السبت، 5 أكتوبر 2019

"العذراء والموت"... سؤال العدالة بين الضحية والجلاد





للحظات شعرت بالخوف على الفنانة سماء إبراهيم وهي تجسد شخصية باولينا في مسرحية " العذراء والموت" التي قُدمت ضمن عروض المسابقة الأولى بالمهرجان القومي للمسرح في دورته الثانية عشر، فلقد تماهت تماماً مع الشخصية وكانت كمن ينزف روحه على خشبة المسرح، وهذا ما تأكدت منه بعد انتهاء أحداث المسرحية وذهبت لتهنئتها بعد انسدال الستار، فشعرت بجسدها يرتعش بين ذراعي، ورغم قلقي أن قد يصيب قلبها شئ، شعرت بالفخر لأن هناك فنانة مصرية بهذا الجبروت الإبداعي.
وفقاً للمترجم السوري علي كامل والذي ترجم النص الأصلي في طبعته الصادرة عن دار "مدى" للنشر، فإن الكاتب آرييل دورفمان قرر  لحظة وصوله أميركا لاجئًا، أن يجعل من كتاباته سلاحًا، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يومي، وساحة حرب ضد من شردّوه؛ من خنقوا صوت الحرية في بلاده؛ ضد وحشية وبربرية الاستبداد في كل مكان.


كان دورفمان يعمل أيام حكومة الليندي الشعبية في تشيلي بأمريكا اللاتينية، أستاذاً للأدب والنقد في الجامعة، ورُشح عام 1971 مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس الليندي في قصر لامونيدا، حيث يقول في واحدة من الحوارات الصحفية: كان علي أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع "يقصد يوم انقلاب بيونشيه على حكم الليندي وقتله مع كل رجاله في قصر الحكم"، كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي وجودهم في الأوقات الطارئة، وكان اسمي واحدًا من تلك الأسماء، لكن أحدًا لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح! لم أفهم السبب مطلقًا!!
بعد ثلاث سنوات وعن طريق الصدفة قابل دورفمان الشخص الذي كان مسئولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك، وسأله لماذا تركوه نائماً، فأخبره أنه شطب اسمه من قائمة المناوبة في ذلك الصباح لأنه: "لا بد أن يبقى أحد ما حيًا، ليروي ما حدث”.


إنه القدر الذي تدخل في الأحداث على نحو ما؛ فأحال دورفمان الى راوي حكايات، كي ينقل من خلال أعماله حقيقة ما حدث في انقلاب بينوشيه على الليندي برعاية أمريكية والتنكيل الذي حدث لكل أتباع الليندي والحكم البوليسي الذي عانت منه تشيلي طوال حكم بينوشيه.
مسرحية "العذراء والموت" والتي عُرضت للمرة الأولى عام 1991 على خشبة المسرح الملكي في لندن، محدثة ضجة كبيرة في الرأي العام، تجري أحداثها بعد انهيار ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي، حيث بدأت تظهر إلى العلن قصص المفقودين وأعمال التعذيب في السجون والمعتقلات، ومن خلال هذه القصص التي تابعها دورفمان بدقة، اختار حبكته الدرامية لمسرحية "العذراء والموت" وبطلة قصته باولينا التي رغم مرور خمسة عشر عاماً على أحداث تعذيبها في معتقلات الديكتاتور، مازالت تلعق جراحها المفتوحة ولم تندمل، حيث تعرضت للاغتصاب والتنكيل من قبل البوليس السري حينما قُبض عليها أثناء مظاهرات الطلاب وهي مازالت طالبة بكلية الطب، حيث كانوا يعذبونهم تحت إشراف طبيب ليضمن عدم موتهم تحت وطأة التعذيب، وكان هذا الطبيب يشرف على التعذيب وهو يستمع إلى موسيقى شوبرت "العذراء والموت".


من خلال خبر تم نشره بالجرائد لتلك المرأة التي احتجزت معذبها في بيتها لتخضعه لمحاكمة شخصية، استوحى دورفمان قصته، لكنه وقع في دائرة التساؤلات الخاصة بكيفية تجاوز الضحية لآلامها في مواجهة جلادها الذي لم يكن له أن يرفض أوامر التعذيب، وزوجها الذي يجسد جسر العبور من الديكتاتورية إلى الديموقراطية بتحقيق التسامح بين أفراد الشعب من خلال تحقيق العدالة! ولكن كيف يمكن تحقيق العدالة وسط كل هذا الصراع بين الضحية والجلاد؟! .. أسئلة كثيرة وقع في خضمها الكاتب حتى استطاع أخيراً أن يكتب مسرحيته والتي تُرجمت إلى لغات عديدة، وكذلك أُنتجت في رؤى مختلفة على خشبات المسارح العالمية، وهذا هو ما تقوم به سما إبراهيم كدراماتورج لهذا النص بالغ التعقيد والتشابك، حيث تطرح رؤية مغايرة لما تم طرحه للنص من قبل، مع رؤية إخراجية بالغة الرهافة والعنف في نفس الوقت، فهي تأخذ المشاهد منذ لحظة دخوله إلى صالة المسرح، حيث الستارة مفتوحة على ديكور لمنزل مُطفئ الأنوار والبطلة باولينا "سماء إبراهيم" تنام على الأريكة وتتحرك بين لحظة وأخرى بين المطبخ والنافذة التي تتوسط خشبة المسرح والنافذة الجانبية المجاورة للباب، فتنقل لك الإحساس بأن هناك امرأة تنتظر أحداً في قلق وخوف. تمتد هذه اللحظات التي تعيشها كمشاهد بين حدث مسرحي بدأ بالفعل في صمت وبين أفراد الجمهور الذين يتوافدون على الصالة ليجلسوا على مقاعدهم، ليشاركوك في هذا الاشتباك الصامت.


تبدأ المسرحية بعد ذلك لنتابع الأحداث بين باولينا الزوجة التي مازالت تعاني نفسياً من آثار تعذيبها في سجون الديكتاتور بينوشيه، والذي لا تأتي على ذكره الدراماتورج، فسماء تتركنا نتابع أحداثاً بلا مكان ولا زمان محدد طوال العرض، فقط تتوقع أن المكان في بلد من بلاد أمريكا اللاتينية بسبب الأسماء "باولين وزوجها جيراردو والطبيب روبيرتو" وعندما تذكر باولينا أنها عليها أن تترك منزلها على الشاطئ وتسافر مع زوجها المُحقق في قضايا التعذيب إلى "سانتياجو" تدرك انك في تشيلي، غير ذلك أنت بصدد حالة عميقة من السؤال الإنساني الذي بإمكانك طرحه في أي بقعة من بقاع العالم: هل من الممكن أن يسامح الضحية الجلاد؟ وهل يمكن للجلاد أن يترك الضحية تعيش لتفضح ممارساته غير الإنسانية؟


بين الضحية "باولينا" والجلاد "روبيرتو" وصوت العقل الذي يمثله المُحقق "جيراردو" تأخذك سماء إبراهيم باعتبارها المخرج والدراماتورج في حبائلها، فهي تورطك في الأحداث فتصنع منك الضحية والجلاد والمحقق، وتتركك في النهاية لتحدد من الذي يجب عليه أن يختفي من الحياة؟
في النص الأصلي للمسرحية يترك دورفمان النهاية مفتوحة أيضاً لأن السؤال الرئيسي لديه هو: هل يمكن للضحية أن تتجاوز ما فعله بها الجلاد ليعيشا سوياً في مجتمع ديموقراطي جديد؟ أم يجب أن تتحقق العدالة أولاً على أيدي المحققين ويُحاسب الجلاد على ما اقترفه من تعذيب؟ وهل يجب معاقبة كل الجلادين الذين لم يفعلوا سوى تنفيذ الأوامر وبالتالي نقع في دوائر صراع اجتماعية لا تنتهي؟
أدارت سما هذا السؤال/ الصراع في نسختها الإخراجية بشكل مغاير، فهي تُنهي المسرحية بوضع المسدس في أيدي الشخصيات الثلاث (الزوجة/ الزوج المحقق/ الطبيب الجلاد) ليتعاركوا جميعاً والمسدس بينهم، لتنطلق الرصاصة وتغلق ستائر الخشبة لتترك للمشاهدين الإجابة على السؤال: على من نطلق الرصاص؟


"العذراء والموت" التي أنتجها المعهد العالي للفنون المسرحية بميزانية ضئيلة جداً، استخدمها صناع المسرحية بذكاء ليخرج الديكور معبراً عن المحتوى الدرامي، حيث صالة منزل وركن بسيط يجسد المطبخ وطاولة السفرة، والشباك الذي يطل على الحديقة في صدارة الديكور ليشكل بؤرة الحركة يميناً نحو ما يمكن اعتباره  الحمام، بينما على جانبي الصالة هناك بابان واحد على اليمين يجسد باب غرفة النوم وباب على اليسار يجسد باب المنزل نحو الخارج.
الديكور الذي صممه محمد هاشم نجح في أن يخرج مُوظفاً جيداً لأحداث المسرحية، فلم يكن هناك شئ زائداً على الحاجة، حيث قامت سماء إبراهيم بتوزيع حركتها المسرحية بدقة داخله لتخدم كل حركة الأحداث، حيث تتحرك باولينا بين النافذتين في البداية بانتظار زوجها، ثم تتحرك وزوجها جيراردوا بين طاولة السفرة والمطبخ عقب عودته من الخارج، ثم تختفي داخل الحمام لمتابعة تسجيل زوجها المحقق لاعترافات الطبيب بأنه هو الذي عذب باولينا على أنغام شوبرت وهكذا. جاءت الإضاءة والموسيقى أيضاً متوافقة مع التواتر المتلاحق والمتصاعد بحدة للأحداث، وللحوار الشائك الدائر بين باولينا وزوجها والطبيب، فعمقا إحساس المتلقين من المشاهدين بالمشاعر المتضاربة لكل من الشخوص الثلاثة الذي يحاول كل منهم أن يكون هو الناجي، بما في ذلك الزوج المحقق الذي ينتهي به الأمر إلى متآمر ضد الضحية كي يحافظ على مكانته الاجتماعية التي وصل إليها.


يبقى أن أشيد بالفنانين إيهاب محفوظ ومحمد يوسف الذين لعبا دوري الزوج جيراردو والجلاد الطبيب روبيرتو باحترافية بليغة، فخرجت المباراة التمثيلية الدائرة على الخشبة بينهما وبين سماء إبراهيم "باولينا" حامية، تمكنت من الأخذ بتلابيب المشاهد منذ أول جملة حوارية وحتى النهاية لتُطلق الرصاصة ويتركوننا نتخبط بين الدهشة والسؤال: على من نطلق الرصاص؟


المقال منشور بجريدة القاهرة الثقافية في أغسطس 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق