الأحد، 12 يناير 2020

"أنا والنحلة والدبور" .. مسرحية تكسر النمط السلبي لصورة المرأة في الدراما المصرية





يواصل الفنان الكبير محمد صبحي مشروعه المسرحي التوعوي من خلال إنتاجه الجديد (أنا والنحلة والدبور) والذي يطلقه على مسرحه بمدينة سنبل على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، حيث اختار أن يقص شريط هذه المنطقة الجديدة ويزرع داخل الصحراء واحة فن تشكل منارة للمستقبل داخل المدن الجديدة.
يظهر محمد صبحي كمن يغرد وحيداً في عالم تنمية الأسرة بالفن، فهو يطرق باباً جديداً، ربما لم يتم التطرق له بهذا الوضوح من قبل في عالم المسرح، فرغم الإطار الكوميدي الخفيف للمسرحية إلا أنها تقدم موضوعاً جاداً يكاد يلمس أزمات أغلب البيوت المصرية الآن، فرغم أنه يبدو في إطاره العام يناصر المرأة وحقوقها، إلا أنه في حقيقة الأمر يهتم في الأساس بالاستقرار الأسري وهو ما يعد مشكلة  في عصرنا الحالي بعد تجاوز الطلاق نسبة الـ 40%.


تدور المسرحية حول أسرة مصرية معاصرة تتكون من زوج وزوجة وطفلين (ولد وبنت)، نلاحظ منذ البداية أن البنت تتحدث بأسلوب الشكوى النسائية، والولد يتحدث بأسلوب الغطرسة الذكورية ما يعكس تأثرهما بشكل الحوار بين الأب والأم، بينما نشاهد صالة المنزل وهي تضج بالفوضى، حيث يبدو تماماً انشغال الأم عن بيتها، وهذا ما نفهم عكسه بمجرد أن تعود الزوجة إلى المنزل وتبدأ في ممارسة دورانها في حلقة لا تتوقف عن تلبية متطلبات ابنيها وزوجها الذي يصل متبرماً من كل شئ ومعترضاً على إصرار زوجته على العمل، بينما لا يعود عملها بأي نفع على الأسرة سوى غيابها عن البيت وتدهور حال الأبناء والبيت!


نعتقد للحظة أننا بصدد مشاهدة عمل درامي آخر يعادي عمل المرأة ويلقي باللوم عليها لانهيار منظومة الأسرة وتدهور أخلاقيات الأجيال الجديدة كما هو معتاد في الدراما التلفزيونية، لكن محمد صبحي يفاجئنا بكسر القاعدة الدرامية التي سادت الشاشات منذ أكثر من ثلاثين عاماً ما أسس لمعاداة النساء في المجتمع، وهو ما يفصح عنه صبحي صراحة في مسرحية "أنا والنحلة والدبور"، فهو يلقي باللوم بشكل واضح على الإعلام والدراما المصرية التي تشوه صورة المرأة المصرية ولا تظهرها على حقيقتها المكافحة والصابرة والبناءة، كما أنه يناصرها بشكل كبير ويؤكد على أهمية عملها وحيوية دورها الرئيسي داخل البيت وفي تربية الأطفال.


رغم ما يبدو من وراء ذلك من قضايا توحي بأن مكان طرحها هو قاعات الندوات وبرامج المرأة في القنوات الفضائية، إلا أن المؤلف أيمن فتيحة استطاع أن يصيغ كل ذلك في إطار كوميدي راقي أشاع البهجة وأشعل الصالة بالضحكات الراقية، حيث لعب الفنان محمد صبحي دور الجد الذي يزور منزل ابنه فيفاجئه بعنجهيته في التعامل مع زوجته وتقليله من دورها وتأثيرها في رعاية الأطفال والمنزل، ما يسبب لها الإحباط والتعاسة، فيقرر الجد الذي كان يعمل تربوياً أن يساعد زوجة ابنه على استعادة السعادة الزوجية المفتقدة، من خلال تمثيلية يحيكونها على ابنه الذي يغيب عن المنزل في مهمة عمل لبضع أيام، فيعود ليكتشف ان زوجته أصيبت بالشلل وغير قادرة على الحركة، فيضطر هو لتولي شئون المنزل ورعاية الأطفال والصرف بالكامل على البيت. ومن خلال مفارقات مضحكة بين الجد وصديقه طبيب المخ والأعصاب الذي يساعده في حبك دور المشلولة للزوجة، ثم مواجهة الزوج لهذه المصيبة العائلية، تدور الكوميديا.


يراعي محمد صبحي كافة التفاصيل الإنسانية بالمسرحية، فنجده لا يغفل توضيح أن الشلل ليس نقصاً ولا يعيب صاحبه، وأنه ليس محل للسخرية وإنما هم يستعينون به لحبك لعبتهم على الزوج فقط، وهو ما يحسب له، حيث يتم تقديم أصحاب الهمم في كثير من الأعمال الدرامية إما في ثوب بائس وعاجز وإما للسخرية!
تعتمد المسرحية على ديكور كلاسيكي لصالة منزل، وإن كان يتصدرها لوحة لرجل قوي البنية يبدو مسيطراً، وفي الخلفية تجلس امرأة منطوية على ذاتها وضعيفة، للإسقاط على شكل العلاقة بين الزوج والزوجة، وفي النهاية ينزع الزوج اللوحة على الحائط للتدليل على تغير موقفه بعد التجربة التي عاشها وأدرك فيها قيمة زوجته وأهميتها في حياته وفي توازن الأسرة.


رغم مباشرة المسرحية حتى في الرموز المستخدمة إلا أنها تتوافق مع منهج محمد صبحي في الدراما حيث يؤمن بأهمية أن تصل الفكرة بوضوح لجميع شرائح الشعب، فهو يهتم بأن تؤثر رسالته الفنية وتغير من سلبيات المجتمع إلى إيجابيات، فهو من أشد المؤمنين بوجوب وجود رسالة أخلاقية للفن ويصر على ذلك في كل أعماله، حيث يقول أنه بإمكانه أن يقدم أعمالاً درامية عميقة ولكنه لا يرغب في الانفصال عن الوعي الشعبي، بل يعمد إلى أن يفهم المثقف والأمي رسالته.
 ينجح الفنان محمد صبحي باعتباره مخرج العرض ورأسه المدبرة في الأساس، في رسم بعض المشاهد بفنية عالية، مثل مشهد الرقصة التي جمعت بين الزوج والزوجة وهي قعيدة على كرسيها المتحرك، ومشهد الأب وصديقه الطبيب وهما يدربان الزوجة على تمثيل دور المشلولة، والذي يعد من أكثر المشاهد الكوميدية التي أشعلت الصالة بالضحك. وبشكل عام استطاع الفنان الكبير أن يخلق تناغماً واضحاً بين جميع الممثلين المشاركين بالمسرحية (سماح سعيد وحازم القاضي وميرنا زكي وعبد الرحيم حسن وياسمين حامد)، حتى الطفلين الذين لعبا دوري الابن والابنة (بيلار سامي وعبد الرحمن محمود).
"أنا والنحلة والدبور" تكمل المشهد الفني الذي يرسمه محمد صبحي وحده في الصحراء التي يصر على أن تكون مجتمعاً جديداً لا ينقصه الفن وليس أي فن بل الفن الراقي.


المقال منشور في جريدة القاهرة شهر ديسمبر 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق