السبت، 12 فبراير 2011

مصر جديدة تتشكل بأرواح شهداء اللوتس


لم يكن الثلاثمئة شهيد الذين سقطوا أثناء ثورة 25 يناير، هم أول شهداء يسقطون على تراب الوطن من أجل حريته، وإن كانوا يختلفون في كونهم دفعوا أرواحهم من أجل حرية مصر من المستعمر الداخلي أو المحلي. ولن يكونوا أيضاً آخر من سيضحي بدمائه من أجل رفعة المحروسة. طوال الأربعين عاماً السابقة استشهد كثيرون منا بشكل أو بآخر. كثيرون فقدوا أرواحهم داخل المعتقلات وخرجوا مجرد أجساد تتحرك، وكتاب تم قصف قلمهم بطريقة أو بأخرى فانزووا بعيداً أو هاجروا خارج البلاد، وآخرون تم سرقة أحلامهم بسبب المحسوبية والواسطة والبلطجة واستغلال النفوذ، وجيل كامل خرج للحياة دون تعليم أو إعداد لائق للعمل وكسب الرزق بكرامة، وشباب لا يمكن حصر تعدادهم وقعوا من اليأس وموت الحلم في شراك الإدمان، الذي فتحت حكومات مبارك منذ بداية عهده، بوابات البلاد على مصرعيها، مرحبة بمخدرات الصهاينة التي كانت تجارة للبعض داخل مصر، بينما هي خطة سياسية لتدمير الشعب من قبل إسرائيل. كثيرون وكثيرون، سُفحت أحلامهم وكرامتهم على تراب أم الدنيا، ولقد عبرت عن جيلي – جيل التسعينات – وما لحقه من ضرر على يد جمهورية مبارك الشيطانية، في روايتي " طعم الأيام" التي صدرت عام 2009، والتي تم ملاحقتها من قبل المثقفين المسيسين، مدعين أنها تقدم مبالغات لا أساس لها من الصحة، لكنها في حقيقة الأمر كانت صرخة مدوية، أطلقتها من نبع حزن ويأس صافيين، غمرا حياتي منذ قررت أن أنفي نفسي خارج الوطن، بعد أن تمت ملاحقتي حتى في لقمة عيشي من قبل أزناب مبارك التي انتشرت في كل ركن من أركان مصر. كلنا شهداء فقدنا أرواحنا على عتبات مصر، وكنا بالفعل قد وصلنا إلى مرحلة الجثث التي تسير على قدمين، تتعاطى مع الأيام بآلية، وشهية مفقودة تماماً للحياة. هذه كانت مصر وهكذا كنا حتى يوم الخامس والعشرين من يناير عام 2011.
أعترف بأنني لم أصدق أن شيئاً حقيقياً سيحدث، تجاربي الفاشلة في المظاهرات كانت من أسباب رحيلي، عندما كان المارون في الشوارع ينظرون إلينا باستخفاف ويعتبروننا ثُلة من الشباب الطائش، الذي يخرج طاقاته المكبوتة في العواء ضد السلطة الحاكمة، كانوا يأخذون المنشورات من أيدينا ليلقوا بها إلى الأرض فور إدارتنا لظهورنا، وكان الأمن المركزي أيضاً يستخف بنا، نحن المتظاهرون الأغبياء الذين لا يتجاوزوا على أكثر تقدير المائة شخص، مائة من الحالمين بسرابات يرونها هم ببساطة أوهام. لم أصدق 25 يناير واستخففت بها، كنت أرفض كل الدعوات التي تأتي لي على الفيس بوك لأشارك في المظاهرة، تعاملت مع أيامي بروتين اعتدت عليه منذ سنين، منذ أن فقدت الحلم وتشبثت بأهداب الكتابة، كآخر دليل لي على أنني مازلت أحيا، استعددت لإجازة منتصف العام الدراسية ووضعت خطة لابني وابنتي وأمي كي نخرج ونتنزه في أماكن عدة، لكن 25 يناير جاء هادراً مؤكداً أن مصر مهما غفت لا تموت، وأنها مهما شاخت، تعود لتولد من جديد كطائر فينيق عظيم.
ثمانية عشر يوماً من الصراع، مروا كثمانية عشر عاماً أو يزيد، يتساقط ورد بلادي أمام عيني، فمن يستحقون الفناء مازالوا يعيشون حتى الآن، بينما رحل صانعوا الحياة لهذا الوطن، ويرقد بين الحياة والموت آلاف من الشرفاء الذين فقدوا أعينهم وبُترت أعضائهم وأصيب من أصيب بالشلل، من أجل أن تحيا البهية، ويحيا باقي المصريين تحت ظلالها التي يجب أن نعيدها إلى نقطة الدفئ والحيوية.
يجب الاعتراف بشهدائنا كشهداء حرب، وبجراحانا كجرحى حرب، لأنهم بالفعل خاضوا حرباً، هي الأشرف من بين كل الحروب التي خاضها المصريون على مدار مئات السنين، هي الحرب من أجل العدل والحرية والمساواة وإقرار المواطنة لكل فرد يدب على تراب المحروسة، هي الحرب الفيصل بيننا وبين السقوط في مستنقع التخلف أو الارتفاع نحو ضوء الشمس المهيب. يجب منح أهالي الشهداء أوسمة شرف واعطائهم كافة المزايا التي تحصل عليها أسر شهداء أكتوبر وكافة الحروب التي خاضها المصريون من قبل، كذلك يجب منح الجرحى نفس الأوسمة ومخصصات تليق بما قدموه لهذا الوطن، تماماً مثل جرحى حروبنا العظيمة السابقة. الاعتذار إليهم وإلى أسرهم لا معنى له، بل تكريمهم وتشييد نصب تذكاري بأسمائهم وصورهم هو الذي ننتظره من مصر الجديدة التي حلمنا بها منذ الأزل، وها هي الفرصة بين أيدينا كي نبنيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق