الاثنين، 28 أكتوبر 2019

تجسيد مفهوم المسرح الهجين في "فلتحيا الحياة" السويسرية بالمهرجان التجريبي






الانطباع الدائم لدي أننا لم نخطو بأقدامنا بعد في عالم المسرح الذي ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين مقارنة بالإنتاج الأوروبي تحديداً، خاصة فيما يتعلق بالسينوغرافيا وعلاقة جسد الممثل بالفضاء المسرحي، ولكنني عندما شاهدت مسرحية ( viva la vie ) أو فلتحيا الحياة لفرقة إنترفانس السويسرية، اكتشفت أنه حتى ما شاهدته من إنتاج أوروبي سواء في مصر أو خارجها لا يمكن مقارنته بتلك التجربة المسرحية الفريدة من نوعها، وربما فرادتها تعود إلى أنها تشبه السيمفونية التي تستخدم العديد من الميلوديات المختلفة والتي تتناغم في بهاء لحظة عزفها في نفس الوقت وبآلات مختلفة، فلقد تمكنت هذه المسرحية من تحقيق ما يعرف بالـ Hybrid Theatre  أو المسرح الهجين، وحققت المعادلة الصعبة في جعل جسد الممثل هو الذي يشغل كل الفضاء المسرحي بحركة محسوبة بدقة سلسة حد النعومة المذهلة.


ورغم ما يؤمن به كثيرون بأن المسرح في شكله "التجريبي" كما يحبون أن يطلقوا عليه، لا يحتوي على قصة أو محتوى فكري مفهوم أو يقدم قضية إنسانية مثلاً، وهو ما أتفق معهم عليه في كثير من الأعمال المسرحية التي تنشغل بالصورة المسرحية أكثر من الفكرة، إلا أن مسرحية "فلتحيا الحياة" تقدم لنا نصاً إنسانياً فلسفياً، يناقش أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد هويته الأصيلة كإنسان وأصبح عبداً للتكنولوجيا التي منحته راحة زائفة في مقابل روحه، تماماً مثلما قايض فاوست روحه بالملذات. لكننا لا نتابع هذا المحتوى الفكري من خلال حواراً مطولاً بين الشخصيات، فلقد نجح الكاتب المسرحي توما لوباشيه في تشكيل نص مسرحي يغطي به مساحة زمنية واسعة، حيث تبدأ الأحداث عام 1900 وتستمر حتى وقتنا الراهن، إلا أننا لم نشعر بأي ملل أو أي نوع من أنواع الزحام في الشخصيات أو الأحداث أو الحوارات الطويلة والمملة (مثلما حدث في تجربة مسرحية شارع 19 للمصري محمود حديني التي امتدت لمائة عام)، فلم يكن هناك حواراً بالمعنى المفهوم في المسرحية، فقط بين الابن ووالده في البداية بينما جسد باقي أفراد الأسرة أدوارهم بالتعبير الجسدي، وظللنا نتنقل من عصر لآخر ببعض الجمل الحوارية الموحية والتي توصل المعنى دون الكثير من الشروح والديباجات، فالكلمة هنا تلعب دوراً متضافراً مع باقي عناصر المسرحية التي شملت الرقص والغناء وحتى ألعاب السيرك المذهلة!


تدور المسرحية حول تحول الإنسان من حياة الزراعة إلى حياة التكنولوجيا الحديثة، بسرد كيفية الانتقال بداية من عام 1900 وتحول النشاط الإنساني من الزراعة إلى العمل في المناجم والبحث عن الثروات واللهث وراء فكرة الراحة والمستقبل الأفضل، ورغم أن الجد الأكبر حاول أن يثني ابنه عن الانخراط في العمل المنجمي وترك الأرض، إلا أن الابن يترك القرية ويجري وراء حلم الثراء الجديد، ونظل نلهث ورائه ومن ثم ابنه فابنه فابنه حتى نصل إلى عصرنا الحالي عندما يقرر الحفيد المعاصر أن يترك حياة المدينة التي حولته إلى آلة بلا مشاعر، ليسافر إلى صديق له، يمتلك مزرعة في ريف أسبانيا ويعيش على منتجات أرضه وماشيته دون أن يتورط في العالم الرأسمالي المعدني، في محاولة ناجحة من لوباشيه للسخرية من الإنسان الذي تمرد على المزرعة ودمرها ليعود ويبحث عنها من جديد!


المخرج أندريه بجنا والذي وضع الموسيقى أيضاً، قدم معادلاً بصرياً رائعاً لهذه القصة الإنسانية الموجعة، فنحن نشاهد من خلال التشكيلات الحركية الراقصة صراع الإنسان مع الحياة في رحلته السرمدية للبحث عن الراحة، ومن ثم ابتعاده تدريجياً عن قيمه الإنسانية ووداعته الروحية، وانغماسه في أسلوب الحياة الرأسمالية المادية، فنرى التحولات الكبرى من جيل إلى جيل في الملابس التي يتم تبديلها على خشبة المسرح حيث تصميم شديد الذكاء للملابس بحيث يتم تعديلها بحركات بسيطة لتناسب العصور المتعاقبة، والأدوات المنزلية حيث يحمل الممثلون أو الراقصون في أيديهم أجهزة حديثة مثل (سيشوار الشعر، المكواة، الخلاط، المكنسة)، مع رصد لتسارع التطور التكنولوجي مع ظهور الراديو والتلفزيون واختفاء العلاقات الأسرية تدريجياً، لنصل في النهاية إلى التواصل عن طريق أجهزة الهواتف الذكية، حيث تحرر الجميع من المهام الشاقة التي كانت تثقل كاهل الإنسان في الماضي، لكن في المقابل فقد الإنسان علاقته بالآخرين وفقد روحه ليعيش منعزلاً ومغترباً داخل ذاته الوحيدة.

تلعب الموسيقى دوراً كبيراً في سرد تلك المرثية الإنسانية الناعمة، فلقد استطاعت أن تشد الانتباه لكل التفاصيل التي يتم سردها على خشبة المسرح، فهي لا تستأثر بالأذن فقط، بل تحتجز العين وترغم العقل على التركيز الشديد في أدق التفاصيل بالعرض، وتلعب دور عصا الساحر فتحرك العين نحو الجانب الأكثر صخباً في الأحداث من جوانب المسرح، فلا تشعر وأنت في مقعدك بأن هناك فراغ ما في أي بقعة على الخشبة، وتنشغل تماماً بما يرغب المخرج ومؤلف الموسيقى في نفس الوقت أندريه بجنا أن تنشغل به. حالة من السحر المسرحي القوي الذي يسحبك إليه بإرادتك فتغيب لمدة 55 دقيقة، ولا تفيق إلا عند توقف الموسيقى/ توقف الحركة.


من أكثر الأشياء التي لفتت النظر في المسرحية لاعب السيرك الذي يلعب بالكرات البلورية والعصي المعدنية، ليجسد معادلاً تعبيرياً للحدث المركزي بالمرحلة الزمنية التي نعيشها مع أحداث المسرحية، فعندما كان الصراع في البداية من أجل الحصول  على المياة لري المحصول، جسد هذا الصراع بكرات بلورية يحركها بنعومة توحي بانها قطرات مياه منسابة بين يديه، وعندما نبدأ في صراع الآلة وتحول الحياة الإنسانية إلى معدنية أكثر فأكثر، نشاهده يجسد ذلك من خلال أقواس وأعمدة معدنية تسيل بين يديه!


المغنية أيضاً التي كانت تشكل ظلاً صوتياً لبعض الحوارات والأحداث، لتعمق من إحساسنا بالفقد لإنسانيتنا التي تخلى عنها أجدادنا من أجل الركض وراء الرفاهية بالاعتماد على الآلة ومن ثم التكنولوجيا التي أفقدتنا تواصلنا حتى مع أنفسنا، فقد كانت تتحرك كشبح من وراء الشخوص والأحداث، حيث خشبة المسرح تخلو من قطع الديكور تماماً فيما عدا طاولة ومقعدين يتوسطان الخشبة يبدأ عليها حوار الأب والابن جالسين على طرفيها في بداية القرن العشرين، وينتهي أمامها حوار الأب والابن الحديثين عبر سماعة الهاتف الذكي والابن يخبر والده أنه كان يتمنى أن يمضي وقتاً طويلاً معه على أن ينشغل كثيراً خارج المنزل من أجل أن يشتري له أجهزة لم تعوضه عن غيابه!
مسرحية "فلتحيا الحياة" شكلت نقطة بدء لمفهوم المسرح الحديث الآن، المسرح الذي يستطيع أن يحاكي العصر ويحاكي الجمهور أيضاً، فلقد شكلت وجبة دسمة جداً من الحركة الراقصة والأداء التمثيلي والموسيقى والغناء وعروض السيرك، لتخرج من باب مسرح الجمهورية الذي عُرض عليه وأنت مأخوذ تماماً بهذه التعويذة المسرحية التي أُلقيت عليك في الداخل.

المقال منشور بجريدة بالقاهرة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق