الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

"طريق الحرير" رسالة محبة لوحدة الشعوب من خلال الموسيقى والرقص





على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، قدمت فرقة أورنينا السورية للرقص المسرحي، عرضها المسرحي الراقص "طريق الحرير – رحلة العقد الفريد"، والتي ألف موسيقاها محمد هباش وصمم رقصاتها وأخرجها ناصر إبراهيم المؤسس للفرقة عام 1993.
يهدف العرض إلى تكريس فكرة أهمية التواصل بين الشعوب، ويربط بين فكرة التجارة التي كانت الطريقة المثلى لتعارف الشعوب المختلفة على بعضها قديماً، وبين الفن الذي أصبح الآن هو اللغة المثلى التي تشكل نقطة التواصل والتعارف بين الناس على مختلف جنسياتهم ولغاتهم، ومن هنا أتى المفهوم الذي بُني على أساسه عرض "طريق الحرير"، فهذا الطريق لم يكن شريان الحياة لكل شعوب العالم القديم فقط، ولكنه كان الممر الذي تتلاقى فيه الحضارات ببعضها البعض، فيتواصلون ثقافياً ومعرفياً.


تبدأ قصة العرض من مدينة بلنسية في الأندلس، حيث يلتقي الشاعر جبير بالقاضي أبو ليلى الذي كان مولعاً بالفنون ويفتخر بابنتيه "ليلى وسلمى"، اللتان يتقدم لخطبتهما جميع شباب المدينة راغبين في الزوج بواحدة منهما، فيختار القاضي الشاعر جبير ولكن يشترط عليه أن يعثر على العقد الفريد كي يكون مهر ابنته ليلى.
يقع جبير في الحيرة؛ فما هو هذا العقد الفريد الذي لا يحتوي على لآلئ وأحجار كريمة، لكنه يبدأ رحلته من أجل البحث عنه، فينطلق من الأندلس إلى المغرب ثم مصر ففلسطين، فسوريا ثم إلى العراق وعُمان والهند والصين وهذه هي البلاد التي كانت تشكل طريق الحرير قديماً.


من خلال هذه الرحلة التي يقطعها جبير نبدأ في مشاهدة تابلوهات راقصة تمثل كل بلد من هذه البلاد، ونستمع إلى موسيقاها، حيث يتم تقديمها من خلال جبير الذي يسألهم عن العقد الفريد وكيف يمكنه العثور عليه؟، وبعد أن يتم جبير رحلته يوقن أن العقد الفريد هو الناس على اختلافهم متى تعارفوا وتحابوا وتعاونوا، وأن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتعرف بها الناس المختلفين على بعضهم البعض، هي الفنون والحرف المختلفة والصناعات.
يختتم جبير رحلته بدعوة جميع الأشخاص الذين تعرف عليهم للقدوم إلى مدينته بلنسية ليؤكد لوالد محبوبته ليلى أن العقد الفريد هو "عقد الفنون والمواهب" التي تجمع البشر ولا تفرقهم، حيث أن الإبداع الإنساني لا حدود له وقادر على التآلف والتمازج مع كل مُختلف دون عداوة أو إحقاد.


هي رسالة إنسانية سامية يقدمها ناصر إبراهيم في لغة فنية بسيطة تقدم الكثير من المتعة للمشاهدين، فأنت لا تشعر وأنت جالس على مقعدك تتابع هذا العرض سوى بالبهجة، فتستدعي الذاكرة على الفور سوريا وفنونها الراقية ذات الطابع الخاص والتي تتميز بها دون غيرها في المنطقة العربية، كما يستدعي العرض إلى الذاكرة أيضاً الأوبريتات التي قدمها الموسيقار الكبير الراحل فريد الأطرش والتي كان يقدم من خلالها تابلوهات راقصة تعبر عن فنون ورقصات الشعوب العربية المختلفة، فجبير في رحلته التي يبدأها بالمغرب يأخذنا في رحلة من رقصات الشعوب وطربها الأصيل، ففي مصر نشاهد التحطيب والرقص البلدي، وفي فلسطين نستمتع بالدبكة وفي الشام ننصت إلى المواويل، وفي العراق نشاهد رقصها المختلف عن غيرها من البلاد العربية، وفي سلطنة عمان نشاهد الرقص الخليجي ونستمع إلى أغاني البحر والغربة، وفي الهند نشاهد عرضاً شديد الحرفية للرقص الهندي المميز عن باقي الشعوب، وحتى عندما ينهي رحلته في الصين نشاهد تابلوهاً راقصاً يمثل الفنون والثقافة الصينية مثل استخدام التنين والمراوح في الحركة.


اعتمد المخرج في العرض على المزج ما بين الحوار والموسيقى والرقص، فأنت تستمع إلى حوار مُنغم أشبه بالحوار في عروض الأوبرا ولكنه على موسيقانا الشرقية، وكذلك جاءت الكثير من المشاهد التمثيلية على شكل رقصات، فكانت أقرب إلى عروض الرقص المعاصر ولكن باستخدام حركات جسد تعتمد على الذاكرة الشرقية لحركة الجسد فكانت أكثر سلاسة في الفهم وقدرة الجمهور على التفاعل معها، هذا إضافة إلى التابلوهات الراقصة الصرفة التي خرجت بحرفية وتنوع كبيرين.
ربما كانت هناك تابلوهات راقصة مميزة أكثر من غيرها، فمما لا شك فيه أن التابلوه الخاص بمصر وفلسطين وسلطنة عمان والهند، هي الأكثر قوة ضمن العرض بشكل عام، حيث جاءت تفصيلية وغنية بالتنوع الغنائي والأداء الراقص وأكثر تعبيراً عن فنون وثقافة هذه البلاد، لكن التابلوه الخاص بالعراق جاء خاطفاً وغير معبر بشكل كبير عن اللهجة العراقية وموسيقى غنائها المميزة، كذلك جاء التبلوه الخاص بالصين سريعاً جداً وكأن المخرج كان يرغب في وضع نهاية للعرض.


الإضاءة في "طريق الحرير" كانت جيدة بشكل كبير، حيث ساعدت على إثراء وتعميق حالة الحركة التي يعيش فيها بطل العرض الشاعر جبير، فهي تعطي الانطباع بحالة الارتحال ويساعدها في ذلك شاشة العرض التي استمرت طوال العرض تحتل المساحة الخلفية كاملة من خشبة المسرح، والتي كان من خلالها يتم عرض صور من كل بلد يمر عليها جبير. كذلك جاءت الإضاءة في بعض المشاهد مخملية ساحرة تشيع جواً رومانتيكياً وتخلق حالة من النوستالجيا لماض قريب شهده الكثير منا، حيث بلاد عربية تصب فنها في قلب الأخرى وتتعاون وتتلاقح ثقافياً فيما بينها. وربما جاءت النوستالجيا أيضاً من افتقادنا للشام بفنونها وفنانيها الذين كانوا أهم حدث لكل فعالية فنية أو ثقافية عربية.


الأزياء بعرض "طريق الحرير" أيضاً كانت متميزة وناجحة إلى حد كبير خاصة الأزياء الخاصة بفلسطين وسوريا وسلطنة عمان والهند، فجاءت أكثر دقة وتعبيراً عن فنون هذه البلاد، كما أن استخدام آلات كثيرة من العود بين الراقصات في التابلوه الخاص بسوريا جاء موحيا ومستدعياً إلى الأذهان الصور المرسومة عن عالم الجواري والراقصات في العصور الذهبية لبلاد الشام.

كان حضور فرقة أورنينا بعرضها الذي جاب الكثير من البلاد العربية اختياراً موفقاً من دار الأوبرا المصرية، ونتمنى أن نشاهد عروضاً راقصة ذات روح عربية شرقية أخرى قريباً، سواء من خلال فرقنا المصرية أو من خلال فرق عربية متميزة مثل "أورنينا".

نُشر هذا المقال في جريدة القاهرة 23 أكتوبر 2018

الخميس، 11 أكتوبر 2018

ناصر عبد المنعم يخترق حاجز الزمن ويحقق المعادلة الصعبة في "الطوق والأسورة"

فاطمة محمد علي في دور حزينة



ما زلت أتذكر كيف كان التناول الإخراجي المسرحي لنص  الراحل يحيي الطاهر عبد الله (الطوق والأسورة) عام 1996 غرائبياً بالنسبة لي عندما شاهدتها وأنا في بدايات تعمقي في فهم ودراسة الفنون الإبداعية بشكل عام. رغم أننا كنا أبناء التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن وعينا الفني كان متوقفاً على كلاسيكيات الفنون وربما كان القليل منا متطوراً فتعرف على مدارس اللامعقول مثلاً، كان الفن والمسرح بشكل خاص يعاني من العزلة، فلقد كانت هناك خصومة بين الجمهور وبينه. أذكر تماماً أنني كنت أذهب إلى المسرح القومي فلا يكون هناك سوى أربعة أو خمسة أفراد فقط معي لمشاهدة مسرحية، وكنت أتثاءب وأنا أشاهد المسرحيات دون أن أقف على السبب، لكنني كنت أصر على متابعة المسرح، فهو عشقي الطفولي الذي استطعت أخيراً متابعته بعد انتقالي للعيش في القاهرة.
ظل الأمر على هذا الحال حتى سمعت عن مهرجان اسمه "المسرح التجريبي"، لم أفهم ما الذي يعنونه تحديداً بهذا المسمى ولكنني ذهبت مع أحد زملائي لمشاهدة مسرحية بعنوان "الطوق والأسورة" – لم أكن أعرف حتى يحيى الطاهر عبدالله – وهناك تعجبت من تقسيمة المسرح الغريبة وتوزيع الجمهور حولها، كان هناك رفض داخلي لكل هذه الاختلافات فأخذت أسخر منها، لكن عندما بدأ العرض وقعت في حيرة الصمت واستطاع ناصر عبدالمنعم برؤيته الغرائبية حينها أن يبقيني متيقظة دون تثاؤب طوال مدة العرض رغم أنني لم أفهم كل ما يدور حولي حينها. وخرجت من المسرحية لأشتري الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبدالله وكتاب ضخم عن مدارس المسرح العالمي.
مارتينا عادل وفاطمة محمد علي (حزينة وفهيمة)

الآن ومهرجان المسرح التجريبي يحتفل بيوبيله الفضي ويعيد تقديم بعض من الأعمال التي حصدت الجوائز على مدار أعوامه الخمسة والعشرين، ذهبت لأشاهد "الطوق والأسورة" مرة أخرى وأنا أكثر وعياً ونضجاً وقدرة على الوقوف على جماليات العرض، لكنني لن أنكر أنني ذهبت دون حماس كبير، فأنا في النهاية سوف أشاهد عرضاً عمره تجاوز العشرين عاماً وبالتأكيد تقنيات الكتابة والإخراج وحتى الأداء التمثيلي تجاوزته بمراحل، وحتى المخرج ناصر عبد المنعم نفسه، قد تجاوز نفسه في هذا العرض. لكنني حرصت على الذهاب من باب النوستالجيا وتلمس عتبات عشريناتي الغضة، لكن المذهل هو ما وضعني فيه ناصر عبد المنعم.
تخيلت للحظات أن ناصر سيفرد معطيات عرضه على خشبة مسرح السلام الكبيرة بالكامل، كانت ظلال شكل تقسيمة المسرح داخل دائرة الجمهور تداعب خيالي بشئ من الشحوب، فلم أتوقف عندها كثيراً، لكنني فوجئت ونحن نهم بدخول المسرح، أنهم يرشدوننا نحو سلالم الخشبة نفسها، بينما تم غلق خشبة المسرح بالكامل بحوائط خشبية، وهنا بدأت الرؤية الشبحية للعرض تزداد وضوحاً وبمجرد أن دلفت إلى قلعة (الطوق والأسورة) وتم إرشادي إلى مقعدي الخشبي المربع وبصرت الفضاء المسرحي المُصنع وفقاً للرؤية التي كانت غرائبية في التسعينيات، ارتدت إلي ذاكرتي تماماً فابتسمت وأنا أراني شابة صغيرة تتخبط في عتبات المعرفة الأولى.


يصنع ناصر عبد المنعم فضاء "الطوق والأسورة" المسرحي على شكل حرفين T ملتصقين وبالتالي يعطي مكانين يدور فيهما أغلب أحداث المسرحية، ولكنه لا يكتفي بذلك فقط، ولكنه يزرع الممثلين بين الجمهور يميناً ويساراً، فجوقة النساء والرجال واللذان يمثلان أهل القرية، يتوزعان ثلاث نساء في جهة وثلاث رجال في جهة أخرى، أما الفرقة الموسيقية التي تعزف موسيقى العرض حية، فهي بجوار صف الجمهور على الجانب الآخر من جوقة النساء. وهنا أحب أن أشير إلى نقطة هامة، ألا وهي أن ناصر عبد المنعم لم يقدم يوماً فضاءً مسرحياً تقليدياً أو حركة مسرحية متوقعة أو معتاد عليها، ففي كل عمل جديد له، أنت بصدد رؤية ومتابعة شكل مختلف لفضاء مسرحي أكثر حيوية وعطاء للفعل المسرحي نفسه، فعقله هندسي بشكل كبير، في تقسيم المسرح وكأنه مهندس معماري يصنع في كل مشروع مدينة جديدة برؤية إبداعية مختلفة.


لا يمكن بحال من الأحوال القول بأننا شاهدنا عرضاً قديماً منذ عقدين من الزمان، فلقد خرج عرض الطوق والأسورة في ثوب حيوي شاب، وذلك لأن المخرج كان دقيقاً في اختيار العناصر الجديدة للعرض، فكان اختياره للفنانة المميزة فاطمة محمد علي، موفقاً لدرجة كبيرة جدا لأداء دور حزينة، ولا أرغب في المبالغة، ولكن أداء فاطمة لهذا الدور جعلني أنسى تماماً أي أداء سابق لنفس الدور في التناولات الدرامية المختلفة لرواية "الطوق والأسورة"، فلقد أخذت فاطمة حزينة إلى مستويات أدائية أكثر عمقاً، فلم تكن حزينة هذه المرأة المكلومة والمصابة في زوجها وأبنائها فقط، ولكنها تلك المرأة التي شقت العادات والتقاليد والقناعات البالية لقرى الصعيد حياتها وحولتها إلى شذرات من التشتت والضياع، كانت فاطمة بليغة في ترجمة أعماق الشخصية، إضافة إلى صوتها الذي أثبتت أنه طوع أصابع يديها، فقدمت "العديد" كخنجر مباغت طعنت به قلوبنا جميعاً. جذبت فاطمة كل الأنظار إليها ولأول مرة نعتقد جميعاً أن حزينة هي الشخصية المحورية في "الطوق والأسورة".
استطاعت مارتينا عادل أيضاً أن تضفي إلى دور فهيمة من شخصيتها كممثلة، فلم تقع في دائرة المقارنة مع من سبقوها خاصة وأن الفنانة الكبيرة شريهان قد ملكت الدور في الفيلم الشهير لخيري بشارة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لباقي الفنانين الذين لعبوا بطولة المسرحية.
تقنية الكتابة المسرحية لنص الطوق والأسورة أيضاً، كان فارقاً حينها، فنحن بصدد متابعة بصرية تمتزج وحوار غير تفصيلي للأحداث، وبدلاً من متابعة الشخصيات وهي تروي بشكل سردي تتابعي أحداث الحكاية، نجد أنفسنا نصعد مع الرؤية المسرحية التي قدمها سامح مهران لرواية يحيى الطاهر عبد الله على تلال من الأحداث ونهبط في منحنيات تنقلنا من دفقة شعورية لأخرى مع الأحداث الغرائبية لقصة تكشف فداحة تأثير العادات والتقاليد الجنوبية على مصائر البشر، الذين يقعون تحت طائلة القيل والقال فيخترقوا القوانين السماوية دون أي إحساس بالذنب، ويصير الشاذ طبيعي ومعترف به أيضاً، هذه الشخصيات التي تقع تحت أسر الفقر والاغتراب والغربة وأحلام الخلاص الوهمية، وربما ساعد تناول الطاهر عبد الله الدرامي لروايته على تقديم هذه الرؤية المسرحية، فالرواية نفسها يمكن أن نطلق عليها أيضاً مصطلح "تجريبية"، حيث لم يكتبها الروائي الراحل بأسلوب تقليدي للسرد الروائي، وكانت غرائبية حين تم نشرها لأول مرة في شكل قصص متتابعة ثم تم إعادة كتابتها في رواية متكاملة.
"الطوق والأسورة" نص دخل تاريخ السرد المصري والعربي وربما العالمي أيضاً من أوسع أبوابه منذ عقود، وأثبت أنه أيضاً نصاً حيوياً قادراً على لفت الأنظار والمتابعة دائماً، وأثبت ناصر عبد المنعم بإعادة عرض النص في ثوبه المسرحي، أن رؤيته متجددة وقابلة للعرض في أي عصر دون أن يجترحها الزمن بمضيه عليها، وبالتالي تستحق أن تدخل بثقة في ربيرتوار المسرح المصري، فيكون لها موعد سنوي للعرض وهذا ما نتمناه لكثير من العروض المسرحية المصرية الناجحة والقادرة على امتاع الجمهور مهما مر عليها الزمان.
هناك الكثير من المسرحيات التي حصدت الجوائز على مدار مهرجانات المسرح المختلفة على مر التاريخ، ولكن ليس كل مسرحية حصدت جائزة قادرة على تخطي حواجز الزمن دون تقديم رؤية جديدة لها، لكن طوق وأسورة ناصر عبد المنعم من المسرحيات التي أثبتت أن تستطيع اختراق حاجز الزمن وتقديم متعة جديدة في كل مرة عرض.

نًشر المقال في جريدة القاهرة عدد 9 أكتوبر 2018 

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

بين الجسد الغربي المبدع والجسد الشرقي المبتذل يكمن السؤال: متى نتوقف عن تحقير الذات؟



بينا باوش



في الجلسة الثانية من محور الجسد خلال المحاور الفكرية التي دارت رحاها خلال أيام مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، قدم الدكتور فاضل سوداني من العراق ورقة بحثية بعنوان "الذاكرة البصرية للجسد الأدائي المبدع في العرض المسرحي"، فرق فيها بين نوعين من الأجساد؛ الجسد اليومي المبتذل لأنه موجود مكرر وممل في ممارساته اليومية ويمكن التنبؤ بوظائفه اليومية المعروفة (ينام – يأكل – يسعى وراء تلبية غرائزه..ألخ)، والجسد (الاحتفالي أو الطقوسي) والذي لا يمكننا التنبؤ بوظائفه إلا أثناء تكامله في العمل الإبداعي الذي يتم من خلال ذاكرة الجسد البصرية المطلقة و(هي القدرات الإبداعية المخزونة في الجسد)، وهذا هو نوع الجسد الذي أشار دكتور سوداني أنه المهم بالنسبة لنا لأن الإبداع يكمن فيه بكل أنواعه، لما يكتسب من وظائف ومهمات جديدة ويتمدد حسب وصفه عندما يتحول إلى إبداع من خلال ذاكرته الإبداعية وليس من خلال وظائفه اليومية المكررة، ويؤكد دكتور فاضل أن الجسد الإبداعي قد يقع تحت أثر الثرثرة في بعض الأحيان عندما لا يستخدم بشكل إبداعي، وهنا يفرق بين الذاكرة البصرية للجسد وبين الإحساس بالجسد، فالإحساس هو الذي يساعد على الإبداع من خلال الذاكرة البصرية في شكل حركة جسدية مبدعة.


طقس اللطم الحسيني

لم يكن في كل ما سبق من بحث الدكتور فاضل أي شئ يمكن الاعتراض عليه، فبالطبع الجسد في حالة أدائه لوظائفه اليومية الاعتيادية لا يقدم أي نوع من الإبداع، وهذا ما نجربه في حياتنا اليومية، فإذا أخذنا حركة جسد لربة منزل على سبيل المثال، فسنجدها تأتي بنفس الأداءات الجسدية يومياً ومنذ أن تستيقظ صباحاً لأداء وظائفها المنزلية من رعاية أطفال وتجهيز طعام ..إلخ، وبالتالي حركة الجسد تلك مفعمة بالرتابة والملل، ولكن لو حدث وانسابت من المذياع موسيقى لأغنية من أغاني أم كلثوم مثلاً، فسنجد أن بعض من ربات البيوت، سيبدأن في التمايل على الأنغام واستدعاء ذاكرتهن الطقوسية في الأفراح وتجمعات البنات ومن ثم الرقص على نغمات الموسيقى، أو حتى مجرد التمايل بنوع من المرح، أعتقد هنا أن جسد ربة البيت خرج من حالته الرتيبة المملة إلى فضاء إبداعي قائم على الذاكرة البصرية والإحساس بالجسد الذي ترجم صور الذاكرة إلى حركات حتى ولو لم تكن احترافية ويتم أدائها على خشبة المسرح، وهنا يأتي الاختلاف مع الدكتور سوداني!
فريدة فهمي 

يقدم دكتور فاضل سوداني مثالاً على الجسد الاحتفالي أو الإبداعي بالراقصة الألمانية بينا باوش التي نقلت إلى خشبة المسرح هموم الإنسان المعاصر وعبرت عنها بحركات راقصة معبرة تكسر حاجز رقصات البالية المتعارف عليها، وبالتالي أصبحت رائدة في فن الرقص الحديث، فيقول:
استطاعت باوش أن تحول الجسد إلى جسد احتفالي حسب مفهومنا حول استخدام الذاكرة الجسدية، لهذا فإن أعمالها تمتزج بين الجسد والفكر وبين الجسد والتأويل الفلسفي، لدرجة أن الجسد لديها يتحول إلى موسيقى عنيفة لكنها منظورة في الفضاء فيتحول إلى لغة بصرية منظورة ومسموعة في ذات الوقت.
ونحن لا نعترض على الاستشهاد ببينا باوش كمثال لتجسيد المغزى الذي يرغب دكتور فاضل في الوصول إليه، ليفرق بين الجسد الاعتيادي الممل والجسد الإبداعي، ولكن الاعتراض يكمن في أن سوداني نفى صفة الإبداعي أو الاحتفالي عن الجسد العربي أو الشرقي بشكل عام، ضارباً المثل بمشاهد اللطم الحسينية والرقص الغجري العراقي والجذبة الكيناوية في المغرب، مؤكداً أن ما تؤتيه هذه الأجساد حتى ولو كان من خلال طقوس احتفالية، إلا أنها أجساد غير إبداعية، بل هي أجساد احتفالية في حالة ثرثرة مملة ومتكررة.
سامية جمال 

وهذا ليس موضع الاختلاف أيضاً، فالرقصات الطقسية لبعض الاحتفالات الدينية، أو الرقص الغجري العراقي الشبيه بالرقص الشرقي، لم يشهد أي نوع من التطور الحركي منذ زمن بعيد، وهو يكرر نفسه بشكل يومي في نفس الاحتفالات سنوياً، ولكن عندما حاولت مناقشة دكتور سوداني في الأمر، بأن هذه الرقصات أو حتى الندب الحسيني قائم على ذاكرة بصرية لهذه الأجساد التي تنتمي لتلك الثقافة، وأنه لو فُتح أمامها الباب للتطوير بعيداً عن التحقير من شأنها وهو ما نواجهه في مجتمعاتها بشكل يومي ومتكرر، ستكون أجساداً إبداعية، لكن دكتور سوداني أصر بشدة على أن الرقص الغجري أو الشرقي قائم على إثارة الغرائز الحسية للرجال وأنه لا يمكن أن يكون إبداعياً بل مبتذلا، وعندما قابلته في المساء وبعد مشاهدة العرض المسرحي الروسي والذي يقوم على حركات من الرقص المعاصر، قال لي مؤكداً: هذا هو الجسد الإبداعي وليست أجساد الراقصات الشرقيات.

نعيمة عاكف 

المسألة التي تؤرقني هنا، هو الانتماء الدائم لفكرة الغرب المبدع والشرق المثير للغرائز، فلماذا لا نوسع دائرة تفكيرنا قليلاً وننظر إلى الحركات الراقصة الغربية وتحديداً الرقص المعاصر بقليل من التمعن؛ إنها تعبير حركي مدروس ومنظم ومبدع يعبر عن الثقافة الحركية لهذه الثقافات، وأننا مهما احتفينا بها وقدرناها وتابعناها، بل ونقلناها إلى مسارحنا وتعلمتها فرقنا المسرحية والراقصة، فستظل لا تعبر بأي حال من الأحوال عن ثقافتنا، وهنا أذكر عرض "أرض لا تنبت الزهور" والذي تم تقديمه في افتتاح المهرجان القومي للمسرح 2018، حيث استخدمت الكريوجرافر الحركات الشرقية الراقصة في تصميم رقصات معاصرة تعبر عن أحداث المسرحية، ولذلك كانت هذه المعالجة لمسرحية محمود دياب موفقة للغاية ومن أكثر عروض الرقص المعاصر وصولاُ إلى قلوب المشاهدين، إذا؛ فإننا لو فتحنا الباب أمام تطوير ذاكرتنا البصرية وتحديداً في موضوع الرقص الشرقي هذا، بإمكاننا الوصول إلى تقديم جسد مبدع قائم على ذاكرة بصرية تنتمي لأرضنا.
إن أكثر ما يثير تعجبي، أنه حتى المثقفين والعاملين في المسرح والسينمائيين وغيرهم من المبدعين المصريين والعرب أيضاً، يصرون على تحقير حركة الجسد العربية ويصرون على تصدير الغربية كبديل مثقف و (محترم)، فلا يمكن التعامل مع الرقص الشرقي أو الراقصة الشرقية بشئ غير الاحتقار ورميها بالعهر ووصف حركاتها بالمثيرة والغرائزية، في حين قدمت الراقصة الراحلة سامية جمال مثلاً دليلاً على أن الرقص الشرقي بإمكانه أن يعبر عن الفرح والحزن ويعبر عن مشاهد مسرحية كاملة من خلال الأوبريتات السينمائية التي قدمتها مع فريد الأطرش، وكذلك كانت نعيمة عاكف، ولا يمكن أن ننسى أيضاً جهود فرقة رضا في تطوير الرقصات الشعبية المصرية وما قدمته فريدة فهمي من تابلوهات راقصة تعبيرية بليغة باستخدام الخطوات الرئيسية للرقص الشرقي، لكننا بعد ذلك وقعنا في دائرة تحريم الجسد وبالطبع الرقص فتدهور حال رقصنا واحتجنا في النهاية إلى استيراد حركات من الخارج لنكون مبدعين ونمتلك ذاكرة إبداعية.
إن ذاكرة الجسد العربي تمتلك مخزوناً عظيماً يحتاج إلى الاعتراف به أولاً، والتوقف عن تحقير الذات الدائم والمتواصل، حتى نصل إلى النقطة التي يتحدث عنها دكتور فاضل سوداني، بأن نكون جسداً احتفالياً مبدعاً، ولا أعتقد أن الانتصار للرقص الغربي المعاصر الذي يعبر عن ذاكرتهم وثقافاتهم هم، هو الطريق الأمثل لتقديم إبداعاً جسدياً مسرحياً متفرداً، ولكن الانتصار لذاكرة أجسادنا نحن التي تعبر عن ثقافتنا، هو الطريق الوحيد للخروج من الدوران في فلك الآخر على حساب نفسنا المبدعة.

تم نشر المقال بجريدة القاهرة عدد 2 أكتوبر 2018