الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

أنا كارمن ... مونودراما تحركها "سماء" بعصاة سحرية تسيطر بها على المسرح


انطلاقاً من الأوبرا الفرنسية الشهيرة  (كارمن) والتي ألفها جورج بيزيه مستوحياً أحداثها من رواية بنفس الاسم صدرت في القرن التاسع عشر وتحديداً عام  1874 للكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه، قدمت الفنانة سماء إبراهيم المونودراما المسرحية (أنا كارمن)، التي أنتجها مسرح الطليعة وعرضها مسرح أوبرا ملك ضمن  مسابقة المهرجان القومي للمسرح.
لطالما كانت شخصية الغجرية كارمن مصدر إلهام لعديد من الأدباء والسينمائيين لرسم الشخصيات النسائية في أعمالهم، فمما لا شك فيه أن كارمن مثلت انقلاب في كسر التابوهات المرسومة عن المرأة على مدار العصور، فهي المتمردة التعيسة التي يقتلها خروجها على نواميس الكون.
وأعتقد أن سماء وجدت في كارمن معبر قوي للفكرة المسرحية التي كتبتها بنفسها، والتي فيما يبدو أنها تعبر عن هواجسها باعتبارها فنانة تعيش في قلب العبث الروتيني وأزمة الدوران في الفراغ التي يعيشها المصريون جميعاً داخل الكيان الكبير للمنطقة العربية بأحلامها المجهضة منذ فشل المشروع التنويري لناصر.
مسرحية  (أنا كارمن) تعتبر حالة من الهذيان الوجداني الذي لا ترى بطلته وسيلة للخروج منه سوى عبر المسرح، فهو كما ترى هي وكما يرى العالم كله، المعبر الإبداعي الأول والأساس للوجدان الإنساني العالمي في مواجهة آلات الحياة الطاحنة، فيخرج الإنسان ليعبر من خلاله عن شتاته وسط متطلبات الحياة والمؤثرات الكونية على تركيبته البشرية، والذي يعيش النزاع بين ما هو مفروض عليه وبين تطلعاته وأحلامه البسيطة.  
تتنقل سماء إبراهيم في نصها المونودرامي بين الروتين الذي يتعذب في أروقته المواطن المصري، فما بالك لو كان هذا المواطن فناناً يحلم بأن يصل بأفكاره إلى الجمهور، وما بالك لو كان هذا المواطن امرأة يتنازع داخلها ألف حلم في مواجهة ألف صورة ذهنية مكرسة في المجتمع بخصوص المرأة. امرأة ذات وجوه متعددة لا يجمعها سوى الانتظار والقهر، انتظار الحب وانتظار الاعتراف بكيانها بعيداً عن الجسد المشتهى والمغتصب، وانتظار الحياة بعيداً عن قوانين مكبلة لكينونتها.  
تنتقل أسماء بين أدوار متعددة، بداية من عاملة النظافة التي تهيئ المسرح لاستقبال أوبرا كارمن الشهيرة، ثم تقدم وجوه كارمن النسائية الكثيرة ولكن في ثوب عربي، حيث ألف وجه لألف امرأة عربية تحاصرها عذابات الحياة، فتتنقل باحتراف بين امرأة العلاقات العاطفية المجهضة والمشوهة، إلى الزوجة الفلسطينية التي تنتظر زوجها المسجون ووطنها المغتصب بين أروقة الاحتلال والمفاوضات، إلى المرأة المنتهكة على أيدي رافعي شعارات حقوق النساء، إلى الزوجة الفقيرة التي تلهث وراء كسرات الخبز من أجل أطفالها.
تتشابك الشخوص التي تلعبها سماء من خلال نص ينتقل من موضوع إلى موضوع ومن شخصية إلى شخصية بسلاسة وانسيابية، لا توحي للمتفرج بأن هناك انتقال ما، فلا يوجد توقف في الحوار الوجداني وإنما يسلم النص نفسه إلى نفسه من خلال كلمات تنهي بها سماء شخصية وتنتقل بها إلى شخصية جديدة.
الفضاء المسرحي في (أنا كارمن) يعبر عن عذوبة التناول الأنثوي للتفاصيل، فهو مرتب بعناية  ليشمل كل أدوات الملابس والديكور التي تحتاج إليها البطلة لتتنقل بين شخوص مسرحيتها، ولا تحتاج سماء للفصل بين المشاهد باستخدام الإضاءة أو بالخروج من على خشبة المسرح، فهي تتحرك بين أدواتها وتستخدمها بأسلوب لا يشكل أي اضطراب أو قطع أو حتى صمت لأحداث المسرحية، فسماء تمتلك طاقة جبارة من القدرة على الارتجال والتعامل مع جمهورها وكأنها واحدة منهم تجلس بينهم وتحاكيهم وتأخذ منهم وترد عليهم دون الوقوع في أي إسفاف أو خلل بالفكرة الرئيسية للنص. وهذا ما يحدث في واقع الأمر، فخشبة المسرح ومقاعد الجمهور يبدوان كقطعة واحدة من هذه الفنانة المعجونة بماء العفاريت، فهي تصل بنا إلى مرحلة نعتقد فيها تماماً أنها ملتصقة بالمسرح وأنه جزء من تكوينها الجسدي.
من الأداء باللهجة المصرية الشائعة إلى اللهجة الصعيدية ثم إلى اللغة العربية الفصحى تتنقل سماء كفراشة رشيقة لا يحرقها الضوء، فهي تعرف كيف تمتص رحيق كل زهرة وتستخدمه من أجل ازدهارها على خشبة المسرح، تغني وتعزف الجيتار وترقص وتتنقل بين التراجيدي والكوميدي دون عناء، حتى تتلبسك عفاريتها وأنت جالس على مقاعد الجماهير، حيث لا تجد متسعاً للفصل داخل نفسك بين الضحك والبكاء الذي تتنقل بينهما سماء دون عناء وبنفس درجة الإقناع.
(أنا كارمن) نص يمكن تلقيبه بعرض الرجل الواحد one man show فالمؤلف والمخرج والممثل واحد، وربما كانت أسماء أيضاً هي الجنية التي تقف وراء الإضاءة، فهي طوال الوقت تحركها بيديها وكأنها ساحرة تحرك الريح وتُنزل المطر والصواعق، فقط شاركها بتأليف موسيقى العرض الموسيقار السكندري محمد حسني، والذي عبرت موسيقاه عن مضمون العرض والشخوص التي ترتديها سماء إبراهيم.
لا يمكنني أن أطرح السؤال التقليدي (لماذا لم تستفد الدراما المصرية سواء سينما أو فيديو من العبقرية الفنية لسماء إبراهيم؟)، فالإجابة معروفة مسبقاً، حيث لا تتمتع سماء بملامح أو روح العروسة باربي التي يصرون أن يفرضوها علينا، لكن في النهاية لدينا كما تحب سماء (المسرح)، هذا الكيان الذي يعبر بصدق عن نبض الشارع الحقيقي.

المقال منشور بنشرة المهرجان القومي للمسرح 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق