الثلاثاء، 31 مارس 2015

كتاب الأمان ... رواية تضع حقيقتنا خلف خط الهامش

هل عرفتم للأمان كتاباً؟ ... ربما السؤال الأقرب إلى الواقع هو: هل تعرفون الأمان أو خبرتموه؟...لا أدري إن كان ياسر عبد الحافظ قد وعى أو هدف إلى طرح سؤال فلسفي عميق حول علاقة الإنسان بالأمان.. حول إدراكه له.. وحول الصراع الأزلي بين كافة الشخوص الحياتية وبعضها وهي تلقي بمسئولية أمانها على أكتاف آخرين، فينقسم المجتمع إلى فئة مُؤَمَنة وفئة تعكف على تأمين الأولى، فإن تقاعست الفئة الثانية، تم لومها أو تجريمها وربما نفيها من الحياة المؤنسنة، أو ذات الإطار المعروف بمواصفات الإنسانية.
بين شبرا ومصر الجديدة تحدث وقائع "كتاب الأمان"، لكنك عزيزي القارئ؛ عليك أن تنسى ما على سطح الحياة في هاتين البقعتين الشهيرتين داخل حدود العاصمة القاهرة. فمع شخوص الكتاب وملابسات حياتهم، ستتعرف ربما على ما وراء الستر المنسدلة علينا جميعاً في تلك الحياة التي نعيشها، وستبدأ في رؤية واقع مغاير لنفوس قد تشبه نفوسنا الصامتة عن حقيقتها في أغلب الأوقات.
يمارس ياسر عبد الحافظ في كتاب الأمان، هوايته الشهيرة، ألا وهي مراقبة العالم في صمت وربما إيحاء لمن حوله، أنه لا يسمع ولا يرى وبالمرة لا يتكلم، لكن وراء ذلك الصمت، عينان خبيثتان جداً، تلتقط خيوطاً رفيعة تسري داخلنا، ربما تمثل أحلاماً أو رغبات في الحياة، لكن الواقع دائماً ما يملي شروطه فيحجبنا إلى الوراء، خلف خطوط الحياة الحقيقية.
ويفضح ياسر نفسه ربما في صفحة 51 عندما يتحدث عن خالد مأمون وهو يصف أستاذه عبقري الشطرنج وعمدة مقهى المجانين أو العباقرة، المقهى المحرم على العاديين من البشر، فيقول:
أنا والأستاذ فخري وجهان لعملة واحدة، أب وابنه، هكذا تقول بقية المجموعة مازحة. شبه مصدره الطباع، تحديداً... السلوك الصارم الذي يسعى إلى هجران العالم، فردان من سلالة مندثرة لا يهمها ما يحدث حولها، تراقب ولا تتورط.
ويكمل في صفحة 52 قائلاً:
المشاهد ثابتة، لا نولي العالم إلا نظرات خاطفة. يمنع الزجاج معظم الصوت فيصلنا ما يحدث مصفى من ابتذاله، لو أدركت الناس كم تكون جميلة عندما تصمت لتخلصت في طقس جماعي من ذلك العضو الزائد.
بين مصطفى إسماعيل وخالد مأمون ونبيل العدل، تجري أحداث الكتاب. لكن من يتخيل أنهم الأبطال الذين تتمركز حولهم تفاصيل الأمان، فهو مخطئ، فكل شخصية أتى على ذكرها الكاتب وشملها ولو ببضع أسطر، كانت موجودة لتعلن عن رؤيتها الخاصة للأمان، ومحاولتها المستميتة من أجل تحقيقه. فإن كان الأستاذ الجامعي مصطفى إسماعيل  - الذي قرر أن يكسر حجب الواقع ويسحب خيط حياته الأصيل ويخرج إلى أمام خطوط الحياة، ولو من باب العيش بوجهين، وجه يعطيه للعامة ووجه حقيقي يمثله بالفعل – إن كان هو صاحب كتاب الأمان الأصلي كما أشار عبد الحافظ، في روايته، حيث استخدم مقولات لمصطفى إسماعيل ليستهل بها كل فصل من فصول الرواية، يلخص من خلالها حكمة الرجل في شرح الأمان بالنسبة إلى اللص المحترف والمغاير لما هو سائد من لصوص للمنازل، فهو لا يسرق بغرض الحصول على المال، ولا كما ادعى كثيرون، بأنه روبين هود العصر الذي يسرق من الأغنياء من أجل أن يعطي الفقراء. هو لا هذا ولا ذاك، وإنما هو يسرق لمتعته الشخصية فقط ولكي يثبت وجهة نظر في الحياة أمام نفسه وأمام من سرقه.....يسرق ليستمتع ويكسر روتين الواقع الذي يملي علينا كل شئ لا نرغب فيه، بينما ما نرغبه فعلاً ممنوع بقوى عديدة تقبع داخل أُطر غالباً لم نشارك في وضعها، لكننا ننحشر داخلها وفقاً لنظرية الدومينو.
( من قال إنه لابد من وجود قوانين لنلتزم بأن يكون لنا مبادئ )
هذه هي الجملة الافتتاحية في الطبعة الأولى مما عُرف بأنه كتاب الأمان الخاص بشخصية خالد مأمون، والذي اعتبرها صياغة مختصرة لأفكار مصطفى إسماعيل الدكتور الجامعي وأشهر لص في التسعينات. وفي نفس الفصل رقم 18 يؤكد خالد على فكرة الرواية كلها بهذه الجملة ( من المسؤول عن اختيار نمط حياتنا بهذه الدقة؟).
وكيل النيابة نبيل العدل بشكل آخر يبحث عن كتاب أمانه، ويجده في وهم مدينته الفاضلة التي حددها بحدود مصر الجديدة، التي فصلها عن عالم القاهرة الآخر من أحياء فقيرة أو غنية، فهو يرى أن العالم الأفضل يقبع داخل مصر الجديدة وناسها المنزهين عن باقي البشر الآخرين، كما أنه يغلق باب نفسه على أسطورة قصر البارون وأميرته المسحورة التي تسكن روحها داخله، وتحافظ عليه وتحميه من باقي الغوغاء، وهو الذي اضطر أن يعيش أيضاً بوجهين، وجه للواقع الحياتي المفروض عليه من قبل أهله وزوجته وعمله، ووجهه الآخر المسحور بالجنيات.
أماحسناء، ابنة الدكتور اللص، فهي أيضاً تبحث عن كتاب أمانها بين دفات كتب أبيها وهوامشه المدونة على الصفحات، والتي تعكف بهندسة عجيبة على قصها من الكتب، لتلقي بها جميهاً إلى الشارع فيما عدا الأغلفة، في محاولة لفهم نفسها ولتحديد مربع أمانها الخاص، بعيداً عن أب خدعها وهجرها وأم ماتت تلهث وراء كرامة غير مفهومة، وإخلاص لمنظومة فرضها عليها المجتمع ولم تغنم منها شيئا.
كذلك في العلاقة المربعة التي تجمع خالد وحبيبته هدى بصديقه لطفي وحبيبته منال. هي نفسها اللعبة – التأرجح بين ما نحن عليه وما نفعله لننحشر داخل الإطار المُعترف به – وبين هذا وذاك يلعب كل واحد منهم لعبة أمانه الخاصة أو يحاول أن يسطر كتاب أمانه.
شخصيات أخرى مرت سريعاً في الرواية مثل أشرف السويفي و تاليا فتاة المقهى وسوسن التي تجد أمانها في الماضي وتحاول أن تؤكد على استمراره بحياة سرية ..... كلهم يحاولون البحث عن مربع آمن يسكنون إليه في رحلة تمزقهم بين ما هو مفروض وما هم عليه.
خمس سنوات يمضيهاخالد مأمون في مهنة فاز بها من خلال مسابقة اشترك بها عابثاً فتحولت إلى وظيفة لم يستطع أن يُعرفها باسم، فهذا مهندس وهذا طبيب وهذا وكيل نيابة، أما هو فماذا؟ يجلس ليكتب ما يحدث أثناء تحقيق نبيل العدل مع المجرمين بحيادية تامة مفترضة، وفي قضية مصطفى رفض أن يتورط، وحتى عند إغلاق القضية وتسريح الدكتور اللص دون شيء عليه، رفض التورط وترك المهنة التي لم يستطع تحديدهاحتى لنفسه. لكن هوسه بكتاب الأمان لم يجعله يستطيع العودة إلى ما كان عليه. حتى كتاب أمانه الخاص يتحكم فيه الناشر أنور الورقي، الذي يحذف ما يريد أو يستهل الكتاب بمقدمة أخلاقية تليق بحياة مزيفة.
بين حكايات المجرمين المُحقق معهم وحكايات الحياة خارج سراي النيابة المملة، يندم خالد على تركه عمله الذي بدون اسم، لكنه لا يعرف طريقاً للعودة، خاصة وأنه أدرك تماماً أن كتاب أمان مصطفى إسماعيل لا علاقة له بالواقع، وهو مجرد كلام خيالي من الصعب الاستفادة به.
ويصل هنا يسار عبد الحافظ ربما إلى مبتغاه من كتاب أمانه، أن لا أمان في حياة لا نعيشها بأنفسنا الحقيقية.

المقال منشور في مجلة الثقافة الجديدة عدد فبراير 2015 




عبد الحافظ ربما إلى مبتغاه من كتاب أمانه، أن لا أمان في حياة لا نعيشها بأنفسنا الحقيقية.