الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

بين الجسد الغربي المبدع والجسد الشرقي المبتذل يكمن السؤال: متى نتوقف عن تحقير الذات؟



بينا باوش



في الجلسة الثانية من محور الجسد خلال المحاور الفكرية التي دارت رحاها خلال أيام مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، قدم الدكتور فاضل سوداني من العراق ورقة بحثية بعنوان "الذاكرة البصرية للجسد الأدائي المبدع في العرض المسرحي"، فرق فيها بين نوعين من الأجساد؛ الجسد اليومي المبتذل لأنه موجود مكرر وممل في ممارساته اليومية ويمكن التنبؤ بوظائفه اليومية المعروفة (ينام – يأكل – يسعى وراء تلبية غرائزه..ألخ)، والجسد (الاحتفالي أو الطقوسي) والذي لا يمكننا التنبؤ بوظائفه إلا أثناء تكامله في العمل الإبداعي الذي يتم من خلال ذاكرة الجسد البصرية المطلقة و(هي القدرات الإبداعية المخزونة في الجسد)، وهذا هو نوع الجسد الذي أشار دكتور سوداني أنه المهم بالنسبة لنا لأن الإبداع يكمن فيه بكل أنواعه، لما يكتسب من وظائف ومهمات جديدة ويتمدد حسب وصفه عندما يتحول إلى إبداع من خلال ذاكرته الإبداعية وليس من خلال وظائفه اليومية المكررة، ويؤكد دكتور فاضل أن الجسد الإبداعي قد يقع تحت أثر الثرثرة في بعض الأحيان عندما لا يستخدم بشكل إبداعي، وهنا يفرق بين الذاكرة البصرية للجسد وبين الإحساس بالجسد، فالإحساس هو الذي يساعد على الإبداع من خلال الذاكرة البصرية في شكل حركة جسدية مبدعة.


طقس اللطم الحسيني

لم يكن في كل ما سبق من بحث الدكتور فاضل أي شئ يمكن الاعتراض عليه، فبالطبع الجسد في حالة أدائه لوظائفه اليومية الاعتيادية لا يقدم أي نوع من الإبداع، وهذا ما نجربه في حياتنا اليومية، فإذا أخذنا حركة جسد لربة منزل على سبيل المثال، فسنجدها تأتي بنفس الأداءات الجسدية يومياً ومنذ أن تستيقظ صباحاً لأداء وظائفها المنزلية من رعاية أطفال وتجهيز طعام ..إلخ، وبالتالي حركة الجسد تلك مفعمة بالرتابة والملل، ولكن لو حدث وانسابت من المذياع موسيقى لأغنية من أغاني أم كلثوم مثلاً، فسنجد أن بعض من ربات البيوت، سيبدأن في التمايل على الأنغام واستدعاء ذاكرتهن الطقوسية في الأفراح وتجمعات البنات ومن ثم الرقص على نغمات الموسيقى، أو حتى مجرد التمايل بنوع من المرح، أعتقد هنا أن جسد ربة البيت خرج من حالته الرتيبة المملة إلى فضاء إبداعي قائم على الذاكرة البصرية والإحساس بالجسد الذي ترجم صور الذاكرة إلى حركات حتى ولو لم تكن احترافية ويتم أدائها على خشبة المسرح، وهنا يأتي الاختلاف مع الدكتور سوداني!
فريدة فهمي 

يقدم دكتور فاضل سوداني مثالاً على الجسد الاحتفالي أو الإبداعي بالراقصة الألمانية بينا باوش التي نقلت إلى خشبة المسرح هموم الإنسان المعاصر وعبرت عنها بحركات راقصة معبرة تكسر حاجز رقصات البالية المتعارف عليها، وبالتالي أصبحت رائدة في فن الرقص الحديث، فيقول:
استطاعت باوش أن تحول الجسد إلى جسد احتفالي حسب مفهومنا حول استخدام الذاكرة الجسدية، لهذا فإن أعمالها تمتزج بين الجسد والفكر وبين الجسد والتأويل الفلسفي، لدرجة أن الجسد لديها يتحول إلى موسيقى عنيفة لكنها منظورة في الفضاء فيتحول إلى لغة بصرية منظورة ومسموعة في ذات الوقت.
ونحن لا نعترض على الاستشهاد ببينا باوش كمثال لتجسيد المغزى الذي يرغب دكتور فاضل في الوصول إليه، ليفرق بين الجسد الاعتيادي الممل والجسد الإبداعي، ولكن الاعتراض يكمن في أن سوداني نفى صفة الإبداعي أو الاحتفالي عن الجسد العربي أو الشرقي بشكل عام، ضارباً المثل بمشاهد اللطم الحسينية والرقص الغجري العراقي والجذبة الكيناوية في المغرب، مؤكداً أن ما تؤتيه هذه الأجساد حتى ولو كان من خلال طقوس احتفالية، إلا أنها أجساد غير إبداعية، بل هي أجساد احتفالية في حالة ثرثرة مملة ومتكررة.
سامية جمال 

وهذا ليس موضع الاختلاف أيضاً، فالرقصات الطقسية لبعض الاحتفالات الدينية، أو الرقص الغجري العراقي الشبيه بالرقص الشرقي، لم يشهد أي نوع من التطور الحركي منذ زمن بعيد، وهو يكرر نفسه بشكل يومي في نفس الاحتفالات سنوياً، ولكن عندما حاولت مناقشة دكتور سوداني في الأمر، بأن هذه الرقصات أو حتى الندب الحسيني قائم على ذاكرة بصرية لهذه الأجساد التي تنتمي لتلك الثقافة، وأنه لو فُتح أمامها الباب للتطوير بعيداً عن التحقير من شأنها وهو ما نواجهه في مجتمعاتها بشكل يومي ومتكرر، ستكون أجساداً إبداعية، لكن دكتور سوداني أصر بشدة على أن الرقص الغجري أو الشرقي قائم على إثارة الغرائز الحسية للرجال وأنه لا يمكن أن يكون إبداعياً بل مبتذلا، وعندما قابلته في المساء وبعد مشاهدة العرض المسرحي الروسي والذي يقوم على حركات من الرقص المعاصر، قال لي مؤكداً: هذا هو الجسد الإبداعي وليست أجساد الراقصات الشرقيات.

نعيمة عاكف 

المسألة التي تؤرقني هنا، هو الانتماء الدائم لفكرة الغرب المبدع والشرق المثير للغرائز، فلماذا لا نوسع دائرة تفكيرنا قليلاً وننظر إلى الحركات الراقصة الغربية وتحديداً الرقص المعاصر بقليل من التمعن؛ إنها تعبير حركي مدروس ومنظم ومبدع يعبر عن الثقافة الحركية لهذه الثقافات، وأننا مهما احتفينا بها وقدرناها وتابعناها، بل ونقلناها إلى مسارحنا وتعلمتها فرقنا المسرحية والراقصة، فستظل لا تعبر بأي حال من الأحوال عن ثقافتنا، وهنا أذكر عرض "أرض لا تنبت الزهور" والذي تم تقديمه في افتتاح المهرجان القومي للمسرح 2018، حيث استخدمت الكريوجرافر الحركات الشرقية الراقصة في تصميم رقصات معاصرة تعبر عن أحداث المسرحية، ولذلك كانت هذه المعالجة لمسرحية محمود دياب موفقة للغاية ومن أكثر عروض الرقص المعاصر وصولاُ إلى قلوب المشاهدين، إذا؛ فإننا لو فتحنا الباب أمام تطوير ذاكرتنا البصرية وتحديداً في موضوع الرقص الشرقي هذا، بإمكاننا الوصول إلى تقديم جسد مبدع قائم على ذاكرة بصرية تنتمي لأرضنا.
إن أكثر ما يثير تعجبي، أنه حتى المثقفين والعاملين في المسرح والسينمائيين وغيرهم من المبدعين المصريين والعرب أيضاً، يصرون على تحقير حركة الجسد العربية ويصرون على تصدير الغربية كبديل مثقف و (محترم)، فلا يمكن التعامل مع الرقص الشرقي أو الراقصة الشرقية بشئ غير الاحتقار ورميها بالعهر ووصف حركاتها بالمثيرة والغرائزية، في حين قدمت الراقصة الراحلة سامية جمال مثلاً دليلاً على أن الرقص الشرقي بإمكانه أن يعبر عن الفرح والحزن ويعبر عن مشاهد مسرحية كاملة من خلال الأوبريتات السينمائية التي قدمتها مع فريد الأطرش، وكذلك كانت نعيمة عاكف، ولا يمكن أن ننسى أيضاً جهود فرقة رضا في تطوير الرقصات الشعبية المصرية وما قدمته فريدة فهمي من تابلوهات راقصة تعبيرية بليغة باستخدام الخطوات الرئيسية للرقص الشرقي، لكننا بعد ذلك وقعنا في دائرة تحريم الجسد وبالطبع الرقص فتدهور حال رقصنا واحتجنا في النهاية إلى استيراد حركات من الخارج لنكون مبدعين ونمتلك ذاكرة إبداعية.
إن ذاكرة الجسد العربي تمتلك مخزوناً عظيماً يحتاج إلى الاعتراف به أولاً، والتوقف عن تحقير الذات الدائم والمتواصل، حتى نصل إلى النقطة التي يتحدث عنها دكتور فاضل سوداني، بأن نكون جسداً احتفالياً مبدعاً، ولا أعتقد أن الانتصار للرقص الغربي المعاصر الذي يعبر عن ذاكرتهم وثقافاتهم هم، هو الطريق الأمثل لتقديم إبداعاً جسدياً مسرحياً متفرداً، ولكن الانتصار لذاكرة أجسادنا نحن التي تعبر عن ثقافتنا، هو الطريق الوحيد للخروج من الدوران في فلك الآخر على حساب نفسنا المبدعة.

تم نشر المقال بجريدة القاهرة عدد 2 أكتوبر 2018 

هناك تعليق واحد:

  1. سيدتي حديثي كان عن ذاكرة الجسد المبدع وليس ذاكرة الجسد العربي او الغربي بمعنى اي جسد يمتلك ذاكرة ابداعية تجعل من الجسد يتكلم ويؤول بالتاكيد سيكون جسددا مبدعا . اتمنى ان نتحدث عن هذا الموضوع تحياتي

    ردحذف