الاثنين، 13 أغسطس 2018

(كلهم أبنائي) ... الشباب يحطمون نظرية الهواة بوعي يصل إلى الاحتراف


لا يمكنني أن أتحدث عن العناصر الفنية الناجحة في مسرحية (كلهم أبنائي) والتي عُرضت على مسرح مركز الإبداع، دون أن أبدأ بالحديث عن أهم عنصر ساهم في خروج هذه المسرحية بهذا المستوى الفني المرهف والموزون بحساسية شديدة الألق، ألا وهو مجموعة العمل بالمسرحية بداية من المخرج ومروراً بالممثلين وحتى تصميم الديكور والإضاءة، والذين يطيحون بما تبقى من عقلك في ظل قيظ يوليو، عندما تعلم أنهم هواة وليسوا محترفين، وأنهم أيضاً فرقة جامعية تضم مجموعة من طلبة وخريجي كليات جامعة عين شمس.


الجملة التي صحنا بها عندما خرج علينا شاب صغير ضئيل الحجم في نهاية العرض اسمه نورعبد الله قالوا أنه المخرج هي : " إنت بقى اللي عملت كل ده؟"، لم تكن جملة استنكارية بل تعجبية، فهذا الفهم الدقيق لأعمق تفاصيل مسرحية (كلهم أبنائي) التي كتبها المسرحي الأمريكي الكبير آرثر ميللر ليعري من خلالها المجتمع الأمريكي الذي تأكله قيم العمل الرأسمالية في مقابل المبادئ الإنسانية، هذا الفهم ينم عن وعي وإدراك ودراسة وتعمق شديد في النص وكل الدراسات التي صدرت حوله، لتشريح الشخوص وتفكيكها، فلقد استطاع هذا الشاب الصغير أن يحول خشبة المسرح إلى منطقة لهب مشتعل طوال الوقت، لهب امتد إلى وعينا على مقاعد الجمهور فأخذ بكل تركيزنا حتى آخر نفس خرج من صدر ممثل قبل أن ينطفأ آخر ضوء.
تعتبر مسرحية (كلهم أبنائي) من المسرحيات الصعبة في التنفيذ فهي تحتوي على أصوات متعددة، يمثل كل منها قيمة مناقضة للأخرى، كما أنها في مجملها تشكل بؤرة صراع بين الشخصيات، بحيث كل واحد منهم يرغب في الانتصار لفكرته ومنحها الغلبة والسيادة على الآخرين. في نفس الوقت يلعب كل صوت أو شخصية دور الضحية أو المغفل، رغم أنه في داخله يدرك كل التفاصيل لكل ما يدور حوله، لكنه يختار أن يبقى مغفلاً ومرتاحاً مع مبادئه المعلنة. حالة عنيفة من الشد والجذب بين أطراف الشخصيات في المسرحية، التي تحمل داخلها كل أسباب التنافر إلا أنها لا تفعل سوى الاقتراب والتآزر حتى ولو كان ذلك بالتواطئ على الصمت عن الحق.
شخصية الأم في مسرحية (كلهم أبنائي) أفضل من يعبر عن هذا الصرع الذي تحدثت عنه سابقاً، فهي تبدو في قشرتها الخارجية، امرأة بسيطة وأم حنون مكلومة في فقد ابنها لاري خلال الحرب، وتصر على انتظاره وتحاول أن تجبر زوجها وابنها الآخر على نمط حياة يعيش في حالة انتظار لعودة الغائب، لكننا مع تصاعد الأحداث والوصول إلى ذروتها نكتشف أنها امرأة ذات سطوة ومارست سلطتها القائمةعلى القمع مع أفراد أسرتها وخاصة زوجها، الذي انصاع لتعليماتها الصارمة بخصوص الحفاظ على العمل، ونلاحظ ذلك في الجملة التي تقولها له دائماً (استعمل ذكائك يا جو). لعبت هبة الكومي دور الأم ببراعة وكان أداؤها موزوناً بميزان حساس لدرجة أنها نقلت ارتعاش توترها الدائم من أجل الحفاظ على عالمها المزيف إلينا على مقاعد المشاهدين.
محمد علاء خريج كلية الهندسة والذي ينوي الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، كان أكثر من عبر عن فساد منظومتنا التعليمية خاصة في بيوتنا، فلماذا يضيع هذا الممثل العبقري بالفطرة خمس سنوات من عمره في دراسة الهندسة، بينما مكانه الطبيعي هو خشبة المسرح أو أمام كاميرات السينما والفيديو. لعب محمد دور (جو كيلر) الأب ورجل الأعمال الأمريكي الذي خبر قسوة الهرولة في ماراثون العمل الشاق منذ طفولته، وقاسى الأمرين من قيم الرأسمالية التي قد تعصف بشقاء عقود طويلة من العمل في لحظة واحدة إذا فكرنا مرتين بخصوص واحد من تعليماتها. شخصية جو كيلر هي تعبير صريح عن الصراع الدامي بين معاني الإنسانية الفطرية وبين آليات الرأسمالية الطاحنة التي تجبرنا على اختيار بقائنا في مقابل بقاء الآخرين، فإما موتي أو موتكم؟ وهنا يصبح الفساد أمراً عادياً والقتل إجراء يومي بسيط، وهذا ما تم تلخيصه في جملة بسيطة صدرت مما يمكن اعتباره المذياع، والذي كان يعلن وقائع الحرب وسقوط واحد وعشرين طائرة بطياريها مقتولين، حيث قال ( الطائرات الفاسدة، كلكم فاسدون ونحن أيضاً فاسدون).
جو يحافظ على عمله في مقابل خسارة صديق عمره وقتل 21طياراً ببيع 21 غطاء سلندر للطائرات بها شروخ كبيرة، وهو لا يرى في الأمر غضاضة بقوله:" كنت أحافظ على العمل، كيف يكون الإنسان بلا عمل؟ إنهم قد يعصفون بك في لحظة واحدة ويضيع شقاء أربعين عاماً من العمل، ماذا يفعل رجل في الواحد والستين من عمره إذا ضاع عمله لمدة أربعين عاماً) ... كل الجمل الحوارية الشبيهة بتلك تعمق وتؤصل لفساد الرأسمالية، التي تلهب ظهر الإنسان طوال الوقت من أجل البقاء في مقابل فناء الآخرين، لكنه في النهاية يمزقه الجذب بين شقي الرحى، فابنه الأول قد يكون واحداً من هؤلاء الطيارين وإن أنكر ذلك طوال الوقت قائلا (لاري لا يقود طيارة بي فورتي)، وابنه الثاني لا يسامحه على فساده.
شخصية الإبن أيضاً وإن بدت في أول المسرحية بسيطة ولا تحمل في طياتها تركيبات نفسية معقدة، إلا أننا تدريجياً ندرك أن (كريس كيلر) والذي جسد دوره سعيد سالمان بجدارة شديدة البهاء، يحمل داخله الكثير من التناقضات، فكريس يجسد الجيل الثاني من الرأسمالية، هذا الجيل الذي خرج إلى العمل لينعم بما قدمه لهم آبائهم من عمل منظم ومستقر، فمارسوا العمل دون أن يبذلوا في سبيله الشقاء والمعاناة ودون أن يشعروا بالخوف من فقده، وبالتالي نمت داخلهم قيم إنسانية رومانسية، تنتصر للحب والانتماء وهذا ما يسخر منه الوالد جو كيلر دائماً بقوله (ابني رومانسي)، هذا الابن الذي يعيش ممزقاً لأنه عاش بسبب جبنه بينما مات أصدقائه الطيارين وأخوه لأنهم كانوا  منتمين للوطن وأكثر شجاعة منه. لكن هذا الابن أيضاً يجسد قيمة (قتل السلطة الأبوية)، ويظهر هذا في التحول من الانصياع المستمر لرغبات الأم والأب ومحاولة الفوز بمكتسبات يوافقون عليها بالتحايل والإقناع، إلى إعلان الرفض وفرض رغباته بقوة، سواء على الأم بأن توافق على زواجه من (آن دييفر) محبوبة أخاه لاري، أو بمحاولته قتل والده عندما اكتشف أنه المجرم الحقيقي الذي تسبب في قتل الطيارين.
وهنا نصل إلى سلطة الدولة التي تقوم على مبادئ الرأسمالية، فهدم السلطة الأبوية التي يقوم بها الابن، لا تقتصر على والده وإنما تمتد إلى الدولة نفسها التي تتحكم بالحرب في الشعوب، والتي تستخدم القيم الإنسانية لجر مواطنيها في معارك لا تفعل سوى ضمان عجلة الآلات دائرة في مقابل انطفاء الإنسان نفسه، وقد برع المخرج نور عبد الله في ترجمة مقصد آرثر ميللر من وراء هذه المسرحية، فميللر لم يكن يعني فقط تعرية الفساد في الحرب، وإنما كان يرمي إلى كشف لعبة الحرب التي تستخدمها الرأسمالية دائماً من أجل الحفاظ على جذوتها مستعرة، وهذا ما فهمه الأب ونفذه ليحفظ بقائه وبقاء عائلته، وهذا ما يهدمه الابن.
ومن أهم المشاهد في المسرحية، والتي جسدت قمة الصراع بين كافة الشخوص وكل واحد فيهم يحاول أن يفرض سطوته ومبادئه على الآخرين، ذلك المشهد الذي قسم فيه المخرج فضائه المسرحي إلى قسمين، حيث الجدل دائر بين الأب والأم في الجانب الأيسر من مقدمة الخشبة، وجدل موازٍ آخر يدور في مؤخرتها على اليمين بين الأخوين آن وجورج دييفر، ويمثل هذا المشهد في رأيي قمة الوهم الذي يعيشه الإنسان في ظل سيادة قيم الرأسمالية، فالكل يكذب حتى على نفسه من أجل أن يبقى حياً، حياً فقط ولا ينعم سوى بالشقاء.
رغم البساطة التي قد يبدو عليها ديكور المسرحية، وما يعتقده البعض من كونه استاتيكي جامد، إلا أن الحقيقة أنه ينبض بالحركة والحيوية لما يحتوي عليه من تفاصيل دقيقة تعبر عن حالة الأسرة التي نتعامل معها، وتتضامن الإضاءة مع الديكور في بث الحركة فيه وتطويعها لتحرك الممثلين داخل الفضاء المسرحي، الذي استطاع المخرج في انسيابية شديدة أن يعبؤه على عكس ما قد يبدو عليه في بداية الأحداث.
لا يسعني في البداية سوى القول أن هؤلاء الشباب الجامعي، استطاع أن يقدم مسرحاً احترافياً واعياً عالي القيمة في كافة عناصره، بشكل أفضل بكثير من محترفين، نتعامل مع إنتاجهم كل يوم ونحن نعتقد أن هذا هو أفضل ما يمكن الحصول عليه في مصر.

المقال نُشر في نشرة المهرجان القومي للمسرح 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق