الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

"أنت وأنا" ... عندما يتحول الصمت إلى بلاغة تفكك وعيك وتستدعي طفولتك





ربما يكون الوصف الأمثل لعرض افتتاح الدورة الخامسة والعشرين من مهرجان المسرح التجريبي والمعاصر،  أنه عرض غرائبي، فالعرض السويسري لفرقة مومنشانز ببساطة يذكرك بأعمال دالي السينمائية  السيريالية والتي تكسر كل حوائط  الفن الراسخة بمجموعة من الصور المجسدة، وإن كان يبعد تماماً عن غرائبية دالي المقبضة ويصحب المشاهد في رحلة من المتعة الطفولية.


عرض (أنت وأنا) لا يحتوي على أي نوع من أنواع الجمل الموسيقية أو حتى  الموسيقى المرافقة للحركة لتجسيدها بشكل أعمق، فأنت لا تسمع سوى همهات الجمهور وأصوات حركة الأدوات التي يستخدمها المؤدون أو  إذا شئنا أن نطلق عليهم لقب ممثلين، ولا يكسر الصمت أحياناً سوى  ضحكات خفيفة تصدر بين وقت وآخر من أفراد الجمهور.


أنت لا ترى الممثلين، بل أنه من الصعب كما أشرت سابقاً أن نطلق لقب ممثل على المشاركين في أداء العرض، فهم يختفون خلف أقنعتهم المتعددة في الظلام، ويرتدون ملابس سوداء تغطي حتى وجوههم، وأحياناً يظهر جسد العارض في الضوء، لكنه لا يظهر بذاته المعبرة بقدر ما يظهر في ذات الشخصية الغرائبية التي يؤديها. هم لا يستخدمون اللغة الحوارية بأي شكل من الأشكال، ولكنهم يستخدمون المايم وحركة الجسد مع الأدوات المستخدمة لتجسيد شخصية ما للتعبير عن الفكرة بانسيابية مبهجة ومبهرة.

تعتمد المسرحية على الإمتاع حيث لا تعد المشاهدين بغيره، لدرجة أنك قد تشعر بأنك تشاهد فيلماً كرتونياً صامتاً يستدعي سذاجتك الطفولية السعيدة في تعرفها على الأشياء من حولها أو في تعريفها لها، فهو عرض غير تقليدي بالمرة لا يعتمد على حبكة درامية وصراع بين شخصية محورية وشخصيات تتصارع معها، ورغم ذلك أنت تفهم كل ما يجري على خشبة المسرح وتشعر بكل التشابكات النفسية المتداخلة برأسك، ليتم تفكيكها تدريجياً حتى تجد نفسك حراً ومنطلقاً ومتفاعلاً مع البالونات الطائرة والأكياس التي يتم تشكيلها على هيئة  كائنات بحرية تتفاعل مع بعضها البعض (تتحارب وتتصارع ثم تتلاقى)، وهنا ستتخلى تدريجياً عن جديتك التي أحضرت نفسك بها لمشاهدة عرض مسرحي في افتتاح مهرجان للمسرح التجريبي والذي يتعرض دائماً لاتهام بأنه نخبوي معقد.


 ومسرح المومنشانز عبارة عن عالم غرائبي مليئ بالخيال، فإن كنت لا تمتلك خيالاً يقظاً وخصباً، فثق بأنك ستستعيد خيالك الطفولي معهم، وكأنك تدخل مدينة مسحورة ذات مواصفات مختلفة عن كل المدن التي خبرتها، وثق أنك لن تجلس لتشاهد المدينة عن بعد، فهم سيدعونك لتتورط معهم في لعبتهم، فأنت وأنا دعوة للتشابك والتورط المحبب القائم في الأساس على اللعب.


المسرحية عبارة عن اسكتشات قصيرة يحمل كل اسكتش قصة ذات تفاصيل وشخوص مختلفة، فأنت تنتقل من عالم الدلالات البشرية إلى عالم دلالات البحار والمحيطات إلى عالم دلالات الحروف.. إلخ، وكل اسكتش يبدو مختلفاً لكن في النهاية تكتشف أنها جميعها يشترك في تجسيد رمزية التفاعل الحي بين كل شئ وآخر، وليكن هذا الشئ إنساناً أو أخطبوطاً أو سمكة أو آلة فيولين، الكل يتحاور ويتجادل ليصل إلى منطقة الحب.


الأقنعة تبدو هي اللعبة الأثيرة لدى المومنشانز، وربما نقطة القوة لديهم، إضافة إلى براعة الانسيابية الجسدية لدى المؤدين المختفين خلف الأقنعة في الظلام، فأنت لا تفكر للحظة أن من يحرك كل هذا أجساداً تشبه أجسادنا، وإنما هي أجساد وصلت إلى نقطة الانطلاق من مركزية الجاذبية الأرضية فلم تعد مربوطة بثقلها  إليها، وتكاد تصل إلى قناعة بأنها أجساد طائرة أو عائمة.
لغة الصمت المستخدمة في العرض لا تمثل نقطة ضعف بل قوة لم نكن نتخيل بلاغتها، فكيف لعرض صامت بالكامل حتى من الموسيقى ولايقدم سوى أصوات حفيف الأكياس المستخدمة في تشكيل أجساد العرض على اختلاف شخوصها أن يأخذك داخله بهذه البساطة، فتعي الحوارات الجادة والعميقة على بساطتها كمعنى وتندمج معها بكلك.


ورغم الإظلام التام لخشبة المسرح بحيث لا يتعرض المشاهد إلا لإضاءة تتسلط على الشئ محور حكاية الاسكتش، إلا أن الضوء يغمرك وأنت جالس على مقعدك تشاهد أشكالا بسيطة من المشاحنات التي تتفكك لتتحول إلى اتفاق، فتجد نفسك تتحلل تدريجياً من كل عقد أو أطر أيديولوجية تكبلك، وتفقد وعيك المسيطر على أدائك الخارجي، ليخرج الطفل القابع في اللاوعي ويضحك ضحكة رائقة لم تكن تعي أنك مازلت قادراً على ضحكها.


بقى أن نعرف أن فرقة المومنشانز تأسست على يد ثلاثة هم بيرني استشيرش وفلوريانا فراسيتو التي كانت ضمن المكرمين بافتتاح المهرجان، والراحل أندريه بوسارد، الذين أمضوا ثلاثة أعوام متفرغين لاستكشاف طرقاً تجريبية جديدة وجمع بينهم عشق المسرح والكوميديا، وأثمر بحثهم هذا عن شكلً مسرحي مبتكر يبتعد عن الرقصات الكلاسيكية والشكل التقليدي للمسرح الإيمائي ذي الوجوه البيضاء، وصاغوا هذه التجربة الجديدة التي توظف الأدوات الحديثة لبعث الحياة في الأقنعة والأشخاص على نطاق واسع.


تتكون الفرقة حالياً من خمسة ممثلين متميزين وهم سارة هيرمان وأوليفر بريف وكريستا باريت وفلوريانا فراسيتو وكيفن بليزر، وقد قدمت الفرقة عروضها في أكثر من ستين دولة في خمس قارات منذ إنشائها في باريس عام 1972، كما ظهروا في عدد كبير من البرامج التلفزيونية التي قدموا فيها أجزاء من عروضهم.

"أنت وأنا" أومسرح المومنشانز تجربة جديدة تماماً على واقعنا البصري المسرحي، ويحتاج إلى قراءة متأنية من مسرحيينا في محاولة لتطويع شكل مسرحي يتحدث بنفس هذه اللغة المسرحية الفريدة، فتفاعل الجمهور وبقاؤه على مقعد لأكثر من ساعة وهو يشاهد هذا الفعل المسرحي الصامت تماماً يعد حدثاً يتوجب الوقوف عنده.

المقال منشور على جريدة القاهرة عدد 18 سبتمبر 2018


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق