلها على خشبة المسرح حيث تصميم شديد الذكاء للملابس بحيث يتم تعديلها بحركات بسيطة لتناسب العصور المتعاقبة، والأدوات المنزلية حيث يحمل الممثلون أو الراقصون في أيديهم أجهزة حديثة مثل (سيشوار الشعر، المكواة، الخلاط، المكنسة)، مع رصد لتسارع التطور التكنولوجي مع ظهور الراديو والتلفزيون واختفاء العلاقات الأسرية تدريجياً، لنصل في النهاية إلى التواصل عن طريق أجهزة الهواتف الذكية، حيث تحرر الجميع من المهام الشاقة التي كانت تثقل كاهل الإنسان في الماضي، لكن في المقابل فقد الإنسان علاقته بالآخرين وفقد روحه ليعيش منعزلاً ومغترباً داخل ذاته الوحيدة.

تلعب الموسيقى دوراً كبيراً في سرد تلك المرثية الإنسانية الناعمة، فلقد استطاعت أن تشد الانتباه لكل التفاصيل التي يتم سردها على خشبة المسرح، فهي لا تستأثر بالأذن فقط، بل تحتجز العين وترغم العقل على التركيز الشديد في أدق التفاصيل بالعرض، وتلعب دور عصا الساحر فتحرك العين نحو الجانب الأكثر صخباً في الأحداث من جوانب المسرح، فلا تشعر وأنت في مقعدك بأن هناك فراغ ما في أي بقعة على الخشبة، وتنشغل تماماً بما يرغب المخرج ومؤلف الموسيقى في نفس الوقت أندريه بجنا أن تنشغل به. حالة من السحر المسرحي القوي الذي يسحبك إليه بإرادتك فتغيب لمدة 55 دقيقة، ولا تفيق إلا عند توقف الموسيقى/ توقف الحركة.


من أكثر الأشياء التي لفتت النظر في المسرحية لاعب السيرك الذي يلعب بالكرات البلورية والعصي المعدنية، ليجسد معادلاً تعبيرياً للحدث المركزي بالمرحلة الزمنية التي نعيشها مع أحداث المسرحية، فعندما كان الصراع في البداية من أجل الحصول  على المياة لري المحصول، جسد هذا الصراع بكرات بلورية يحركها بنعومة توحي بانها قطرات مياه منسابة بين يديه، وعندما نبدأ في صراع الآلة وتحول الحياة الإنسانية إلى معدنية أكثر فأكثر، نشاهده يجسد ذلك من خلال أقواس وأعمدة معدنية تسيل بين يديه!


المغنية أيضاً التي كانت تشكل ظلاً صوتياً لبعض الحوارات والأحداث، لتعمق من إحساسنا بالفقد لإنسانيتنا التي تخلى عنها أجدادنا من أجل الركض وراء الرفاهية بالاعتماد على الآلة ومن ثم التكنولوجيا التي أفقدتنا تواصلنا حتى مع أنفسنا، فقد كانت تتحرك كشبح من وراء الشخوص والأحداث، حيث خشبة المسرح تخلو من قطع الديكور تماماً فيما عدا طاولة ومقعدين يتوسطان الخشبة يبدأ عليها حوار الأب والابن جالسين على طرفيها في بداية القرن العشرين، وينتهي أمامها حوار الأب والابن الحديثين عبر سماعة الهاتف الذكي والابن يخبر والده أنه كان يتمنى أن يمضي وقتاً طويلاً معه على أن ينشغل كثيراً خارج المنزل من أجل أن يشتري له أجهزة لم تعوضه عن غيابه!
مسرحية "فلتحيا الحياة" شكلت نقطة بدء لمفهوم المسرح الحديث الآن، المسرح الذي يستطيع أن يحاكي العصر ويحاكي الجمهور أيضاً، فلقد شكلت وجبة دسمة جداً من الحركة الراقصة والأداء التمثيلي والموسيقى والغناء وعروض السيرك، لتخرج من باب مسرح الجمهورية الذي عُرض عليه وأنت مأخوذ تماماً بهذه التعويذة المسرحية التي أُلقيت عليك في الداخل.

المقال منشور بجريدة بالقاهرة 


الثلاثاء، 15 أكتوبر 2019

في افتتاح المعاصر والتجريبي .. "الخياليون" يبهر الجمهور من فرط بساطته




عرض الخياليون أو the fantasticks  هو أطول عرض مسرحي موسيقي مازال يعرض حتى الآن ومنذ عام 1960 في الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يُعرف بعروض "الأوف برودواي" وهو المصطلح الذي يُطلق على العروض التي تُقدم على مسارح منهاتن بنيويورك، والتي لا تتسع لأكثر من 499 مقعد، وهي مسارح أصغر من مسارح "برودواي" الأكثر شهرة عالمياً ولكنها تظل أكبر من مسارح "أوف أوف برودواي" والتي لا تتسع مقاعدها لأكثر من مائة مقعد.


يكتسب هذا العرض أهميته من كونه أطول عرض باقي على قيد الحياة، فهو يُعرض من تسعة وخمسين عاماً حتى الآن، ورغم بساطة خيوطه الدرامية وعدم اعتماده على الإبهار الحركي أو الديكور الخيالي، إلا أنه استطاع أن يستقر في وجدان الجمهور الأمريكي من خلال الموسيقى العذبة الرومانسية التي ألفها هارفي شميدت، وكلمات الأغاني التي كتبها توم جونز، لتتحول بعض الأغاني لجزء من الوجدان العاطفي الأمريكي مثل "حاول أن تتذكر" try to remember التي خلبت لب الجمهور في كل مكان بالعالم، وأحدثت نفس الأثر مع جمهور الدورة السادسة والعشرين من مهرجان المسرحي المعاصر والتجريبي، في حفل الافتتاح.


ربما لا ينتمي عرض "الخياليون" بأي حال من الأحوال إلى التجريب المسرحي، فهو ينتمي بوضوح إلى الشكل التقليدي للمسرح وإن اعتمد على ديكور بسيط يعتمد على خيال المشاهد أكثر من استخدام القطع الثابتة أو المتحركة، كما أن المسرحية الموسيقية استخدمت تكنيكاً سردياً قديماً جداً، حيث هناك راوِ يتحرك بوضوح ويلعب دور الإله الأعلى الذي يحرك الأحداث ويوجه الشخوص ويشرح الأمور غير الواضحة للجمهور، إضافة إلى ما يشبه شخصية المهرج في مسرح العصور الوسطى، أو شخصية تتحرك في الفضاء المسرحي بلا دور أو علاقة بالأحداث أو الشخصيات، فقط تتحمل مسئولية وضع أو نزع بعض الموتيفات الإيحائية المؤثرة في الأحداث، مثل إخراج قرص يلعب دوري القمر والشمس وتعليقه بالعمود المستقر في منتصف المسرح كفاصل بين الممثلين وعازف البيانو وعازفة الهارب اللائي عزفا موسيقى المسرحية بشكل حي ومتفاعل مع الأحداث.


The Fantasticks  عبارة عن مسرحية موسيقية "Musical" رومانسية مضحكة، تحكي حكاية فتى وفتاة تحاول أمهما فصلهما عن بعضهما البعض منذ صغرهما، إعمالاً بالمثل القائل "الممنوع مرغوب"، فيطلب الراوي واسمه "إلجالو" من الجمهور استخدام خياله ومتابعة الأحداث في عالم يحكمه سحر ضوء القمر، فيقع الفتى في عشق الفتاة ويعيشان التحدي الذي نسجته كلا والدتيهما، ثم يواجهان العقبات الحياتية في لهيب الشمس فينفصلان، ليتوها في الحياة ثم يجدان طريقهما إلى بعضهما البعض في النهاية بعد أن يدركوا  الحياة وأنه من دون أوجاع يكون القلب أجوفاً.


مع الحد الأدنى من الأزياء، وقطع الديكور التي تكاد تنعدم من فوق خشبة المسرح، والفرقة الموسيقية التي تتكون من آلتين موسيقتين فقط، يشاهد الجمهور عرضاً حميمياً يمكن تنفيذه في أي مساحة من الفضاء المسرحي، بل يمكن أيضاً الخروج به من إطار العلبة الإيطالية لأي فضاء بأي زاوية، حيث تثير المسرحية الخيال بثنائياتها الحوارية وحتى في السرد الذي يوجهه الراوي "إالجالو" للجمهور، ومع موسيقى وأغاني رومانتيكية عذبة، تحكي حكاية بسيطة يمر بها أي فتى وفتاة في مقتبل العمر يتصوران أنهما امتلكا كل شئ واكتسبا كل المعارف التي ستمكنهما من تحقيق كل ما يطمحان به ويتحديان كل صروف القدر من أجل أن يكونا معاً ليستمتعا بالحياة، فتصيبهما الخيبات المتتالية، ليفترقا ويبدأ كل واحد منهما في اكتشاف قيمة الحياة الحقيقية وواقع الناس والأمور، إلى أن يكتسبا الخبرات ويصبحا أكثر نضجاً. كل ذلك من خلال سلسلة متتالية من الأغاني الجذابة التي تجد طريقها سريعاً نحو القلوب والتي أصبح الكثير منها الآن من كلاسيكيات الأغاني العالمية.


تتكون المسرحية من فصلين، في الفصل الأول تشاهد بناءً تقليدياً للحبكة الدرامية، حيث قصة ساذجة لا تحمل في طياتها أي نوع من أنواع الصراع سوى هذا التحدي الذي تضعه الأُمان للفتى والفتاة بأن تقيما سوراً يفصل بينهما وتوحيان لهما بأنهما ليسا على وفاق، لأنها تؤمنان بأن كل الأبناء يفعلن دائماً عكس ما يريد الآباء، وبالفعل يتحقق ما للأمين من أحلام ويرتبط الفتى والفتاة متحديان السور الفاصل بين المنزلين، وهنا عليك أن تعرف أنه لا يوجد تكوين لسور على المسرح، فهو مجرد عصاه يحملها مخرج العرض الذي يتحرك مرتدياً ملابس أشبه بالمهرج بين الممثلين وبلا دور يلعبه في الأحداث أكثر من إخراج قطع الديكور الصغيرة والموحية من صندوق أشبه بصناديق الكنوز في حكايات القراصنة الخيالية والذي يتوسط خشبة المسرح.
نتابع الأحداث التي يرويها "إلجالو" والذي يلعب دور الرب الأعلى للشخوص، فنحن نراه يوجههما بالاتفاق مع والدتيهما، ومن ثم نراه يضع في طريقهما العراقيل كي يعلمهما حقيقة الحياة من أجل أن ينضجا ويعلما أن الحياة، أعمق من التشبث بالأشياء والمظاهر، وأن القيمة الحقيقية تكمن في أن نكون مع من نحب دون توقعات أو رغبات خيالية.

ربما يكون أفضل ما كان في اختيار هذا العمل لعرضه بافتتاح المهرجان التجريبي والمعاصر في دورته لهذا العام، هو درس البساطة الذي قًدمه للمهتمين بالمسرح في مصر، فأنت لا تحتاج إلى قصة متشابكة ومعقدة في خيوطها الدرامية، ولا تحتاج إلى ملابس مبهرة وديكور خيالي كي تجذب الجمهور وتحقق النجاح الفني، أنت تحتاج فقط إلى خيال رائق وعمل درامي إبداعي صادق كي تحقق المعادلة الصعبة وتفوز بتصفيق الجمهور واستمرارية العرض.

المقال نُشر بجريدة القاهرة في سبتمبر 2019 

السبت، 5 أكتوبر 2019

"العذراء والموت"... سؤال العدالة بين الضحية والجلاد





للحظات شعرت بالخوف على الفنانة سماء إبراهيم وهي تجسد شخصية باولينا في مسرحية " العذراء والموت" التي قُدمت ضمن عروض المسابقة الأولى بالمهرجان القومي للمسرح في دورته الثانية عشر، فلقد تماهت تماماً مع الشخصية وكانت كمن ينزف روحه على خشبة المسرح، وهذا ما تأكدت منه بعد انتهاء أحداث المسرحية وذهبت لتهنئتها بعد انسدال الستار، فشعرت بجسدها يرتعش بين ذراعي، ورغم قلقي أن قد يصيب قلبها شئ، شعرت بالفخر لأن هناك فنانة مصرية بهذا الجبروت الإبداعي.
وفقاً للمترجم السوري علي كامل والذي ترجم النص الأصلي في طبعته الصادرة عن دار "مدى" للنشر، فإن الكاتب آرييل دورفمان قرر  لحظة وصوله أميركا لاجئًا، أن يجعل من كتاباته سلاحًا، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يومي، وساحة حرب ضد من شردّوه؛ من خنقوا صوت الحرية في بلاده؛ ضد وحشية وبربرية الاستبداد في كل مكان.


كان دورفمان يعمل أيام حكومة الليندي الشعبية في تشيلي بأمريكا اللاتينية، أستاذاً للأدب والنقد في الجامعة، ورُشح عام 1971 مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس الليندي في قصر لامونيدا، حيث يقول في واحدة من الحوارات الصحفية: كان علي أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع "يقصد يوم انقلاب بيونشيه على حكم الليندي وقتله مع كل رجاله في قصر الحكم"، كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي وجودهم في الأوقات الطارئة، وكان اسمي واحدًا من تلك الأسماء، لكن أحدًا لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح! لم أفهم السبب مطلقًا!!
بعد ثلاث سنوات وعن طريق الصدفة قابل دورفمان الشخص الذي كان مسئولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك، وسأله لماذا تركوه نائماً، فأخبره أنه شطب اسمه من قائمة المناوبة في ذلك الصباح لأنه: "لا بد أن يبقى أحد ما حيًا، ليروي ما حدث”.


إنه القدر الذي تدخل في الأحداث على نحو ما؛ فأحال دورفمان الى راوي حكايات، كي ينقل من خلال أعماله حقيقة ما حدث في انقلاب بينوشيه على الليندي برعاية أمريكية والتنكيل الذي حدث لكل أتباع الليندي والحكم البوليسي الذي عانت منه تشيلي طوال حكم بينوشيه.
مسرحية "العذراء والموت" والتي عُرضت للمرة الأولى عام 1991 على خشبة المسرح الملكي في لندن، محدثة ضجة كبيرة في الرأي العام، تجري أحداثها بعد انهيار ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي، حيث بدأت تظهر إلى العلن قصص المفقودين وأعمال التعذيب في السجون والمعتقلات، ومن خلال هذه القصص التي تابعها دورفمان بدقة، اختار حبكته الدرامية لمسرحية "العذراء والموت" وبطلة قصته باولينا التي رغم مرور خمسة عشر عاماً على أحداث تعذيبها في معتقلات الديكتاتور، مازالت تلعق جراحها المفتوحة ولم تندمل، حيث تعرضت للاغتصاب والتنكيل من قبل البوليس السري حينما قُبض عليها أثناء مظاهرات الطلاب وهي مازالت طالبة بكلية الطب، حيث كانوا يعذبونهم تحت إشراف طبيب ليضمن عدم موتهم تحت وطأة التعذيب، وكان هذا الطبيب يشرف على التعذيب وهو يستمع إلى موسيقى شوبرت "العذراء والموت".


من خلال خبر تم نشره بالجرائد لتلك المرأة التي احتجزت معذبها في بيتها لتخضعه لمحاكمة شخصية، استوحى دورفمان قصته، لكنه وقع في دائرة التساؤلات الخاصة بكيفية تجاوز الضحية لآلامها في مواجهة جلادها الذي لم يكن له أن يرفض أوامر التعذيب، وزوجها الذي يجسد جسر العبور من الديكتاتورية إلى الديموقراطية بتحقيق التسامح بين أفراد الشعب من خلال تحقيق العدالة! ولكن كيف يمكن تحقيق العدالة وسط كل هذا الصراع بين الضحية والجلاد؟! .. أسئلة كثيرة وقع في خضمها الكاتب حتى استطاع أخيراً أن يكتب مسرحيته والتي تُرجمت إلى لغات عديدة، وكذلك أُنتجت في رؤى مختلفة على خشبات المسارح العالمية، وهذا هو ما تقوم به سما إبراهيم كدراماتورج لهذا النص بالغ التعقيد والتشابك، حيث تطرح رؤية مغايرة لما تم طرحه للنص من قبل، مع رؤية إخراجية بالغة الرهافة والعنف في نفس الوقت، فهي تأخذ المشاهد منذ لحظة دخوله إلى صالة المسرح، حيث الستارة مفتوحة على ديكور لمنزل مُطفئ الأنوار والبطلة باولينا "سماء إبراهيم" تنام على الأريكة وتتحرك بين لحظة وأخرى بين المطبخ والنافذة التي تتوسط خشبة المسرح والنافذة الجانبية المجاورة للباب، فتنقل لك الإحساس بأن هناك امرأة تنتظر أحداً في قلق وخوف. تمتد هذه اللحظات التي تعيشها كمشاهد بين حدث مسرحي بدأ بالفعل في صمت وبين أفراد الجمهور الذين يتوافدون على الصالة ليجلسوا على مقاعدهم، ليشاركوك في هذا الاشتباك الصامت.


تبدأ المسرحية بعد ذلك لنتابع الأحداث بين باولينا الزوجة التي مازالت تعاني نفسياً من آثار تعذيبها في سجون الديكتاتور بينوشيه، والذي لا تأتي على ذكره الدراماتورج، فسماء تتركنا نتابع أحداثاً بلا مكان ولا زمان محدد طوال العرض، فقط تتوقع أن المكان في بلد من بلاد أمريكا اللاتينية بسبب الأسماء "باولين وزوجها جيراردو والطبيب روبيرتو" وعندما تذكر باولينا أنها عليها أن تترك منزلها على الشاطئ وتسافر مع زوجها المُحقق في قضايا التعذيب إلى "سانتياجو" تدرك انك في تشيلي، غير ذلك أنت بصدد حالة عميقة من السؤال الإنساني الذي بإمكانك طرحه في أي بقعة من بقاع العالم: هل من الممكن أن يسامح الضحية الجلاد؟ وهل يمكن للجلاد أن يترك الضحية تعيش لتفضح ممارساته غير الإنسانية؟


بين الضحية "باولينا" والجلاد "روبيرتو" وصوت العقل الذي يمثله المُحقق "جيراردو" تأخذك سماء إبراهيم باعتبارها المخرج والدراماتورج في حبائلها، فهي تورطك في الأحداث فتصنع منك الضحية والجلاد والمحقق، وتتركك في النهاية لتحدد من الذي يجب عليه أن يختفي من الحياة؟
في النص الأصلي للمسرحية يترك دورفمان النهاية مفتوحة أيضاً لأن السؤال الرئيسي لديه هو: هل يمكن للضحية أن تتجاوز ما فعله بها الجلاد ليعيشا سوياً في مجتمع ديموقراطي جديد؟ أم يجب أن تتحقق العدالة أولاً على أيدي المحققين ويُحاسب الجلاد على ما اقترفه من تعذيب؟ وهل يجب معاقبة كل الجلادين الذين لم يفعلوا سوى تنفيذ الأوامر وبالتالي نقع في دوائر صراع اجتماعية لا تنتهي؟
أدارت سما هذا السؤال/ الصراع في نسختها الإخراجية بشكل مغاير، فهي تُنهي المسرحية بوضع المسدس في أيدي الشخصيات الثلاث (الزوجة/ الزوج المحقق/ الطبيب الجلاد) ليتعاركوا جميعاً والمسدس بينهم، لتنطلق الرصاصة وتغلق ستائر الخشبة لتترك للمشاهدين الإجابة على السؤال: على من نطلق الرصاص؟


"العذراء والموت" التي أنتجها المعهد العالي للفنون المسرحية بميزانية ضئيلة جداً، استخدمها صناع المسرحية بذكاء ليخرج الديكور معبراً عن المحتوى الدرامي، حيث صالة منزل وركن بسيط يجسد المطبخ وطاولة السفرة، والشباك الذي يطل على الحديقة في صدارة الديكور ليشكل بؤرة الحركة يميناً نحو ما يمكن اعتباره  الحمام، بينما على جانبي الصالة هناك بابان واحد على اليمين يجسد باب غرفة النوم وباب على اليسار يجسد باب المنزل نحو الخارج.
الديكور الذي صممه محمد هاشم نجح في أن يخرج مُوظفاً جيداً لأحداث المسرحية، فلم يكن هناك شئ زائداً على الحاجة، حيث قامت سماء إبراهيم بتوزيع حركتها المسرحية بدقة داخله لتخدم كل حركة الأحداث، حيث تتحرك باولينا بين النافذتين في البداية بانتظار زوجها، ثم تتحرك وزوجها جيراردوا بين طاولة السفرة والمطبخ عقب عودته من الخارج، ثم تختفي داخل الحمام لمتابعة تسجيل زوجها المحقق لاعترافات الطبيب بأنه هو الذي عذب باولينا على أنغام شوبرت وهكذا. جاءت الإضاءة والموسيقى أيضاً متوافقة مع التواتر المتلاحق والمتصاعد بحدة للأحداث، وللحوار الشائك الدائر بين باولينا وزوجها والطبيب، فعمقا إحساس المتلقين من المشاهدين بالمشاعر المتضاربة لكل من الشخوص الثلاثة الذي يحاول كل منهم أن يكون هو الناجي، بما في ذلك الزوج المحقق الذي ينتهي به الأمر إلى متآمر ضد الضحية كي يحافظ على مكانته الاجتماعية التي وصل إليها.


يبقى أن أشيد بالفنانين إيهاب محفوظ ومحمد يوسف الذين لعبا دوري الزوج جيراردو والجلاد الطبيب روبيرتو باحترافية بليغة، فخرجت المباراة التمثيلية الدائرة على الخشبة بينهما وبين سماء إبراهيم "باولينا" حامية، تمكنت من الأخذ بتلابيب المشاهد منذ أول جملة حوارية وحتى النهاية لتُطلق الرصاصة ويتركوننا نتخبط بين الدهشة والسؤال: على من نطلق الرصاص؟


المقال منشور بجريدة القاهرة الثقافية في أغسطس 2019