السبت، 11 أغسطس 2018

"مركب بلا صياد" .. طرح جريئ لقيم الرأسمالية العالمية باستخدام تيمة "فاوست"





شهد اللعب على تيمة فاوست للأديب الألماني الكبير يوهان جوته، تجارب درامية متعددة سواء كانت معالجات مسرحية أو سينمائية أو حتى تليفزيونية، وهذه هي التيمة التي تتخذها مسرحية  "مركب بلا صياد" مرتكزاً لها حتى تغزل خيوط أحداثها الدرامية، وإن كانت قدمت طرحاً جديداً للفاوستية، بأنه يمكن للإنسان أن يمزق عقده مع الشيطان ليخرج عن سطوته ويستعيد حياته ليبدأ من جديد.
المسرحية مأخوذة عن نص مسرحي شهير للكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا، والتي ترجمها دكتور محمود علي مكي إلى العربية، ولكن عمرو قابيل الذي لعب ثلاثة أدوار هامة في هذه المسرحية (الدراماتورج والمخرج وبطل العرض)، لم يكتف بالتركيز على المعاني الإنسانية التي تعمل المسرحية على طرحها، واستغل الفرصة جيداً ليقدم محاسبة محسوبة بدقة لآليات الرأسمالية العالمية والسوق الحر ونتائجها المدمرة على الإنسان والقيم الاجتماعية، دون أن يقع في فخ المعلومات الاقتصادية الجامدة، فخرجت مغزولة بحرفية عالية ضمن الإطار الدرامي العام لأحداث المسرحية ككل.

ربما كانت شخصية الشيطان الذي لعب دوره بجدارة الفنان الدكتور هاني عبد الناصر، هي أكثر الشخصيات اللافتة في المسرحية، فهي مكتوبة بشكل يكسر الإطار النمطي المعتاد للشيطان، فهو شخصية حديثة وشابة، يعرف جيداً كيفية اللعب مع الإنسان المعاصر، الذي أعاد توصيف الشر وأعطى لأشكاله غير المباشرة تبريرات قانونية، فأصبح الشر فقط هو ما نقوم بفعله بأيدينا وليس ما نشير نحوه بأصابعنا من بعيد، وهنا تبدأ اللعبة التي تنسكب في مراحلها الأحداث.


شخصية ريكاردو خوردان أيضاً والتي لعبها عمرو قابيل، كُتبت بأسلوب ينم عن وعي شديد بتفاصيل اختلافات الإنسان المعاصر، الذي يعيش مجموعة من القيم المغايرة عن تلك التاريخية، وبالتالي فلا يمكن له أن يخاف أو يرتعش من مقابلة الشيطان، بل سينكره حتماً ويتعامل معه على أنه رجل جاء لينصب عليه، كما أن عمرو قابيل بوصفه دراماتورج تميز بالوعي الشديد عندما أفصح في شخصية خوردان عن وعيها الشديد بقذارة اللعبة  الرأسمالية في مقابل المعاني الإنسانية البسيطة، وجسده كونه مرتاحاً مع قيمه هذه ولا يرى في عكسها سوى خرافات قديمة، وعند هذه النقطة يتم الاتفاق ويوقع خوردان على عقد الشيطان بشروطه وهي (أن يقتل إنساناً دون دم)!


لعبت الموسيقى والمؤثرات الصوتية دوراً هاماً في المسرحية، فنحن لا نستمع إلى موسيقى واضحة تصاحب الأحداث، بقدر ما تقابلنا مؤثرات صوتية تمثلت في صوت البحر في المشهد الأول منها، كذلك جاء صوت قطرات الماء مؤثرة جداً لتجسيد بعض المعاني التي تطرحها الأحداث، ناهيك عن استخدام الموسيقى الدرامية المثيرة التي تمهد للمشاهد عملية الانتقال لحدث فاعل يشكل تحولاً في الدراما، أو يفسر موقفاً ما. هناك أيضاً الأصوات التي تنقلنا إلى الشارع خارج الكوخ البسيط الذي تجري داخله معظم الأحداث، مثل صوت الباخرة التي تستعد للرحيل.
الديكورعلى بساطته جاء موحياً ومعبراً عن تركيبة الشخصيات داخل المسرحية، فنحن لا نتحرك مع الأحداث إلى أماكن كثيرة تتغير قطعها على خشبة المسرح، وإنما نتعامل مع بيت خشبي فقير لأرملة وجدتها العجوز ورغم فقر البيت إلا أنه يوحي بالمحبة وغنى النفس، وعندما ينقلنا المخرج إلى مشهد خارج البيت، فهو لا يحرك قطعاً كثيرة، ولا يستبدل أيها بقطع أخرى، فقط تلعب الإضاءة دور كبير في إخفاء ملامح الكوخ والحديقة التي يطل عليها، ويتم تحويل مكتبة المراكب الشراعية الصغيرة إلى بار في منزل الرأسمالي خوردان.
الإضاءة تلعب دوراً موحياً آخر في عرض "مركب بلا صياد"، فنحن في بداية العرض نتعرض لإضاءة قاتمة وحزينة تعبر بصدق عن الحالة التي تعيشها الأرملة وجدتها اللتان تعانيان من الفقد والحرمان بعد موت بيتر أندرسون زوج ستيلا أو الفنانة راندا التي لعبت دور الأرملة، ولكننا في نهاية العرض وبعض أن يعيش أليخاندرو بين هاتين السيدتين الحزينتين تتحول الإضاءة إلى أنوار صريحة وكأن الشمس تغمر البيت الفقير وهو ما تدعمه الأحداث حيث ظهور الشمس في بلد يمتد فيها الشتاء إلى ثمانية أشهرفي السنة.


يستخدم النص تقنية الفلاش باك في الأحداث، فنحن نبدأ المسرحية من منطقة الفقد والحرمان للسيدتين جراء مقتل الزوج بيتر أندرسون، وحالة الغل التي تعيشها الزوجة التي ترملت على غير توقعها فجأة، ثم نعود إلى الوراء لنتعرف على ريكاردو خوردان، الضيف الغريب الذي هبط من السفينة باحثاً عن بيت زوجة أندرسون، لنعود بعد ذلك إلى نفس المشهد الذي عدنا منه إلى الخلف. تُستخدم هذه التقنية مرة أخرى عندما يتذكر خوردان النتائج المثمرة لعقده مع الشيطان الذي أنقذه من إفلاس محقق، وكيف فقد بعدها قدرته على الحياة أو الإحساس بالسعادة.
تنتهي المسرحية نهاية سعيدة تقليدية حيث ينتصر الإنسان على الشيطان ويهزمه بالخروج على سطوته وسيطرته، لتعيش الشخصيات في سعادة بعد ذلك، وهذا ما يمكنني الاعتراض عليه، ربما لعدم واقعيته فلا يوجد رأسمالي على استعداد لترك كل ما يملك ليعيش حياة الفقراء، التي صورها قابيل بشكل تقليدي لا يتناسب وحداثية رسمه لشخصيات المسرحية، فالفقر ليس جميلاً في النهاية وليس هو السبيل إلى النوم الهادئ والمطمئن، وإن كان من الممكن تفسير هذا الأمر بأنه لا يقصد الفقر ولكن يقصد الحياة في حضن الطبيعة والبساطة بعيداً عن تعقيدات التكنولوجيا وآليات العمل الحديثة التي لا تقوم على الإنتاج الحقيقي وإنما تدوير المال وتحقيق الربح من التجارة فيه.
في النهاية نحن بصدد مسرحية تحقق معادلة متعة المشاهدة، ومتابعة طرحاً جريئاً للعبة الرأسمالية العالمية الحديثة والتي يؤكد الكاتب والمخرج عمرو قابيل، أن نتائجها لا تختلف كثيرا عن نتائج اتباع الشيطان.
المقال منشور في نشرة مهرجان المسرح القومي 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق