الخميس، 16 أغسطس 2018

إنهم يعزفون ..... قمة الاتساق والتناغم بين عناصر المسرحية المتشظية






عندما تقرر الذهاب لمشاهدة عرض من إنتاج أكاديمية الفنون وعلى خشبة معهد فنون مسرحية، فأنت تمتلئ بمشاعر متناقضة، الثقة بأنك حتما ستشاهد عرضا مذهلا لأنه يخرج من الشريان الرئيسي المغذي لمصر كلها بالفنانين والمبدعين، والخوف من الشعور بالإحباط أن لا تحصل على شيء فتقلق على مستقبل الفن في مصر.
هذا هو ما أحسست به وانا في طريقي لمشاهدة مسرحية (انهم يعزفون)، اتأرجح بين التوقعات العظيمة والخوف من الإحباط، لكنني حصلت على أعظم من توقعاتي واستطاع أبطال العرض بنص عال الحساسية والرهافة أن يسيلوا الدمع من مآقي وأوقعوني في أزمة البحث عن وسيلة لكبت قلبي من أن يبوح بجيشانه بصوت مرتفع يشق حالة الصمت التي سادت مقاعد الجمهور الذين نجحوا في حبس أنفاسه.
لا شك أن وجود اسم محمود جمال حديني على أفيش المسرحية يعتبر ضمانا الى حد ما بأنك على وشك مشاهدة عمل مسرحي متميز، فهو صاحب اثنين من أعلى المسرحيات مشاهدة واستمرارا في السنوات الفائتة (يوم أن قتلوا الغناء و ١٩٨٠ وانت طالع), لكن المسرح عمل ذو عناصر متعددة اذا ما انهار عنصر انهار العمل ككل، خاصة وان هذه الرؤية الجديدة لمسرحية انهم يعزفون، يقدمها طلاب أكاديمية الفنون بعد أن قدمتها فرقة كومبارس منذ عامين.
 ينشغل مؤلف المسرحية محمود حديني بفكرة الحرية المطلقة ويربط بينها وبين الموسيقى، والموسيقى لديه هي المعادل الموضوعي للبحث عن الحرية, هذه الحرية غير المشروطة بأي إطار أيديولوجي, فقط حرية التنفس والعمل وتكوين اسرة، وحرية الضحك والغناء. هذه الحريات البسيطة التي تعتبر الف باء الحياة, والتي يرى حديني أن النظام العالمي الحديث جعلها مطالب شاقة يصعب الحصول عليها. يناقش محمود جمال بذكاء في نصوصه المسرحية اتحاد الدين بالسلطة لقهر الإنسان وضمان خضوعه، لكنه يتمتع بالذكاء اللازم لعدم تكرار نفسه، فهو هذه المرة يطرح الأمر بشكل غير مباشر، حيث استخدام رموز دينية مثل الصليب الذي يصلب عليه كل ثوري أو كل من يعترض, ويركز على أن السلطة لا تفرق في الاعتراض بين دين وآخر حيث يجمع العسس كل المعترضين من كل الاديان حتى (البوذيين).
لا يحدد المؤلف زمان أو مكان لأحداث مسرحيته بل يتركهما مطلقين ليشملا كل أشكال القمع السلطوي ضد الانسان, لكنه لا يبرأ من استخدام الاسقاط النفسي على الواقع او التاريخ الحديث وتوجهات السلطات العالمية المعاصرة التي لا تعتبر للإنسان بقدر ما تعتبر لأطماعها. يربط النص بين التاريخي والآني طوال الاحداث, فهو يستخدم إطارا عاما تاريخيا يضع داخله الأحداث ويظهر من خلال الملابس والديكور، لكن المحتوى العام للنص يناقش قضايا معاصرة تعبر عن القلق البشري تجاه تغول السلطة الرأسمالية التي تتغذى على فناء الإنسان.
تبدأ المسرحية بنظام الراوي الخفي الذي يحكي أصل الحكاية للمستمعين قبل أن يتعرفوا على أبطال الحدوتة، حيث تبرز النوستالجيا الإنسانية الدائمة لعصر ما في الماضي كان الإنسان يعيش وسط الطبيعة مع باقي الكائنات دون سلطة او أطماع أو حروب، لنتعرف على خشاب بسيط كان يصنع من خشب الاشجار أدوات مختلفة تفيد الإنسان في حياته، لكنه يقع تحت نير حاكم ظالم يجبره بالتعذيب أن يصنع الصلبان ليصلب عليها خصومه، ومنذ تلك اللحظة تتحول حياة الناس وتتبدل ضحكاتهم الى أنين، هذا الأنين الذي يترجمه المؤلف إلى عزف، كلما ارتفع صوت العزف كلما اقتربت لحظة الخلاص. يستخدم المؤلف أيضا ورقة شجر خضراء وحيدة بقت معلقة بفرعها دون أن تسقط مثل غيرها في خريف امتد دون انتهاء، ليرمز إلى الأمل الذي يمكننا التشبث به حتى يأتي اليوم الذي نتمكن فيه من الخلاص من السلطة الرأسمالية العالمية.
المخرج الشاب عبد الله صابر استطاع أن يقدم رؤية مميزة ومختلفة لمسرحية انهم يعزفون، فلقد استطاع أن يحول خشبة المسرح الى كائن حي نابض تصلك خفقات قلبه وانت على مقعدك، وذلك بترجمة محتوى النص المسرحي برهافة مفرطة من خلال تقسيم الخشبة الى ثلاثة أقسام، يمين و يسار وعمق المنتصف، تاركا منتصف مقدمة المسرح للأماكن المختلفة عن بيت أب وأم المصلوب ٣ وأسرة المصلوب ١ والسجن. يستخدم أيضا صابر التقنية المسرحية البريختية بوضع شخصية الثائر بين الجمهور طوال المسرحية ليصعد الى سلالم المسرح في المنتصف أثناء تحقيقات العسس، وبذلك يورط صابر الجمهور في الأحداث ويكسر الحاجز الوهمي بينهم وبين الممثلين فتتحول قاعة المسرح كلها – الخشبة والمقاعد – الى ساحة أحداث واحدة ينغمس في تفاصيلها الجميع.
المخرج مع مهندس الإضاءة مصطفى الهامي، لعبا لعبة الكادرات السينمائية المتتابعة عن طريق الاضاءة فهو ينتقل من مكان الى آخر على خشبة المسرح بتقنية الاضاءة والاظلام، كما يعبر عن الوهم الذي يعيشه المصلوبين بانسيابية شديدة من خلال الضوء، حتى لا تكاد ترى كيف انتقل الممثل من تعلقه على الصليب إلى مقدمة المسرح ثم عاد الى الصليب مرة اخرى.
تلعب الموسيقى دورا هاما في مسرحية (انهم يعزفون) وهذا أمر متوقع بالطبع، فالمؤلف بنى نصه على اساس ان العزف الموسيقي ترجمة لاعتراض الناس وشكواهم، وقد جاءت الموسيقى وألحان الأغاني جيدة ومعبرة بشكل كبير عن الأحداث على اختلاف مواضعها وتصاعدها. المميز فيما يخص موسيقى العرض أن مؤلفها مصطفى منصور والعازفين قدموا موسيقاهم حية، وهذا أمر يتميز به طلاب أكاديمية الفنون عن غيرهم، حيث أنهم جميعا ينتمون لمعاهد الاكاديمية سواء معهد الموسيقى العربية أو الكونسرفتوار.
كنت أتمنى توزيع كتيب صغير بأسماء الممثلين الذين شاركوا في العرض، لينال كل واحد فيهم ما يستحقه من اشادة، لكن هذا لم يتحقق لنا، ولكن في النهاية لا يمكن اغفال براعة الاداء للممثلين المشاركين في العرض بشكل عام، خاصة الفنان الذي لعب دور والد المصلوب ٣، فهذا الممثل على حداثة عمره، غول مسرح كبير يستطيع أن يهيمن على خشبته بقوة، كما يتميز بقدرة فائقة على تقمص الدور والغوص في تفاصيله، لدرجة انه أقنعنا تماما بأنه رجل عجوز أعمى يعاني فقد ولده. وقد برزت ذروة أدائه في مشهد وفاة زوجته حيث عصر قلوبنا بقبضة يده دون رحمة وتركنا نتخبط بين زخات دموعنا.
الفنانون الذين لعبوا أدوار المصلوبين الثلاثة أيضا استطاعوا أن يملكوا ادوارهم بقوة رغم قسوتها، فأدوارهم تفرض عليهم البقاء في وضع الصلب أغلب الوقت ولا يتحركون الا يسيرا ليعودوا الى صلبانهم مرة أخرى، ولا يمكن كذلك أغفال الفنان الذي لعب دور كبير العسس الذي يتمتع بقسوة مستفزة تلازمه طوال أحداث المسرحية، حتى يتوفى الطفل ووالدة المصلوب ٣ فنشاهد التحول في الشخصية والذي لعبه بحرفية شديدة. الثائر أيضا كان مميزا في أدائه هو والفتاة والطفلة والطفل، فهذا النص يفرض على ممثليه وضعا خاصا ان لم يتقنوه انفرط عقد المسرحية تماما، وهو ما لم يحدث، فمسرحية (انهم يعزفون) تجسيد للتوزيع البوليفوني  للموسيقى، حيث قمة التناغم بين المتشظي.



المقال منشور في نشرة المهرجان القومي للمسرح 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق