الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

"مسافر ليل" ... نص مربك ونسخة إخراجية تتحدى الزمن






في البدء كان النص، هذا ما أعتقد فيه تمام الاعتقاد، فأن تشاهد عملا دراميا أكثر من مرة، لابد وأن يكون النص قد نصب لك شركاً معقداً من الصعب فك أحابيله إلا بتركيز كبير، تلعب معه لعبة الزن البوذية وتغوص في رحلة من التأمل، قد تخرج منها سليما، وقد لا تخرج أبداً، لكنك بالتأكيد لن تخرج مثلما دخلت.
هذا هو ما يفعله نص مسرحية "مسافر ليل" للراحل الكبير صلاح عبد الصبور، والذي يشبه رقعة البازل الكبيرة ذات القطع المنمنمة، لا يمكن أبداً أن تصل إلى قطع إطاره الرئيسي من أول مرة مشاهدة له. أذكر تماماً أنني لم استطع استيعابه عندما تجرأت ورفعت يدي ساحبة كتاب المسرحية من مكتبة الجامعة، فأعدت الكتاب وأنا أقسم أن الكاتب لابد وأن يكون مجنوناً تماماً مثل نيتشة الذي أرق لياليّ الغضة، في وقت كان من الأرجح أن ألهو مع حبيب ما في أروقة الجامعة وشوارع القاهرة.
أن تفترض وجود الله فليس عليك أن تأخذ افتراضك هذا بعيداً، هكذا كان نيتشه يعتقد، ويبدو أن صلاح عبد الصبور من خلال "مسافر ليل"، يرى أن فرضية وجود الله في منطقتنا لم تعد مقبولة، فالله لم يعد ينظر إلى هذه الناحية من العالم، وتركها للطواغيت. سلسلة من الطواغيت الذين مروا على أرضنا سارقين هوية الله ومعجزاته، استأثروا لذاتهم بالأرض التي دفنونا فيها بعد أن قدمنا لهم كل شئ، حتى الشعر.



نص فلسفي جريئ، يناقش بين طياته العلاقة بين الطغاة والعامة، هؤلاء العامة من البسطاء الذين لا يعرفون سوى العبودية، فراكب قطار "مسافر ليل"، اسمه "عبده" وأسماء أبنائه وأسماء أباه واجداده كلها تصريفات للعبودية – عبيد، عبدون، عابد ...إلخ – هو مستعد لأن يركع لأي إنسان يرفع راية القوة ولو من بعيد، لا يُعرف له هوية محددة سوى ارتباطه بالعظماء، الذين يزجي وقته بترديد أسمائهم والتحدث عن عظمتهم بأسطورية خُطت على عجل في أوراق قديمة، لا يسأل عن موقع جده العابد القديم، ولا ماذا كان يفعل؟ أو حول ماذا كانت أحلامه تدور؟ وإن كان له في يوم ما هدفاً غير تنفيذ ما يرتأيه الكبار من سفاكي الدماء تحت ألوية الانتصارات، تلك الانتصارات التي لا تحكي عن آلاف الجنود ولكنها تكرس عبر السنين لصاحب الأطماع التوسعية الذي يحلم بسيادة العالم، وهذا هو من سرق بطاقة الله فقتله، واحتل مكانه!
شخصية "عشري السترة" في مسرحية "مسافر ليل"، ما هي إلا تجسيد لتراتبيات الطواغيت، فليس هناك طاغية صغير، إلا آخر أكبر يعلوه، حتى نصل إلى الطاغية الأكبر، سلسال من الطواغيت، قد يحقدون على بعضهم البعض، يغارون مما في أيدي بعضهم البعض، النساء والقصور والذهب والفضة، لكنهم لا يمكن أن يكونوا ضد بعضهم البعض في مواجهة العامة.


والعامة مجرد أعداد كما يقول عشري السترة في المسرحية، قتلوا مئات وعذبوا العشرات حتى يصلوا إلى الجاني، هذا الجاني الذي سرق هوية الله فقتله ومحى وجوده من هذه البقعة من العالم. والراوي في المسرحية مجرد رجل لا يحمل سوى كتاب للتاريخ، التاريخ الذي لا يكتبه سوى المنتصرون، فهو قد يرى الحقيقة لكنه لن يروي سوى ما يمليه عليه عشري السترة، لأنه هو الذي يحمل السلاح ويمتلكه، فيقع العامة والمؤرخون  تحت تأثير حامل السلاح، وتضيع الحقيقة دائماً وللأبد.
علاقة السلطة بالناس على مر التاريخ، يلخصها صلاح عبد الصبور في فلسفة عميقة ونص يخلط الجد بالهزل، فلا يوجد أكثر من الأوهام التي يشتريها العامة حتى يعيشون، وإن كانوا في النهاية لا يحققون هذا العيش الذي يستمرون في عبوديتهم من أجله، فعشري السترة قد ينقض ليخطف روحاً دون سابق إنذار، روح تُقدم قرباناً كي يستمر الجميع في السير مكبين على وجوههم خوفاً وطمعاً في أن يعود الله لينظر إليهم بعد غيابه الطويل.
المسرحية عبارة عن مشهد واحد طويل، يجمع بين الراوي والراكب وعامل التذاكر أو "عشري السترة"، يلعب الفنان حمدي عباس دور الراكب الغافل، هذا الذي لا يدري لنفسه أو لعمله أو لوقته قيمة سوى بالعبث في أي شئ والقيام بأي حرفة ( ليس مهما ما هي؟ هي فقط حرفة للتكسب)، أوراق قديمة وبعض من أشعار لا يعرف لماذا حفظها؟، واستعداد دائم للانحناء دون تفكير، فهو لا يرغب سوى في الحياة حتى ولو كانت بلا هدف يخصه، وقد استطاع حمدي عباس باحتراف ملحوظ أن يعجن ملامح وجهه ويعيد تشكيل استقامة عموده الفقري وحركات ساقيه وذراعيه، بشكل سلس أوصل للجمهور الإحساس بأنه خانع وذليل. نبرات صوته أيضاً التي يشكلها وفقاً لموقعه من عشري السترة، فهو معتد وساخر في البداية عندما تعامل مع "عامل التذاكر" على أنه مجنون، ثم منافق يتزلف لعشري السترة في محاولة للنجاة، ثم متذلل يحاول إثبات براءته من تهمة لا يفهم كنهها، ثم متعجب من قدره الذي ساقه إلى هذا الموقف، ما أودى بحياته بشكل مجاني غير مبرر.



أما شخصية الراوي والتي لعبها الدكتور جهاد أبو العينين، فهي تثير العلاقة الجدلية بين موقع المثقف من المجتمع ومن السلطة، فهي علاقة شائكة طوال الوقت، فهذا المثقف الذي يعي كل شئ لا يملك سلاحاً سوى قلمه، لكنه أيضاً معرض طوال الوقت لأن يُقصف قلمه وتُمزق أوراقه، وذلك نلاحظه في مشهد يبدع صلاح عبد الصبور في رسمه ويبدع كل من علاء قوقة وحمدي عباس وجهاد أبوالعينين في نحته درامياً، حيث يشتعل الجدل بين عامل التذاكر "قوقة"، والراكب "عباس" حول التهام الأوراق، ما بين إنكار العامل لأكله لتذكرة القطار وبين الراكب الذي يحاول أن ينقذ بطاقته الشخصية حتى لا تلقي نفس المصير – ( نسمع عن أكل لحوم الخيل، جراد الصحراء، قدم الضفدع، أعشاب البحر، بل نسمع يا لا القسوة عن أكل لحوم الأحياء أو الموتى، لكنا لم نسمع عن أكل الأوراق) – وهنا يتدخل الراوي ليثبت أن الأوراق تؤكل أيضاً، ويبرز الإسقاط هنا على تزوير التاريخ بعبقرية "عبد الصبور" كتابةً، وعبقرية ثلاثي التمثيل في هذه النسخة من مسرحية "مسافر ليل" – عباس وقوقة وأبوالعينين – وهم يسلمون لبعضهم الفكرة بأداء انسيابي، لكنه مُربك أيضاً.


أما الدكتور علاء قوقة، والذي لعب دور عامل التذاكر أو عشري السترة، ونال عنها جائزة أفضل ممثل في الدورة الحادية عشر من المهرجان القومي للمسرح، فقد أعاد نحت الشخصية من جديد، وأسبغ عليها مقومات مختلفة من ذاته الإبداعية، فرغم أن صلاح عبد الصبور في الأساس قد كتب هذه الشخصية (الإسكندر، عامل التذاكر، عشري السترة) بنوع من السخرية أو الكوميديا السوداء، إلا أن هذه الشخصية تحتوي على كثير من المنحنيات والصعود والهبوط، والانتقالات السريعة من المحتوى الكوميدي إلى المحتوى العنيف والسلطوي، إلى المتلاعب الدنس، وهذا يتطلب الكثير من التحولات النفسية في الأداء خلال لحظات بسيطة وبمنتهى الدقة، وهذا ما تمكن قوقة من نحته باحتراف عالٍ، أضفى على الشخصية سحراً خاصاً وبريقاً أخاذاً، فليس خفي على الرائي، تعلق أعين الجمهور به وهو يصول ويجول بطول القطار وعرضه الضيق، وحتى معلق فوق شبكة الحقائب داخل القطار نفسه، وليس خفيا كذلك أن قوقة هو العامل الرئيسي في نجاح هذه المسرحية واستمرارها لحوالي تسعين ليلة عرض على مدار عام ونصف تقريباً، حيث أن الجمهور الذي تردد على المسرحية لمشاهدتها لأكثر من مرة كان يذهب في الأساس لمشاهدة أدائه الاحترافي للشخصية، والتي أعتقد تماماً أنها تحتاج إلى تحليل أكاديمي يُدرس للمهتمين.


كان لهذه النسخة من "مسافر ليل" مذاق خاص أيضاً، لأنها تخرج في شكل غير متعارف عليه، ففي كل النسخ الإخراجية للمسرحية، يُجهز المسرح التقليدي بديكور قطار مع إظلام لعمقه وجانبيه وبتركيز الإضاءة على ديكور القطار، وهذه المرة تم نقل أحداث المسرحية إلى الشارع، حيث تم بناء تكوين خشبي كبير على هيئة عربة قطار في ساحة الهناجر، وقُسمت العربة من الداخل إلى مربع تدور عليه أغلب الأحداث في المنتصف، ثم جانبين من مقاعد الراكبين أو المشاهدين، حيث يتنقل الممثلون من موقعهم الرئيسي في المنتصف خاصة "الراكب وعامل التذاكر"، إلى جانبي القطار شمالاً وجنوباً بين الركاب والجلوس جوارهم أحياناً، بينما يستقر الراوي أغلب الوقت بين صفوف المشاهدين أو الركاب، وهنا يبرز تحدي الإضاءة والصوت مع جسم عربة القطار المفتوح على الشارع وهو ما تحدث عنه المخرج المتميز محمود فؤاد صدقي تفصيلياً لمرات عديدة فيما سبق، لكن في النهاية أحب أن أركز على أن كسر تابوه العلبة الإيطالي مع نص مسافر ليل الذي يزيد عمره على الأربعين عاماً الآن، يُحسب لهذا المخرج الشاب، وأن محاولة إعادة إنتاج هذا النص المسرحي مرة أخرى سيحتاج إلى عشرة أعوام قادمة على الأقل للإتيان بفكرة تتفوق على فكرة فؤاد وأداء الفنانين الذين لعبوا بطولة هذه النسخة الإخراجية والإنتاجية من "مسافر ليل".
أدرك تماماً تحديات انتقال مثل هذا العرض إلى أماكن مختلفة على مستوى تكلفة الهدم والبناء، فأنت لا تبني أو تهدم ديكوراً اعتيادياً لمسرحية، وإنما تبني وتهدم بناءً حقيقياً يحتاج إلى تكلفة عالية حتى في الانتقال، وهذا يعد من أصعب تحديات العرض، ولكن كل ما أتمناه فعلاً أن لا يتوقف قطار "مسافر ليل" عند محطة ساحة الهناجر.


المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 6 نوفمبر 2018

هناك تعليقان (2):

  1. من مسرحية:"مسافرُ ليلٍ"لعمنا صلاح ×عبد الصبور-رحمه الله-يخشى أن يخدعَنا التاريخ ويكرر نفسه؟!!
    ×ولذلك ينصح أن ننسى الماضي
    حتى لا يقيد مسيرة المستقبل؟!!
    ×يا عم صلاح:وهل من الممكن نسيان التاريخ بصفة عامة رغم ما فيه من تدليس وتضليل وكذب بكل الألوان؟!!
    ×يا عم صلاح-وأنت سيد العارفين-أنت تعلم أن الحضارة الأوربية الحديثة استدعت كل التاريخ الإغريقي والروماني-مع بصمات الحضارة الإسلامية-لتضع هي أيضًا بصماتها الحضارية بقدمين راسختين من ماضيها البعيد وحضارة الإسلام التي عاصرت عصور ظلامهم،ثم بَدْءَ عصر نهضتهم أو الرينسانس..
    ×أما الصورة المدهشة والتي لم أستطع إلا أن أقف عندها؛فهي:
    "والبسطاءُ يعودونَ إذا استدعَيْتَهم من ذاكرتك
    ليكونوا متنزَّهَ أقدامِ العظماء"
    فالبسطاء والفقراء والغلابة والمقهورون والمسحوقون-على مدى تاريخ الكوكب-هم الأرض المفضلة لأقدام المتغطرسين والقتلة والنَّهَبَة وبلطجية العالم والتاريخ والكوكب كله-ليتنزهوا فيها،ويلهون فوقها؛ولا بأس أثناء النزهة واللهو أن يدفنوا نصف الكرة الأرضية أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه..
    وإنما يتركون الربع لخدمتهم؛وإلا لدفنوهم مع مليارات المقهورين المنهوبين المسحوقين في الكوكب كله مع اختلاف نسب القهر والنَّهب والسحق..
    ×ورحمك الله ورحمنا،وغفر الله لنا ولك يا عم صلاح..
    "فالعظماءُ يعودونَ إذا استدعَيْتَهم من ذاكرة التاريخِ
    لتسيطرَ عظمتُهم فوقَ البسطاء
    والبسطاءُ يعودونَ إذا استدعَيْتَهم من ذاكرتك
    ليكونوا متنزَّهَ أقدامِ العظماء
    ولذلك خيرٌ أن ننسى الماضي
    حتى لا يحيا في المستقبل
    حتى لا يخدعَنا التاريخُ ويكررُ نفسَهَ.
    =============================================
    ونحييكِ للمقال الذي غاص في بعض الأعماق!!

    ردحذف