الثلاثاء، 14 يناير 2020

"ظل الحكايات" إبداع أصيل لمسرح العبث داخل عالم من الأساطير والغرائبيات

رامي الطومباري


تعتمد مسرحية "ظل الحكايات" التي انطلقت ليالي عرضها على مسرح الغد على نص عبثي شديد الخصوصية ويحتوي على طبقات فلسفية كثيرة لأفكار تقترب من الهلوسة التي حمَّلَها المؤلف إبراهيم الحسيني كافة الهواجس الخاصة بعلاقة الإنسان  العربي أو الشرقي أو المسلم، بالعالم من حوله، سواء مجتمعه الضيق الذي يقتصر على العلاقة بالأسرة والأصدقاء، أو العلاقة بالمجتمع الأوسع للبلد التي نحيا فيها وصولاً بالمجتمع الأكثر اتساعاً والذي قد يصل إلى الكون ككل، وعلاقتنا بالإله والخلق والحياة والموت، انتقالاً إلى الموقف الفردي من كل هذه العلاقات المتشابكة والمعقدة التي يولد الإنسان ليتشكل وعيه داخل خيوطها الملغزة والمنهكة أيضاً، حيث لا فرار من تلك العلاقات المفروضة علينا منذ لحظة الميلاد والتي تضع على عاتق الإنسان مضامين فكرية وواجبات مادية لا أول ولا آخر لها، كما لا تسمح له بالفرار منها وإلا تم عزله أو نبذه ليعيش وحيداً مطارداً بلا هوية أو اعتراف، وربما فقد حياته أيضاً لمجرد السؤال عن خصوصية فرديته داخل المنظومة المجتمعية التي تلتهمه حياً منذ طفولته ليحيا المجتمع دائما على أشلاء الأفراد.

أفكار كثيرة انهالت على رأسي وأنا أشاهد "ظل الحكايات" التي تدور داخل عالم خيالي مختلق، يترك الكاتب للمشاهد حرية تحديده، فقد نكون بصدد مشاهدة وقائع حلم معلن داخل الفراغ المسرحي، وقد نشاهد أحداثاً لحكاية أسطورية تشبه الميثولوجي الإغريقي الذي يستند إلى واحدة من حكاياته بشكل واضح (كرونوس وزيوس)، وقد نعتقد للحظات أننا نشاهد إجراءات إخضاع بطل المسرحية للحساب بعد أن مات ودُفن. كثير من الرؤى وكثير من الحكايات التي تنهال على رؤوسنا مع البطل الذي يبدأ مشواره داخل "ظل الحكايات" بالجلوس على مقعد داخل قطار تجاوره حقيبة سفر، وهو في طريقه لحضور حفل زفاف صديق قديم في قرية نائية وعجيبة.
محمود الزيات ورامي الطومباري

ربما ما أضفى قيمة مضاعفة لنص الحسيني، مسألة ندرة النصوص العبثية التي تحمل علامة تشبهنا، فما أكثر المحاولات العبثية المستنسخة من كتابات وقضايا غربية، رغم أن الصراع المجتمعي داخل شرقنا العزيز الآن، يحمل في جعبته من العبث الكثير، ما يجعل كتابة نصوص مسرحية داخل إطار اللامعقول، أمراً يكاد يكون ضرورياً في محاولة تفكيك أزمة الإنسان العربي مع قيمه الشرقية وتناحرها مع القيم الرأسمالية العالمية، وربما لهذا السبب اختار المؤلف عالم الحكايات وكأننا في سرديات قصصية داخل عالم ألف ليلة وليلة حيث كائنات خرافية وشخصيات عجيبة وأحداث غرائبية، يجد البطل نفسه في مواجهتها، ومن خلال هذا الإطار الميثولوجي نفكك النص لنصل إلى مضماينه، حيث الصراع القيمي الذي يطحن الإنسان الشرقي المعاصر بين مبادئ مجتمعه البطريركية ومبادئ العالم الرأسمالي وروحه المندحرة بينهما في محاولة الوصول لنفسه الأصيلة وسعادته الفردية.
عبير الطوخي 

كثير من الجمل الفلسفية التي تشير إلى هذا الصراع مثل (عليك بمحايلة الحكاية حتى ترضى عنك) في إسقاط واضح إلى تلك المروية المفروضة على واقعنا منذ لحظة الميلاد، والتي إذا لم نطوعها ونتحايل عليها ستطحننا داخل تفاصيلها الصاخبة، ويؤكد ذلك جملة (انتبه للحكايات وإلا قتلتك) و (إذا لم تستمع إلى الحكاية ستكون أنت الحكاية). كل هذه الجمل التي تتردد على ألسنة الشخوص الأسطورية التي يواجهها البطل داخل القرية الحلم أو القرية الأسطورة في رحلة سفره التي تشبه رحلة الإنسان في زمنه الخاص داخل الحياة أو داخل القرية؟ فهو يلهث وراء تهاويم خيالية لا تقترب من المنطق ولا يترك له أحد فرصة اسكتشافها، بينما يفرضون عليه التفكير المنطقي ويعاقبونه إذا لم يتبع القانون، ويظهر ذلك جلياً في الجملة التي يرددها البطل في أكثر من موقف درامي (أنا لا أضيع الفرص ولكن الفرص هي التي تضيعني) إضافة إلى المحاكمة التي عقدوها له في نهاية المسرحية بعد أن حمل جثته بنفسه ودفنها.
أعترف أن النص شكل تحدياً كبيراً للمخرج عادل بركات كي يجسده واقعاً مسرحياً، فهو يحمل الكثير من التهاويم الخيالية والعوالم الغرائبية، وبالتالي وقع المخرج مع مهندس الديكور ومصمم الملابس محمد فتحي في بعض الهنات التي سطحت عمق الفكرة العبثية والتي لم تكن تحتاج إلى كل تلك العرائس الطفولية، مثل الفراشات التي خرجت من الجانب الأيسر لحيز المسرح في البداية، والاستعانة بعروسة لسمكة قرش لتجسد نوع من أنواع الوحوش التي تطارد البطل وبعض الموتيفات المشابهة والتي جاءت كنغمة نشاز داخل وقائع نص عبثي قاتم يغوص في الجوانب المظلمة بعقل الإنسان! وقد ظهر ذلك جلياً في اعتماد المخرج على إضاءة تكاد تصل للإظلام في أغلب أحداث المسرحية، وإضفاء أجواء غرائبية كابية على حركة الشخوص، ما عمق فكرة المسرحية الفلسفية منذ البداية.

نجح المخرج في إضفاء حيوية على حركة الممثلين لتخفيف حدة عمق النص بالدخول والخروج من أبواب على الجانبين الأيمن والأيسر، كما كان لرسم بعض المشاهد بشكل كوميدي دوراً كبيراً في أن يسحب المشاهد نفسه ويتوقف ولو قليلاً عن الركض وراء الحوارات الفلسفية المكتظة داخل العمل، وقد كان للفنانة الكبيرة عبير الطوخي دوراً هاماً بأدائها المتنوع والقادر على التحول من الكوميدي للتراجيدي بشكل يشبه التلون الحربائي الناعم والبارز، كما كان تثبيت مقعد القطار كرمز للثبات في مواجهة الخيال المتحرك والذي جسده بشخص آخر يؤدي نفس حركات البطل والذي لعب دوره رامي الطومباري، ليعطي إيحاء المرآه، أو مشاهدة الروح للجسد وهي تتحرك داخل واقع تنفصل عنه، وهو تجسيد ناجح لحالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث يعيش بشكل لا ترضاه نفسه.
رامي الطومباري وعبير فوزي 

الممثل المتميز والهام رامي الطمباري يؤكد بدوره في "ظل الحكايات" على وعيه الشديد بعمله الإبداعي، فهو يؤصل لاختلافه كممثل بهذا العمل المسرحي الذي ربما وبنسبة كبيرة لا يحقق نجاحاً جماهيرياً، ولكنه بالتأكيد لن يخرج من إطار الأعمال المسرحية التي تؤسس لشكل وهوية المسرح المصري المعاصر والذي يعبر عن زمنه وتحديات مكانه. استطاع رامي أن ينحت باحتراف لا يخلوا من عفوية موهبته الأصيلة، شخصية البطل التائه في ظلال الحكايات، فتمكن من تجسيد حالات التوتر والضعف والمكر والتحايل في مواجهة الحكايات / الحياة، فقدم متعة مشاهدة حقيقية، تجسدت حتى في الاستماع إلى طبقات صوته التي تتغير وفقاً للحالة التي يجسدها، فهو لم يغفل حتى عن تجسيد صوت الإنسان المستيقظ لتوه من كابوس، فيخرج صوته مخنوقاً ومتحشرجاً بشكل طبيعي وناعم لا يحمل أي مبالغة. ولا يقل عن ذلك الفنان محمود الزيات الذي قدم متعة خاصة بأدائه المتنوع لعدد من الشخصيات داخل أحداث المسرحية، فلقد استطاع بتغييرات بسيطة في الملابس أن يدخلنا في إحساس مختلف لكل شخصية، فخرج أداؤه لا يشبه نفسه.
هناك الكثير الذي يمكن قوله بخصوص مسرحية "ظل الحكايات" والتي أعتبرها تجربة مثيرة ومميزة ينهي بها البيت الفني للمسرح عام 2019، فهي عمل يحتاج إلى أكثر من مشاهدة كي نقبض بأيدينا على قلب اللحظة الإبداعية له.



الأحد، 12 يناير 2020

"أنا والنحلة والدبور" .. مسرحية تكسر النمط السلبي لصورة المرأة في الدراما المصرية





يواصل الفنان الكبير محمد صبحي مشروعه المسرحي التوعوي من خلال إنتاجه الجديد (أنا والنحلة والدبور) والذي يطلقه على مسرحه بمدينة سنبل على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، حيث اختار أن يقص شريط هذه المنطقة الجديدة ويزرع داخل الصحراء واحة فن تشكل منارة للمستقبل داخل المدن الجديدة.
يظهر محمد صبحي كمن يغرد وحيداً في عالم تنمية الأسرة بالفن، فهو يطرق باباً جديداً، ربما لم يتم التطرق له بهذا الوضوح من قبل في عالم المسرح، فرغم الإطار الكوميدي الخفيف للمسرحية إلا أنها تقدم موضوعاً جاداً يكاد يلمس أزمات أغلب البيوت المصرية الآن، فرغم أنه يبدو في إطاره العام يناصر المرأة وحقوقها، إلا أنه في حقيقة الأمر يهتم في الأساس بالاستقرار الأسري وهو ما يعد مشكلة  في عصرنا الحالي بعد تجاوز الطلاق نسبة الـ 40%.


تدور المسرحية حول أسرة مصرية معاصرة تتكون من زوج وزوجة وطفلين (ولد وبنت)، نلاحظ منذ البداية أن البنت تتحدث بأسلوب الشكوى النسائية، والولد يتحدث بأسلوب الغطرسة الذكورية ما يعكس تأثرهما بشكل الحوار بين الأب والأم، بينما نشاهد صالة المنزل وهي تضج بالفوضى، حيث يبدو تماماً انشغال الأم عن بيتها، وهذا ما نفهم عكسه بمجرد أن تعود الزوجة إلى المنزل وتبدأ في ممارسة دورانها في حلقة لا تتوقف عن تلبية متطلبات ابنيها وزوجها الذي يصل متبرماً من كل شئ ومعترضاً على إصرار زوجته على العمل، بينما لا يعود عملها بأي نفع على الأسرة سوى غيابها عن البيت وتدهور حال الأبناء والبيت!


نعتقد للحظة أننا بصدد مشاهدة عمل درامي آخر يعادي عمل المرأة ويلقي باللوم عليها لانهيار منظومة الأسرة وتدهور أخلاقيات الأجيال الجديدة كما هو معتاد في الدراما التلفزيونية، لكن محمد صبحي يفاجئنا بكسر القاعدة الدرامية التي سادت الشاشات منذ أكثر من ثلاثين عاماً ما أسس لمعاداة النساء في المجتمع، وهو ما يفصح عنه صبحي صراحة في مسرحية "أنا والنحلة والدبور"، فهو يلقي باللوم بشكل واضح على الإعلام والدراما المصرية التي تشوه صورة المرأة المصرية ولا تظهرها على حقيقتها المكافحة والصابرة والبناءة، كما أنه يناصرها بشكل كبير ويؤكد على أهمية عملها وحيوية دورها الرئيسي داخل البيت وفي تربية الأطفال.


رغم ما يبدو من وراء ذلك من قضايا توحي بأن مكان طرحها هو قاعات الندوات وبرامج المرأة في القنوات الفضائية، إلا أن المؤلف أيمن فتيحة استطاع أن يصيغ كل ذلك في إطار كوميدي راقي أشاع البهجة وأشعل الصالة بالضحكات الراقية، حيث لعب الفنان محمد صبحي دور الجد الذي يزور منزل ابنه فيفاجئه بعنجهيته في التعامل مع زوجته وتقليله من دورها وتأثيرها في رعاية الأطفال والمنزل، ما يسبب لها الإحباط والتعاسة، فيقرر الجد الذي كان يعمل تربوياً أن يساعد زوجة ابنه على استعادة السعادة الزوجية المفتقدة، من خلال تمثيلية يحيكونها على ابنه الذي يغيب عن المنزل في مهمة عمل لبضع أيام، فيعود ليكتشف ان زوجته أصيبت بالشلل وغير قادرة على الحركة، فيضطر هو لتولي شئون المنزل ورعاية الأطفال والصرف بالكامل على البيت. ومن خلال مفارقات مضحكة بين الجد وصديقه طبيب المخ والأعصاب الذي يساعده في حبك دور المشلولة للزوجة، ثم مواجهة الزوج لهذه المصيبة العائلية، تدور الكوميديا.


يراعي محمد صبحي كافة التفاصيل الإنسانية بالمسرحية، فنجده لا يغفل توضيح أن الشلل ليس نقصاً ولا يعيب صاحبه، وأنه ليس محل للسخرية وإنما هم يستعينون به لحبك لعبتهم على الزوج فقط، وهو ما يحسب له، حيث يتم تقديم أصحاب الهمم في كثير من الأعمال الدرامية إما في ثوب بائس وعاجز وإما للسخرية!
تعتمد المسرحية على ديكور كلاسيكي لصالة منزل، وإن كان يتصدرها لوحة لرجل قوي البنية يبدو مسيطراً، وفي الخلفية تجلس امرأة منطوية على ذاتها وضعيفة، للإسقاط على شكل العلاقة بين الزوج والزوجة، وفي النهاية ينزع الزوج اللوحة على الحائط للتدليل على تغير موقفه بعد التجربة التي عاشها وأدرك فيها قيمة زوجته وأهميتها في حياته وفي توازن الأسرة.


رغم مباشرة المسرحية حتى في الرموز المستخدمة إلا أنها تتوافق مع منهج محمد صبحي في الدراما حيث يؤمن بأهمية أن تصل الفكرة بوضوح لجميع شرائح الشعب، فهو يهتم بأن تؤثر رسالته الفنية وتغير من سلبيات المجتمع إلى إيجابيات، فهو من أشد المؤمنين بوجوب وجود رسالة أخلاقية للفن ويصر على ذلك في كل أعماله، حيث يقول أنه بإمكانه أن يقدم أعمالاً درامية عميقة ولكنه لا يرغب في الانفصال عن الوعي الشعبي، بل يعمد إلى أن يفهم المثقف والأمي رسالته.
 ينجح الفنان محمد صبحي باعتباره مخرج العرض ورأسه المدبرة في الأساس، في رسم بعض المشاهد بفنية عالية، مثل مشهد الرقصة التي جمعت بين الزوج والزوجة وهي قعيدة على كرسيها المتحرك، ومشهد الأب وصديقه الطبيب وهما يدربان الزوجة على تمثيل دور المشلولة، والذي يعد من أكثر المشاهد الكوميدية التي أشعلت الصالة بالضحك. وبشكل عام استطاع الفنان الكبير أن يخلق تناغماً واضحاً بين جميع الممثلين المشاركين بالمسرحية (سماح سعيد وحازم القاضي وميرنا زكي وعبد الرحيم حسن وياسمين حامد)، حتى الطفلين الذين لعبا دوري الابن والابنة (بيلار سامي وعبد الرحمن محمود).
"أنا والنحلة والدبور" تكمل المشهد الفني الذي يرسمه محمد صبحي وحده في الصحراء التي يصر على أن تكون مجتمعاً جديداً لا ينقصه الفن وليس أي فن بل الفن الراقي.


المقال منشور في جريدة القاهرة شهر ديسمبر 2019