الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

لأول مرة بالعربية .. بسمة ناجي تستخدم أمومتها لترجمة "ساحر أوز العجيب"





تخوض بسمة ناجي غمار مغامرة الترجمة بدافع الأمومة، وهو دافع لا يمكن أن يقدر قيمته سوى الأمهات، فنحن النساء العربيات، لطالما عانينا من العثور على "حدوتة" شيقة لنحكيها لأطفالنا الشرهين لحكاية جديدة كل يوم، وبالتدريج ينتقدون الحكاية ويقررون إن كانت مثيرة فنكمل، أو مملة فنتوقف ونبحث عن أخرى. لطالما ارتجلت لابنتي وابني حكايات من وحي اللحظة والأحداث التي مرت بثلاثتنا خلال اليوم، ولكن في النهاية ورغم قدرتي على التصرف، كان أرق البحث عن حكاية طويلة ومتصلة يناموا على أجزائها المتراكمة كل يوم هو الشغل الشاغل لحياتي في مرحلة طفولتهم المبكرة.
بسمة قررت أن تترجم روايات عالمية شهيرة إلى العربية لتغني المكتبة العربية بمزيد من الحكايات، أما أنا فقد ظللت أبحث عن حكاية مختلفة لأكتب أول رواية للأطفال باللغة العربية وهي ما انتهيت منها مؤخراً وأنتظر صدوروها عن الهيئة العامة للكتاب تحت عنوان "القط مسروع مرشد سياحي".
في "ساحر أوز العجيب" تنقل بسمة أحداث الرواية بذكاء طفولي شحنها به ابنها بالتأكيد، فنحن الأمهات تتجدد خلايا عقلنا مع أطفالنا، فاستطاعت أن تترجم الحوارات بين أشخاص الرواية الرئيسية "دوروثي، خيال المآتة، رجل الصفيح، الأسد الجبان" بما يناسب مضمون كل شخصية، فلم تكن مجرد ترجمة سليمة فقط للحوارات ولكنها أيضاً كانت تحويل متوائم مع طبيعة اللغة العربية في تعاملها مع قدرات طفل قد يكون في الثالثة أو السادسة من عمره، وهو يستمع لأمه وهي تسرد الحكاية على مسامعه كل يوم، فيتمكن من الفهم وفي نفس الوقت تُنَمَى لديه القدرة على التعامل مع اللغة العربية الفصحى، وإن كانت بالطبع لغة عربية مخففة أو ما نطلق عليها اصطلاحياً "اللغة الثالثة" أو "اللغة العربية البيضاء".
هذه الطبعة العربية من "ساحر أوز العجيب" هي الترجمة الأولى على الإطلاق للرواية التي صدرت أول مرة عام 1900 في شيكاجو بالولايات المتحدة الأمريكية، للكاتب الأمريكي ليمان فرانك باوم، ثم أعيد طبعها عشرات المرات فيما بعد، ولذيوع صيتها تم تحويلها إلى مسرحية موسيقية عام 1902، ولكن كان الفيلم الذي تم انتاجه عام 1939 هو الأشهر على الإطلاق، وهو ما جعل من هذه الرواية أسطورة طفولية على مدار عقود متتالية وحتى يومنا هذا، فمن منا لم يتأثر بالممثلة جودي جارلاند التي لعبت دور دوروثي، ويتفاعل مع كلبها توتو، وينخلع قلبه على الرجل الصفيح عندما ألقوا به من فوق الجبل ليتحطم بالكامل، ومن منا لم يخبر خيال المآتة أنه لا يحتاج إلى عقل في رأسه لأنه بالفعل ذكي ويفكر ويحل كافة الصعاب التي يواجهها جمع الرفاق في رحلة بحثهم عن الساحر أوز ثم في القضاء على مشعوذة الغرب الشريرة، ويضحك على الأسد الجبان الذي لا يدرك الشجاعة الكامنة داخله، إن هذا الفيلم الذي أنتجته شركة مترو جولدن ماير يعد علامة من علامات السينما الأمريكية بل والعالمية أيضاً، وتأثر به الملايين من الأطفال حول العالم وعلى مدار التاريخ، لذلك جاء خبر إصدار دار بيت الياسمين للرواية مبهجاً جداً بالنسبة لي، ورغم أن طفلَّي التوأم محمد وميريت أصبحا من الشباب الآن، إلا أنه يمكنني استدعاء الطفلة من أعماقي والاستمتاع بشكل شخصي بقراءة الرواية باللغة العربية، ولذلك حرصت على أن أحصل على نسختي وسارعت بقراءتها فوراً.
يقدم لرواية " ساحر أوز العجيب"، شيخ الروائيين المصريين الأستاذ الكبير إبراهيم عبد المجيد، حيث يمهد القارئ للدخول في غمار التجربة الشيقة للرواية، والتي ستمثل رحلة ممتعة للأطفال يتابعونها بخيالهم كل يوم على صوت أمهم أو جدتهم، كما يقدم معلومات وافية عن الكاتب وطبعات الرواية المتعددة وإنتاجها الدرامي على المسرح وعلى شاشة السينما، وبأسلوبه الشيق الذي نعشقه جميعاً، يحاول أن يستشف الحكمة من وراء رحلة دوروثي وأصدقائها الثلاثة مع كلبها توتو وذلك لاكتشاف معاني كثيرة في الحياة ما كانت لتكتشفها لولا رحلتها العجيبة التي فُرضت عليها مع العاصفة التي طارت بها هي ومنزل عائلتها من كنساس إلى تلك الأرض العجيبة وهذا الشعب الغريب.
أعتقد تماماً أن ترجمة هذه الرواية للعربية خطوة مهمة ومختلفة في سبيل إثراء المكتبة العربية وتنويع العناوين التي تحتوي عليها من قصص الأطفال العالمية، وهذا ما يواكبه وربما على سبيل المصادفة حيث لا يوجد ترتيب بين الجهات المختلفة، يتم إنتاج روايات الأطفال العالمية للمسرح حيث شاهدنا "سنو وايت" والآن نشاهد "أليس في بلاد العجائب"، و أتمنى أن يتم استخدام ترجمة بسمة ناجي لـ "ساحر أوز العجيب" لإنتاج نص مسرحي ممتع على مسارحنا المصرية.

نُشر المقال في جريدة القاهرة الثقافية بتاريخ 27 نوفمبر 2018 



الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

"مسافر ليل" ... نص مربك ونسخة إخراجية تتحدى الزمن






في البدء كان النص، هذا ما أعتقد فيه تمام الاعتقاد، فأن تشاهد عملا دراميا أكثر من مرة، لابد وأن يكون النص قد نصب لك شركاً معقداً من الصعب فك أحابيله إلا بتركيز كبير، تلعب معه لعبة الزن البوذية وتغوص في رحلة من التأمل، قد تخرج منها سليما، وقد لا تخرج أبداً، لكنك بالتأكيد لن تخرج مثلما دخلت.
هذا هو ما يفعله نص مسرحية "مسافر ليل" للراحل الكبير صلاح عبد الصبور، والذي يشبه رقعة البازل الكبيرة ذات القطع المنمنمة، لا يمكن أبداً أن تصل إلى قطع إطاره الرئيسي من أول مرة مشاهدة له. أذكر تماماً أنني لم استطع استيعابه عندما تجرأت ورفعت يدي ساحبة كتاب المسرحية من مكتبة الجامعة، فأعدت الكتاب وأنا أقسم أن الكاتب لابد وأن يكون مجنوناً تماماً مثل نيتشة الذي أرق لياليّ الغضة، في وقت كان من الأرجح أن ألهو مع حبيب ما في أروقة الجامعة وشوارع القاهرة.
أن تفترض وجود الله فليس عليك أن تأخذ افتراضك هذا بعيداً، هكذا كان نيتشه يعتقد، ويبدو أن صلاح عبد الصبور من خلال "مسافر ليل"، يرى أن فرضية وجود الله في منطقتنا لم تعد مقبولة، فالله لم يعد ينظر إلى هذه الناحية من العالم، وتركها للطواغيت. سلسلة من الطواغيت الذين مروا على أرضنا سارقين هوية الله ومعجزاته، استأثروا لذاتهم بالأرض التي دفنونا فيها بعد أن قدمنا لهم كل شئ، حتى الشعر.



نص فلسفي جريئ، يناقش بين طياته العلاقة بين الطغاة والعامة، هؤلاء العامة من البسطاء الذين لا يعرفون سوى العبودية، فراكب قطار "مسافر ليل"، اسمه "عبده" وأسماء أبنائه وأسماء أباه واجداده كلها تصريفات للعبودية – عبيد، عبدون، عابد ...إلخ – هو مستعد لأن يركع لأي إنسان يرفع راية القوة ولو من بعيد، لا يُعرف له هوية محددة سوى ارتباطه بالعظماء، الذين يزجي وقته بترديد أسمائهم والتحدث عن عظمتهم بأسطورية خُطت على عجل في أوراق قديمة، لا يسأل عن موقع جده العابد القديم، ولا ماذا كان يفعل؟ أو حول ماذا كانت أحلامه تدور؟ وإن كان له في يوم ما هدفاً غير تنفيذ ما يرتأيه الكبار من سفاكي الدماء تحت ألوية الانتصارات، تلك الانتصارات التي لا تحكي عن آلاف الجنود ولكنها تكرس عبر السنين لصاحب الأطماع التوسعية الذي يحلم بسيادة العالم، وهذا هو من سرق بطاقة الله فقتله، واحتل مكانه!
شخصية "عشري السترة" في مسرحية "مسافر ليل"، ما هي إلا تجسيد لتراتبيات الطواغيت، فليس هناك طاغية صغير، إلا آخر أكبر يعلوه، حتى نصل إلى الطاغية الأكبر، سلسال من الطواغيت، قد يحقدون على بعضهم البعض، يغارون مما في أيدي بعضهم البعض، النساء والقصور والذهب والفضة، لكنهم لا يمكن أن يكونوا ضد بعضهم البعض في مواجهة العامة.


والعامة مجرد أعداد كما يقول عشري السترة في المسرحية، قتلوا مئات وعذبوا العشرات حتى يصلوا إلى الجاني، هذا الجاني الذي سرق هوية الله فقتله ومحى وجوده من هذه البقعة من العالم. والراوي في المسرحية مجرد رجل لا يحمل سوى كتاب للتاريخ، التاريخ الذي لا يكتبه سوى المنتصرون، فهو قد يرى الحقيقة لكنه لن يروي سوى ما يمليه عليه عشري السترة، لأنه هو الذي يحمل السلاح ويمتلكه، فيقع العامة والمؤرخون  تحت تأثير حامل السلاح، وتضيع الحقيقة دائماً وللأبد.
علاقة السلطة بالناس على مر التاريخ، يلخصها صلاح عبد الصبور في فلسفة عميقة ونص يخلط الجد بالهزل، فلا يوجد أكثر من الأوهام التي يشتريها العامة حتى يعيشون، وإن كانوا في النهاية لا يحققون هذا العيش الذي يستمرون في عبوديتهم من أجله، فعشري السترة قد ينقض ليخطف روحاً دون سابق إنذار، روح تُقدم قرباناً كي يستمر الجميع في السير مكبين على وجوههم خوفاً وطمعاً في أن يعود الله لينظر إليهم بعد غيابه الطويل.
المسرحية عبارة عن مشهد واحد طويل، يجمع بين الراوي والراكب وعامل التذاكر أو "عشري السترة"، يلعب الفنان حمدي عباس دور الراكب الغافل، هذا الذي لا يدري لنفسه أو لعمله أو لوقته قيمة سوى بالعبث في أي شئ والقيام بأي حرفة ( ليس مهما ما هي؟ هي فقط حرفة للتكسب)، أوراق قديمة وبعض من أشعار لا يعرف لماذا حفظها؟، واستعداد دائم للانحناء دون تفكير، فهو لا يرغب سوى في الحياة حتى ولو كانت بلا هدف يخصه، وقد استطاع حمدي عباس باحتراف ملحوظ أن يعجن ملامح وجهه ويعيد تشكيل استقامة عموده الفقري وحركات ساقيه وذراعيه، بشكل سلس أوصل للجمهور الإحساس بأنه خانع وذليل. نبرات صوته أيضاً التي يشكلها وفقاً لموقعه من عشري السترة، فهو معتد وساخر في البداية عندما تعامل مع "عامل التذاكر" على أنه مجنون، ثم منافق يتزلف لعشري السترة في محاولة للنجاة، ثم متذلل يحاول إثبات براءته من تهمة لا يفهم كنهها، ثم متعجب من قدره الذي ساقه إلى هذا الموقف، ما أودى بحياته بشكل مجاني غير مبرر.



أما شخصية الراوي والتي لعبها الدكتور جهاد أبو العينين، فهي تثير العلاقة الجدلية بين موقع المثقف من المجتمع ومن السلطة، فهي علاقة شائكة طوال الوقت، فهذا المثقف الذي يعي كل شئ لا يملك سلاحاً سوى قلمه، لكنه أيضاً معرض طوال الوقت لأن يُقصف قلمه وتُمزق أوراقه، وذلك نلاحظه في مشهد يبدع صلاح عبد الصبور في رسمه ويبدع كل من علاء قوقة وحمدي عباس وجهاد أبوالعينين في نحته درامياً، حيث يشتعل الجدل بين عامل التذاكر "قوقة"، والراكب "عباس" حول التهام الأوراق، ما بين إنكار العامل لأكله لتذكرة القطار وبين الراكب الذي يحاول أن ينقذ بطاقته الشخصية حتى لا تلقي نفس المصير – ( نسمع عن أكل لحوم الخيل، جراد الصحراء، قدم الضفدع، أعشاب البحر، بل نسمع يا لا القسوة عن أكل لحوم الأحياء أو الموتى، لكنا لم نسمع عن أكل الأوراق) – وهنا يتدخل الراوي ليثبت أن الأوراق تؤكل أيضاً، ويبرز الإسقاط هنا على تزوير التاريخ بعبقرية "عبد الصبور" كتابةً، وعبقرية ثلاثي التمثيل في هذه النسخة من مسرحية "مسافر ليل" – عباس وقوقة وأبوالعينين – وهم يسلمون لبعضهم الفكرة بأداء انسيابي، لكنه مُربك أيضاً.


أما الدكتور علاء قوقة، والذي لعب دور عامل التذاكر أو عشري السترة، ونال عنها جائزة أفضل ممثل في الدورة الحادية عشر من المهرجان القومي للمسرح، فقد أعاد نحت الشخصية من جديد، وأسبغ عليها مقومات مختلفة من ذاته الإبداعية، فرغم أن صلاح عبد الصبور في الأساس قد كتب هذه الشخصية (الإسكندر، عامل التذاكر، عشري السترة) بنوع من السخرية أو الكوميديا السوداء، إلا أن هذه الشخصية تحتوي على كثير من المنحنيات والصعود والهبوط، والانتقالات السريعة من المحتوى الكوميدي إلى المحتوى العنيف والسلطوي، إلى المتلاعب الدنس، وهذا يتطلب الكثير من التحولات النفسية في الأداء خلال لحظات بسيطة وبمنتهى الدقة، وهذا ما تمكن قوقة من نحته باحتراف عالٍ، أضفى على الشخصية سحراً خاصاً وبريقاً أخاذاً، فليس خفي على الرائي، تعلق أعين الجمهور به وهو يصول ويجول بطول القطار وعرضه الضيق، وحتى معلق فوق شبكة الحقائب داخل القطار نفسه، وليس خفيا كذلك أن قوقة هو العامل الرئيسي في نجاح هذه المسرحية واستمرارها لحوالي تسعين ليلة عرض على مدار عام ونصف تقريباً، حيث أن الجمهور الذي تردد على المسرحية لمشاهدتها لأكثر من مرة كان يذهب في الأساس لمشاهدة أدائه الاحترافي للشخصية، والتي أعتقد تماماً أنها تحتاج إلى تحليل أكاديمي يُدرس للمهتمين.


كان لهذه النسخة من "مسافر ليل" مذاق خاص أيضاً، لأنها تخرج في شكل غير متعارف عليه، ففي كل النسخ الإخراجية للمسرحية، يُجهز المسرح التقليدي بديكور قطار مع إظلام لعمقه وجانبيه وبتركيز الإضاءة على ديكور القطار، وهذه المرة تم نقل أحداث المسرحية إلى الشارع، حيث تم بناء تكوين خشبي كبير على هيئة عربة قطار في ساحة الهناجر، وقُسمت العربة من الداخل إلى مربع تدور عليه أغلب الأحداث في المنتصف، ثم جانبين من مقاعد الراكبين أو المشاهدين، حيث يتنقل الممثلون من موقعهم الرئيسي في المنتصف خاصة "الراكب وعامل التذاكر"، إلى جانبي القطار شمالاً وجنوباً بين الركاب والجلوس جوارهم أحياناً، بينما يستقر الراوي أغلب الوقت بين صفوف المشاهدين أو الركاب، وهنا يبرز تحدي الإضاءة والصوت مع جسم عربة القطار المفتوح على الشارع وهو ما تحدث عنه المخرج المتميز محمود فؤاد صدقي تفصيلياً لمرات عديدة فيما سبق، لكن في النهاية أحب أن أركز على أن كسر تابوه العلبة الإيطالي مع نص مسافر ليل الذي يزيد عمره على الأربعين عاماً الآن، يُحسب لهذا المخرج الشاب، وأن محاولة إعادة إنتاج هذا النص المسرحي مرة أخرى سيحتاج إلى عشرة أعوام قادمة على الأقل للإتيان بفكرة تتفوق على فكرة فؤاد وأداء الفنانين الذين لعبوا بطولة هذه النسخة الإخراجية والإنتاجية من "مسافر ليل".
أدرك تماماً تحديات انتقال مثل هذا العرض إلى أماكن مختلفة على مستوى تكلفة الهدم والبناء، فأنت لا تبني أو تهدم ديكوراً اعتيادياً لمسرحية، وإنما تبني وتهدم بناءً حقيقياً يحتاج إلى تكلفة عالية حتى في الانتقال، وهذا يعد من أصعب تحديات العرض، ولكن كل ما أتمناه فعلاً أن لا يتوقف قطار "مسافر ليل" عند محطة ساحة الهناجر.


المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 6 نوفمبر 2018