الخميس، 11 أكتوبر 2018

ناصر عبد المنعم يخترق حاجز الزمن ويحقق المعادلة الصعبة في "الطوق والأسورة"

فاطمة محمد علي في دور حزينة



ما زلت أتذكر كيف كان التناول الإخراجي المسرحي لنص  الراحل يحيي الطاهر عبد الله (الطوق والأسورة) عام 1996 غرائبياً بالنسبة لي عندما شاهدتها وأنا في بدايات تعمقي في فهم ودراسة الفنون الإبداعية بشكل عام. رغم أننا كنا أبناء التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن وعينا الفني كان متوقفاً على كلاسيكيات الفنون وربما كان القليل منا متطوراً فتعرف على مدارس اللامعقول مثلاً، كان الفن والمسرح بشكل خاص يعاني من العزلة، فلقد كانت هناك خصومة بين الجمهور وبينه. أذكر تماماً أنني كنت أذهب إلى المسرح القومي فلا يكون هناك سوى أربعة أو خمسة أفراد فقط معي لمشاهدة مسرحية، وكنت أتثاءب وأنا أشاهد المسرحيات دون أن أقف على السبب، لكنني كنت أصر على متابعة المسرح، فهو عشقي الطفولي الذي استطعت أخيراً متابعته بعد انتقالي للعيش في القاهرة.
ظل الأمر على هذا الحال حتى سمعت عن مهرجان اسمه "المسرح التجريبي"، لم أفهم ما الذي يعنونه تحديداً بهذا المسمى ولكنني ذهبت مع أحد زملائي لمشاهدة مسرحية بعنوان "الطوق والأسورة" – لم أكن أعرف حتى يحيى الطاهر عبدالله – وهناك تعجبت من تقسيمة المسرح الغريبة وتوزيع الجمهور حولها، كان هناك رفض داخلي لكل هذه الاختلافات فأخذت أسخر منها، لكن عندما بدأ العرض وقعت في حيرة الصمت واستطاع ناصر عبدالمنعم برؤيته الغرائبية حينها أن يبقيني متيقظة دون تثاؤب طوال مدة العرض رغم أنني لم أفهم كل ما يدور حولي حينها. وخرجت من المسرحية لأشتري الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبدالله وكتاب ضخم عن مدارس المسرح العالمي.
مارتينا عادل وفاطمة محمد علي (حزينة وفهيمة)

الآن ومهرجان المسرح التجريبي يحتفل بيوبيله الفضي ويعيد تقديم بعض من الأعمال التي حصدت الجوائز على مدار أعوامه الخمسة والعشرين، ذهبت لأشاهد "الطوق والأسورة" مرة أخرى وأنا أكثر وعياً ونضجاً وقدرة على الوقوف على جماليات العرض، لكنني لن أنكر أنني ذهبت دون حماس كبير، فأنا في النهاية سوف أشاهد عرضاً عمره تجاوز العشرين عاماً وبالتأكيد تقنيات الكتابة والإخراج وحتى الأداء التمثيلي تجاوزته بمراحل، وحتى المخرج ناصر عبد المنعم نفسه، قد تجاوز نفسه في هذا العرض. لكنني حرصت على الذهاب من باب النوستالجيا وتلمس عتبات عشريناتي الغضة، لكن المذهل هو ما وضعني فيه ناصر عبد المنعم.
تخيلت للحظات أن ناصر سيفرد معطيات عرضه على خشبة مسرح السلام الكبيرة بالكامل، كانت ظلال شكل تقسيمة المسرح داخل دائرة الجمهور تداعب خيالي بشئ من الشحوب، فلم أتوقف عندها كثيراً، لكنني فوجئت ونحن نهم بدخول المسرح، أنهم يرشدوننا نحو سلالم الخشبة نفسها، بينما تم غلق خشبة المسرح بالكامل بحوائط خشبية، وهنا بدأت الرؤية الشبحية للعرض تزداد وضوحاً وبمجرد أن دلفت إلى قلعة (الطوق والأسورة) وتم إرشادي إلى مقعدي الخشبي المربع وبصرت الفضاء المسرحي المُصنع وفقاً للرؤية التي كانت غرائبية في التسعينيات، ارتدت إلي ذاكرتي تماماً فابتسمت وأنا أراني شابة صغيرة تتخبط في عتبات المعرفة الأولى.


يصنع ناصر عبد المنعم فضاء "الطوق والأسورة" المسرحي على شكل حرفين T ملتصقين وبالتالي يعطي مكانين يدور فيهما أغلب أحداث المسرحية، ولكنه لا يكتفي بذلك فقط، ولكنه يزرع الممثلين بين الجمهور يميناً ويساراً، فجوقة النساء والرجال واللذان يمثلان أهل القرية، يتوزعان ثلاث نساء في جهة وثلاث رجال في جهة أخرى، أما الفرقة الموسيقية التي تعزف موسيقى العرض حية، فهي بجوار صف الجمهور على الجانب الآخر من جوقة النساء. وهنا أحب أن أشير إلى نقطة هامة، ألا وهي أن ناصر عبد المنعم لم يقدم يوماً فضاءً مسرحياً تقليدياً أو حركة مسرحية متوقعة أو معتاد عليها، ففي كل عمل جديد له، أنت بصدد رؤية ومتابعة شكل مختلف لفضاء مسرحي أكثر حيوية وعطاء للفعل المسرحي نفسه، فعقله هندسي بشكل كبير، في تقسيم المسرح وكأنه مهندس معماري يصنع في كل مشروع مدينة جديدة برؤية إبداعية مختلفة.


لا يمكن بحال من الأحوال القول بأننا شاهدنا عرضاً قديماً منذ عقدين من الزمان، فلقد خرج عرض الطوق والأسورة في ثوب حيوي شاب، وذلك لأن المخرج كان دقيقاً في اختيار العناصر الجديدة للعرض، فكان اختياره للفنانة المميزة فاطمة محمد علي، موفقاً لدرجة كبيرة جدا لأداء دور حزينة، ولا أرغب في المبالغة، ولكن أداء فاطمة لهذا الدور جعلني أنسى تماماً أي أداء سابق لنفس الدور في التناولات الدرامية المختلفة لرواية "الطوق والأسورة"، فلقد أخذت فاطمة حزينة إلى مستويات أدائية أكثر عمقاً، فلم تكن حزينة هذه المرأة المكلومة والمصابة في زوجها وأبنائها فقط، ولكنها تلك المرأة التي شقت العادات والتقاليد والقناعات البالية لقرى الصعيد حياتها وحولتها إلى شذرات من التشتت والضياع، كانت فاطمة بليغة في ترجمة أعماق الشخصية، إضافة إلى صوتها الذي أثبتت أنه طوع أصابع يديها، فقدمت "العديد" كخنجر مباغت طعنت به قلوبنا جميعاً. جذبت فاطمة كل الأنظار إليها ولأول مرة نعتقد جميعاً أن حزينة هي الشخصية المحورية في "الطوق والأسورة".
استطاعت مارتينا عادل أيضاً أن تضفي إلى دور فهيمة من شخصيتها كممثلة، فلم تقع في دائرة المقارنة مع من سبقوها خاصة وأن الفنانة الكبيرة شريهان قد ملكت الدور في الفيلم الشهير لخيري بشارة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لباقي الفنانين الذين لعبوا بطولة المسرحية.
تقنية الكتابة المسرحية لنص الطوق والأسورة أيضاً، كان فارقاً حينها، فنحن بصدد متابعة بصرية تمتزج وحوار غير تفصيلي للأحداث، وبدلاً من متابعة الشخصيات وهي تروي بشكل سردي تتابعي أحداث الحكاية، نجد أنفسنا نصعد مع الرؤية المسرحية التي قدمها سامح مهران لرواية يحيى الطاهر عبد الله على تلال من الأحداث ونهبط في منحنيات تنقلنا من دفقة شعورية لأخرى مع الأحداث الغرائبية لقصة تكشف فداحة تأثير العادات والتقاليد الجنوبية على مصائر البشر، الذين يقعون تحت طائلة القيل والقال فيخترقوا القوانين السماوية دون أي إحساس بالذنب، ويصير الشاذ طبيعي ومعترف به أيضاً، هذه الشخصيات التي تقع تحت أسر الفقر والاغتراب والغربة وأحلام الخلاص الوهمية، وربما ساعد تناول الطاهر عبد الله الدرامي لروايته على تقديم هذه الرؤية المسرحية، فالرواية نفسها يمكن أن نطلق عليها أيضاً مصطلح "تجريبية"، حيث لم يكتبها الروائي الراحل بأسلوب تقليدي للسرد الروائي، وكانت غرائبية حين تم نشرها لأول مرة في شكل قصص متتابعة ثم تم إعادة كتابتها في رواية متكاملة.
"الطوق والأسورة" نص دخل تاريخ السرد المصري والعربي وربما العالمي أيضاً من أوسع أبوابه منذ عقود، وأثبت أنه أيضاً نصاً حيوياً قادراً على لفت الأنظار والمتابعة دائماً، وأثبت ناصر عبد المنعم بإعادة عرض النص في ثوبه المسرحي، أن رؤيته متجددة وقابلة للعرض في أي عصر دون أن يجترحها الزمن بمضيه عليها، وبالتالي تستحق أن تدخل بثقة في ربيرتوار المسرح المصري، فيكون لها موعد سنوي للعرض وهذا ما نتمناه لكثير من العروض المسرحية المصرية الناجحة والقادرة على امتاع الجمهور مهما مر عليها الزمان.
هناك الكثير من المسرحيات التي حصدت الجوائز على مدار مهرجانات المسرح المختلفة على مر التاريخ، ولكن ليس كل مسرحية حصدت جائزة قادرة على تخطي حواجز الزمن دون تقديم رؤية جديدة لها، لكن طوق وأسورة ناصر عبد المنعم من المسرحيات التي أثبتت أن تستطيع اختراق حاجز الزمن وتقديم متعة جديدة في كل مرة عرض.

نًشر المقال في جريدة القاهرة عدد 9 أكتوبر 2018 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق