الثلاثاء، 15 أكتوبر 2019

في افتتاح المعاصر والتجريبي .. "الخياليون" يبهر الجمهور من فرط بساطته




عرض الخياليون أو the fantasticks  هو أطول عرض مسرحي موسيقي مازال يعرض حتى الآن ومنذ عام 1960 في الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يُعرف بعروض "الأوف برودواي" وهو المصطلح الذي يُطلق على العروض التي تُقدم على مسارح منهاتن بنيويورك، والتي لا تتسع لأكثر من 499 مقعد، وهي مسارح أصغر من مسارح "برودواي" الأكثر شهرة عالمياً ولكنها تظل أكبر من مسارح "أوف أوف برودواي" والتي لا تتسع مقاعدها لأكثر من مائة مقعد.


يكتسب هذا العرض أهميته من كونه أطول عرض باقي على قيد الحياة، فهو يُعرض من تسعة وخمسين عاماً حتى الآن، ورغم بساطة خيوطه الدرامية وعدم اعتماده على الإبهار الحركي أو الديكور الخيالي، إلا أنه استطاع أن يستقر في وجدان الجمهور الأمريكي من خلال الموسيقى العذبة الرومانسية التي ألفها هارفي شميدت، وكلمات الأغاني التي كتبها توم جونز، لتتحول بعض الأغاني لجزء من الوجدان العاطفي الأمريكي مثل "حاول أن تتذكر" try to remember التي خلبت لب الجمهور في كل مكان بالعالم، وأحدثت نفس الأثر مع جمهور الدورة السادسة والعشرين من مهرجان المسرحي المعاصر والتجريبي، في حفل الافتتاح.


ربما لا ينتمي عرض "الخياليون" بأي حال من الأحوال إلى التجريب المسرحي، فهو ينتمي بوضوح إلى الشكل التقليدي للمسرح وإن اعتمد على ديكور بسيط يعتمد على خيال المشاهد أكثر من استخدام القطع الثابتة أو المتحركة، كما أن المسرحية الموسيقية استخدمت تكنيكاً سردياً قديماً جداً، حيث هناك راوِ يتحرك بوضوح ويلعب دور الإله الأعلى الذي يحرك الأحداث ويوجه الشخوص ويشرح الأمور غير الواضحة للجمهور، إضافة إلى ما يشبه شخصية المهرج في مسرح العصور الوسطى، أو شخصية تتحرك في الفضاء المسرحي بلا دور أو علاقة بالأحداث أو الشخصيات، فقط تتحمل مسئولية وضع أو نزع بعض الموتيفات الإيحائية المؤثرة في الأحداث، مثل إخراج قرص يلعب دوري القمر والشمس وتعليقه بالعمود المستقر في منتصف المسرح كفاصل بين الممثلين وعازف البيانو وعازفة الهارب اللائي عزفا موسيقى المسرحية بشكل حي ومتفاعل مع الأحداث.


The Fantasticks  عبارة عن مسرحية موسيقية "Musical" رومانسية مضحكة، تحكي حكاية فتى وفتاة تحاول أمهما فصلهما عن بعضهما البعض منذ صغرهما، إعمالاً بالمثل القائل "الممنوع مرغوب"، فيطلب الراوي واسمه "إلجالو" من الجمهور استخدام خياله ومتابعة الأحداث في عالم يحكمه سحر ضوء القمر، فيقع الفتى في عشق الفتاة ويعيشان التحدي الذي نسجته كلا والدتيهما، ثم يواجهان العقبات الحياتية في لهيب الشمس فينفصلان، ليتوها في الحياة ثم يجدان طريقهما إلى بعضهما البعض في النهاية بعد أن يدركوا  الحياة وأنه من دون أوجاع يكون القلب أجوفاً.


مع الحد الأدنى من الأزياء، وقطع الديكور التي تكاد تنعدم من فوق خشبة المسرح، والفرقة الموسيقية التي تتكون من آلتين موسيقتين فقط، يشاهد الجمهور عرضاً حميمياً يمكن تنفيذه في أي مساحة من الفضاء المسرحي، بل يمكن أيضاً الخروج به من إطار العلبة الإيطالية لأي فضاء بأي زاوية، حيث تثير المسرحية الخيال بثنائياتها الحوارية وحتى في السرد الذي يوجهه الراوي "إالجالو" للجمهور، ومع موسيقى وأغاني رومانتيكية عذبة، تحكي حكاية بسيطة يمر بها أي فتى وفتاة في مقتبل العمر يتصوران أنهما امتلكا كل شئ واكتسبا كل المعارف التي ستمكنهما من تحقيق كل ما يطمحان به ويتحديان كل صروف القدر من أجل أن يكونا معاً ليستمتعا بالحياة، فتصيبهما الخيبات المتتالية، ليفترقا ويبدأ كل واحد منهما في اكتشاف قيمة الحياة الحقيقية وواقع الناس والأمور، إلى أن يكتسبا الخبرات ويصبحا أكثر نضجاً. كل ذلك من خلال سلسلة متتالية من الأغاني الجذابة التي تجد طريقها سريعاً نحو القلوب والتي أصبح الكثير منها الآن من كلاسيكيات الأغاني العالمية.


تتكون المسرحية من فصلين، في الفصل الأول تشاهد بناءً تقليدياً للحبكة الدرامية، حيث قصة ساذجة لا تحمل في طياتها أي نوع من أنواع الصراع سوى هذا التحدي الذي تضعه الأُمان للفتى والفتاة بأن تقيما سوراً يفصل بينهما وتوحيان لهما بأنهما ليسا على وفاق، لأنها تؤمنان بأن كل الأبناء يفعلن دائماً عكس ما يريد الآباء، وبالفعل يتحقق ما للأمين من أحلام ويرتبط الفتى والفتاة متحديان السور الفاصل بين المنزلين، وهنا عليك أن تعرف أنه لا يوجد تكوين لسور على المسرح، فهو مجرد عصاه يحملها مخرج العرض الذي يتحرك مرتدياً ملابس أشبه بالمهرج بين الممثلين وبلا دور يلعبه في الأحداث أكثر من إخراج قطع الديكور الصغيرة والموحية من صندوق أشبه بصناديق الكنوز في حكايات القراصنة الخيالية والذي يتوسط خشبة المسرح.
نتابع الأحداث التي يرويها "إلجالو" والذي يلعب دور الرب الأعلى للشخوص، فنحن نراه يوجههما بالاتفاق مع والدتيهما، ومن ثم نراه يضع في طريقهما العراقيل كي يعلمهما حقيقة الحياة من أجل أن ينضجا ويعلما أن الحياة، أعمق من التشبث بالأشياء والمظاهر، وأن القيمة الحقيقية تكمن في أن نكون مع من نحب دون توقعات أو رغبات خيالية.

ربما يكون أفضل ما كان في اختيار هذا العمل لعرضه بافتتاح المهرجان التجريبي والمعاصر في دورته لهذا العام، هو درس البساطة الذي قًدمه للمهتمين بالمسرح في مصر، فأنت لا تحتاج إلى قصة متشابكة ومعقدة في خيوطها الدرامية، ولا تحتاج إلى ملابس مبهرة وديكور خيالي كي تجذب الجمهور وتحقق النجاح الفني، أنت تحتاج فقط إلى خيال رائق وعمل درامي إبداعي صادق كي تحقق المعادلة الصعبة وتفوز بتصفيق الجمهور واستمرارية العرض.

المقال نُشر بجريدة القاهرة في سبتمبر 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق