الخميس، 27 سبتمبر 2018

"نظرة.. مدد" ... عرض مسرحي مفتوح يثير النوستالجيا ويفتح بوابةً للأمل






نظرة ..  مدد .. هذا  هو اسم العرض الذي نتج عن مشروع تخرج الدفعة الأولى من ورشة "ابدأ حلمك"، الذي يعدها مسرح الشباب برئاسة المخرج المتميز عادل حسان، والتي تفتح بوابة أمل ليس لعالم المسرح المصري فقط ولكن لعالم الثقافة والمعرفة في بلدنا بشكل عام. دائماً ما أؤمن بأنك لو لم تعط فكرة ومشروع للشباب فسوف يعطي غيرك هذه الفكرة وهذا المشروع، وهو ما شهدنا نتائجه خلال العقود السابقة التي غابت فيها الدولة عن قطاع الشباب في كافة ربوع مصر، فكانت النتيجة مؤسفة ووجهنا بأجيال تحمل أفكاراً ظلامية كادت أن تعصف باستقرار وأمان مصر، بل ومستقبلها الذي هو مستقبلنا أيضاً.


الآن نشهد حالة يقظة غير مسبوقة على الأقل منذ ستينيات القرن الماضي، فها هي دولتنا من خلال وزارة الثقافة وبرئاسة فنانة واعية ومثقفة وقوية تعطي الفكرة والمشروع للشباب،  وبالتالي تعطي الأمل في غد نحلم به مشرقاً ومتميزاً، فورشة "ابدأ حلمك" لا تستهدف إخراج أجيال جديدة من المسرحيين أو الفنانين بشكل عام فقط، لكنها تستهدف دمج قطاع الشباب في نشاط فني تثقيفي توعوي، يمنحهم الأمل والانتماء لدولتهم، التي تكرس طاقاتها الإبداعية من  أجل تعليمهم وتطوير مهاراتهم دون مقابل، فهذه الورشة مفتوحة للجميع ودون شروط سوى شرط واحد وهو الالتزام والتفاني في التدريب، وهي لا تطلب منهم الانخراط فيها دون مقابل، بل تدفع لهم أجراً أيضاً، ما يجعل التجربة متكاملة من حيث استراتيجيتها الفنية والاقتصادية.
عندما تذهب لتشاهد "نظرة .. مدد"، تعتقد للحظة بأنك بصدد مشاهدة عرض صوفي روحاني، لكن المفاجأة أنك لن تشاهد أي شئ من هذا القبيل، فتدرك فوراً أن عنوان العرض دعوة مفتوحة لنا جميعاً كي ننظر إلى هؤلاء الشباب وحتى العناصر المشاركة التي وصلت إلى منتصف العمر ونمدهم بآذاننا وقلوبنا كي نرى كل هذه الطاقة الإبداعية التي تُشرق على خشبة مسرح قصر ثقافة الجيزة، ونبتسم بثقة لاطمئنانا على الغد.


تمتد الورشة إلى ستة أشهر تبدأ بتأسيس المشاركين من خلال التعرف على قدراتهم الفردية ثم تعريضهم لتدريبات عملية لتنشيط الخيال وتحفيز العقلية النقدية التحليلية وتدريجياً يتعرف المتدرب على تقنيات حرفية الممثل نفسياً وعقلياً وجسدياً. أما المرحلة الثانية فتهدف إلى تحفيز المتدربين على استخدام حصيلة ما اختبروه من مفاهيم نظرية وتدريبات عملية من أجل صياغة مقاطع مسرحية قصيرة قائمة في معظمها على الارتجال، لتأتي المرحلة الثالثة والنهائية والتي يتحقق من خلالها "عرض التخرج"، وهنا يأتي الاختلاف الجوهري الذي يميز هذه الورشة عن غيرها، فكما يقول مخرج العرض والمشرف الفني له أحمد طه ؛ أنه لا يوجد أسهل من إخراج نص مسرحي وتدريب ممثلين عليه، ولكن كي يخرج لنا عنصراً فنياً قوياً علينا أن نضع المتدرب في بوتقة اختبار حقيقية مع الجمهور، وهذا ما فعله في عرض "نظرة ومدد"، الذي يقوم في مجملة على المزج بين الخطاب المسرحي والمقاطع الغنائية والراقصة، التي لا ترتبط ببعضها البعض، فإذا جاز التعبير فأنت مع هذا العرض تتابع دراما لا خطية حيث لا توجد شخصية محورية وشخصيات تتصارع معها، وإنما مجموعة من الارتجالات إن جاز لنا أيضاً أن نسميها ارتجالات مقصودة وتم التدريب عليها مسبقاً، والتي شارك في إعدادها وتطويرها المتدربون أنفسهم، مع بعض الأداءات المنفردة لشخصيات درامية تنتمي لعروض مسرحية مصرية وعالمية شهيرة، يقوم بها كل متدرب على حدة لينتقل الجميع بسرعة إلى أداء مقطع غنائي أو تعبير حركي، هذا إضافة إلى ارتجالات الحالات المزاجية المختلفة للممثل بالانتقال من تعبيرات السعادة إلى الحزن في لحظات قصيرة متتابعة بسرعة.


وكما فهمت من القائمين على العرض، فإن نظرة ومدد، ليس عرضاً ثابتاً كل يوم، بمعنى أنني لو حضرت العرض ليومين متتاليين فأنا بصدد مشاهدة عرضين مختلفين، حيث تختلف المونولوجات والمؤدين لها كل يوم، ما يضفي على العرض حيوية غير مسبوقة بل وجدل فني مثير وراقي داخل المشاهدين. ولكن دعوني أتحدث عن ما شاهدته في الليلة التي حضرت فيها هذا العرض المحبب، ولأبدأ بأكثر الألوان الموسيقية التي أعشقها والتي تعتبر نادرة في عالمنا العربي وربما لم يتصد لها الكثير من الموسيقيين العرب مثلما اهتم بها الموسيقار والمطرب الكبير الراحل محمد فوزي، ألا وهو الأكابيلا، والتي تعتمد على جسد الإنسان وأحباله الصوتية كآلات موسيقية فريدة من نوعها، وفي أكابيلاً هذا العرض نستمع ونشاهد أيضاً الحركة المسرحية المتناغمة مع الصوت والتي تقدم دراما دياليكتيكية للشارع المصري وتفاعلات الناس داخله، فخرجت مبدعة في الميلودي الخاص بها وكذلك في نسيجها الدرامي.


قصيدة حراجي القط للشاعر الراحل الكبير عبد الرحمن الأبنودي، والتي تم تجسيدها درامياً على شكل حوار بين حراجي وزوجته، فجاء الحوار عذباً ندياً كطين بلادنا المزهر برائحة محاصيله المزهرة، وقد أدى القصيدة في اليوم الذي حضرته الصحفي والمتدرب في نفس الوقت محمد عمار، ودكتورة في كلية فنون تطبيقية ومتدربة أيضاً ولاء عز الدين. هناك أيضاً المقطع المخصص للعملاق الراحل صلاح جاهين حيث المزج بين رباعياته الخالده ومسرحية العرائس الأشهر الليلة الكبيرة، حيث قام المتدربين بتجسيد شخصيات العرائس ليحولوها إلى لحم ودم، فخرجت بحرفية بليغة تُحسب لهم كتجربة أولى.


كذلك جاء تجسيد الشباب لمقاطع من مسرحية حسن ونعيمة التي كتبها شوقي عبد الحكيم ومزجها مع كوبليهات من أغاني سيد درويش مثل أغنية "يا عزيز عيني"، والتي اتسمت بحركة مسرحية أشبه بالموزاييك المتعاشق في حركة تشكيلية تعطي مع الإضاءة المستخدمة انطباعاً بأنك أمام لوحة فنية انطباعية، وهنا يجب أن نشير إلى الاستخدام المتنوع والمؤثر لسينوغرافيا العرض والتي أشرف عليها عمرو الأشرف، وجاء بعضها مجدداً مثل استخدام كشافات الضوء التي يحملها المتدربين في أحد المشاهد لتشكيل الإضاءة وتحريكها بينهم.
"نظرة .. مدد" دون أن يقصد القائمون عليه وبعفوية فنية شديدة، خرج عرضاً متكاملاً بل وحياً أيضاً، فأنت أمام عرض مسرحي مفتوح على كل الاحتمالات، يثير داخلك نوستالجيا الحنين لنصوص تربيت وهي مترسخة في وجدانك، وتشاهدها بمفهوم عصري لا يخل من قيمتها الأصيلة بل يضفي عليها قيمة جديدة، ويعطيك الفرصة لتشاهد مواهب خلاقة لوجوه مصرية مختلفة تمنحك المتعة والأمل.


 المقال منشور في جريدة القاهرة في عدد الثلاثاء 25 سبتمبر2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق