الاثنين، 28 ديسمبر 2015

جزيرة بالي .... أرض الآلهة (2)

"أبود" جاليري مفتوح للفن التشكيلي وعروض الموسيقى تسير جوارك في الشوارع
أكواخ من زجاج تطل على أنهار المياه والأشجار الخضراء لتستيقظ صباحاً في الجنة
البغبغانات تُجري معك حواراً راقياً والقرود تصعد على كتفيك لتتناول الموز

براهما وسيوا ووسنو ... ثلاثة آلهة يكونون التناغم في الحياة لدى أهل بالي

زوار النبع المقدس يغتسلون في مياهه ويدعون الله بتحقيق أمانيهم

التجديف في الشلالات رياضة بالي الخطرة التي تضج بالحياة

التسوق ممتع في أبود والبائعون يخبرونك عن حقك في الفصال

تناول الدرة المشوي على كورنيش البركان واحدة من أنشطة بالي الممتعة











"كيتوت" عراف "طعام صلاة حب" بلغ المائة ولم يعد يقوى على قراءة الطالع 


في مدينة "أبود"؛ تدور أحداث رواية "طعام، صلاة، حب" في الجزء الخاص بجزيرة بالي. لا يمكنك أن تمر على أبود، دون أن يداخلك الإحساس بأنها مدينة العمر، فتصميم شوارعها ومنازلها ومدارسها ومعابدها، يمنحك الإحساس بدفئ الوطن، ربما لشيء في نفسي بشكل شخصي، حيث أعشق المدن الصغيرة وأحب العيش فيها بعيدا عن صخب العواصم الكبرى، وأنتمي بشكل كبير إلى اللون الأخضر والحيوانات، ولا أنزعج من الزواحف أو الحشرات، بل أتعامل معها بحب وهدوء.
لكل ما سبق نقلت إقامتي إلى "أبود" لأمضي فيها ثلاثة أيام قبل عودتي إلى القاهرة، وربما أيضاً لأنها جاليري مفتوح، فما يفصل بين معرض اللوحات والذي يليه، لا يزيد عن الـ 500 متر، حيث اللوحات الزيتية والتماثيل الخشبية التي لا تقتصر على تراث "بالي" لتمتد إلى التجريد وإن كانت طبيعة استخدام اللون هناك تميل إلى صخب الألوان المدارية وعنفوانها، ما يبعث بهجة خاصة تليق بالمكان. المثير في أبود أيضاً، أنه بإمكانك مقابلة فرقة موسيقية دينية تسير في السوق لتنشد صلواتها وترقص رقصاتها التقليدية، دون أن يكون هناك مناسبة دينية أو مهرجان.

تعني كلمة "أوبود" العلاج أو الدواء، وهي فعلاً تعد علاجاً لكل الضغوط التي يمكن أن تقابلك في الحياة لما تتمتع به من طبيعة ساحرة تصخب بأشجار البامبو والأنهار وبالطبع حقول الأرز، إضافة إلى المعابد والقصور القديمة، التي تختلف في طبيعتها عن المعابد القريبة من "سيمنياك"، ففيها تستقر المعابد جوار الغابات وشلالات الأنهار، وبعضها الآخر زحف  إليه التوسع المعماري مع ازدياد السكان فأصبح وسط المناطق السكنية.
الأسماء من 1إلى 4
أوصلني "مادي" إلى أوبود، لكنه سلمني إلى زميله "كيتوت" ليكمل معي رحلاتي، لاحظت أن اسم "كيتوت" منتشر بشكل أو بآخر، فهو اسم العراف في "طعام، صلاة، حب" وكذلك أغلب الجاليرهات اسمها كيتوت، فكان سؤالي الأول لموظف الاستقبال في منتجع "سابوليدي" الذي أقمت فيه؛ إن كان الاسم شعبياً في بالي وما هو معناه؟ فكان رده المثير للتعجب، بأن أهل بالي كلهم يسمون أبنائهم على الأرقام وفقاً لترتيب ميلادهم في العائلة فـ ( وايان أو بوتو تعني رقم 1) و (مادي أو كاديكت تعني رقم 2) و ( كومان أو نومان تعني 3) و (كيتوت تعني رقم 4) وهنا تنتهي الأرقام البالية، فإذا أنجبت الأسرة أكثر من أربعة ذكور يسبق الرقم كلمة (ني) فيكون الأمر كالتالي ( ني وايان و ني مادي ) و ( ني كومان) و ( ني كيتوت).  قمت باستغلال الفرصة وسألت الموظف إن كان يعرف أين يقطن كيتوت العراف الشهير من فيلم جوليا روبرتس، فأخبرني أن معظم السائحين يسألون عنه منذ عرض هذا الفيلم، وأنه يسكن بالقرب من الفندق، فابتسمت حيث سأحقق واحدة من أهدافي لزيارة بالي.
 منتجع "سابوليدي فيلا" حاصل على ثلاثة نجوم، لكن في الحقيقة هو يرتقي لمراتب الجنان، فهو عبارة عن فلل منفردة في قلب مزارع الأرز ومصمم بحيث تشعر أنك تسبح على السحاب وسط اللون الأخضر وخرير الماء يأتيك من كل جانب، بينما أصوات الضفادع والحشرات تعزف مقطوعة صاخبة ولكنها بالنسبة لي كانت راقية وعالمية، وربما تحققت لي أمنية جديدة من أمانيّ الرومانتيكية في الحياة، أن أعيش في بيت زجاجي يطل من كل جوانبه على الماء والأشجار، حيث كانت غرفتي زجاجية مسدلة على جوانبها الستائر، فلم يكن مني سوى فتح كافة الستائر فيما عدا أثناء النوم لأستمتع بكل هذا الماء والمساحات الخضراء.
يوم للحيوانات فقط
تشتهر أبود بالكثير من المزارات والأنشطة السياحية، بدأتها بزيارة حديقة حيوانات بالي ومن ثم الذهاب إلى غابة القرود. الأمر ليس خيالياً أبداً، فإن كنت تمتلك قلباً ينتمي إلى القرية ستنعم بحوار رائع مع الحيوانات المختلفة في الحديقة، والتي توفر متعة ركوب الفيل ليسير بك وسط الغابات الطبيعية داخلها. كان ركوب الفيل هو هدفي الأول وربما الأخير من زيارة الحديقة لجهلي ربما بالمتع الأخرى لمشاهدة الحيوانات هناك، لما يختلف كثيراً عن حيوانات حديقة الجيزة.
لم يكن في ركوب الفيل أي خطورة، فهم يقيمون ما يشبه المحطة التي تصعد إليها ومن ثم تعتلي ظهر الفيل، ليتهادى بك وسط الأشجار فلا تملك سوى الابتسام كطفل صغير وتحزن لأنك نسيت شراء بعض البالونات لتقبض على خيطها بيدك وأنت فوق الفيل الذي لا يضايقه وجودك فوق ظهره، فيتوقف كل خمسة دقائق ليأكل من نباتات الحديقة وهو مرح مستبشر بجمال الحياة.
بعد أن انتهت رحلتي مع الفيل هبطت لأمرح مع باقي الحيوانات، خاصة البغبغانات المتوفرة بكل الألوان والتي تجري معك حواراً عاطفياً ملهماً، خاصة تلك البغبغانة البيضاء التي تواصلت مع روحي فور وقوفي أمامها وأخذت تمد لي قدمها لتداعب أصابعي وتُحني رأسها لأمسح عليها، لا أبالغ عندما أقول أنني انتزعت نفسي من أمامها بصعوبة وملأت عيناي الدموع وكأنني أفارق صديقة غالية بعدما أوصيتها بأن تحاول ألا تنساني كما لن أنساها عمري كله.
الممتع أيضاً كان دخولي إلى ساحة الغزلان حيث قابلت شبيهة الغزالة "بامبي" الشهيرة في أفلام الكارتون، ومنحني الحارس بعض الأوراق الخضراء لإطعامها، ليخرج إلي فجأة كانجرو وابنها الصغير لتأكل أيضاً، إضافة إلى مجموعة من الجديان والماعز التي اعتدت على الذهاب بصحبتها إلى مدرستي الابتدائية في مدينتي الفشن بمحافظة بني سويف. طقس إطعام الحيوانات جد مفرح فهو يقدمك إلى الحياة بقوة ويمنحك عاطفة لا يمكن أن يمنحها إليك إنسان.
الذهاب إلى غابة القرود كان وجهتي التالية لليوم. وبالفعل لم أتمكن من فهم كلمة غابة القرود قبل أن أزورها، فأنت بالفعل تذهب إلى القرود في عقر دارهم، وبالفعل أنت ضيفاً مرحب بك هناك، فالقرود تستقبلك وأنت على البوابة وقبل حتى قطع تذكرة الدخول. لا مجال للخوف منها وبإمكانك إطعامها، لكن عليك أن تستعد لأن تتسلق ظهرك وتصعد فوق رأسك وهي تتناول الموزة التي تحاول أن تعطمها إياها. طقس مبهج ومخيف في نفس الوقت والقرد يعتلي رأسك مستريحاً وهو يتناول الموزة في استمتاع كبير.
القرود تسير جوارك وتطالبك بأن تلتقط لها صوراً وهي تمنحك بعض (البوزات) الخاصة بموديلات التصوير العالمية، وطبيعي جداً أن تلاحظ قرداً حزيناً ينتحي جانباً وراء عمود أو شجرة وهو جالس القرفصاء يفكر ولا يرغب في قطع حبل أفكاره، كما أنه من الطبيعي أن ترى أسرة مكونة من أب وأم وأطفال صغار تسير مجتمعة، بينما الأب يجري وراء الشقي ليعيده إلى جوار أمه، وغالباً ستشهد مسابقات سباحة بين القرود في البركة، أو سباق استعراض قوة لمهارات التعلق فوق فروع الأشجار والعدو عليها ومن يقع يكون مجالاً لسخرية أقرانه. عالم موازٍ آخر يسحبك لملكوت الله الواسع من الصعب أن تنتزع نفسك من بين أصابعه، لكن دائماً هناك وقت للرحيل.
التجديف وسط الشلالات
قبل السفر إلى بالي أوصاني احد الأصدقاء بأن لا أفوت أبداً رحلة الـ Rafting وبالطبع نظراً لأنني لم أولد في طبيعة تحوي شلالات، لم أشعر بالراحة تجاه تنفيذ وصيته، لكن الإعلانات المتعددة عن هذه الرحلة ومتعتها جعلتني أُشجع نفسي للقيام بها وأنا أقنع نفسي بأن إجادتي للسباحة وممارستي للرياضة عموماً سوف تسهل علي المهمة، وبالفعل ذهبت في اليوم الثاني لحجز الرحلة والقيام بها. خرج معي المرشد الخاص والذي سيقود القارب المطاطي وبدأ بتعليمي كيفية التجديف في المياه، حيث علمني الطريقة الصحيحة للإمساك بالمجداف ومتى أجدف للأمام وللخلف ومتى أتوقف تماماً، وأكد علي ضرورة التوقف عن التجديف جوار الصخور التي تعترض مجرى المياه.  ارتديت السترة والقبعة الواقية وحملت المجداف وسرت وراء المرشد الذي أخبرني أننا سنهبط 400 درجة حتى نصل إلى مجرى النهر، وبالفعل بدأنا الهبوط بينما تجوارنا الأشجار الباسقة على الجانبين وأنا أسمع خرير الماء يعزف مقطوعته الهادئة ليبعث في داخلي الطمأنينة والرهبة في نفس الوقت. بمجرد أن بلغنا مجرى النهر قام المرشد بتجهيز القارب ووضع كاميرتي داخل حقيبة مطاطية ثم ربطها بمقدمة القارب، الذي قفزت إليه وبدأنا رحلتنا بين مياه الشلالات الهادرة والمشوقة. لا أنكر أنها رحلة مرهقة لكنها ممتعة جداً خاصة عندما ينزلق القارب بقوة من ارتفاع إلى آخر فوق الصخور، وتعجبت من نفسي أنني لم أصرخ بل أخذتني الحماسة واعتبرت نفسي بطلة في فيلم مغامرة داخل الشلالات وبين الأدغال، وهو أمر يبعث القوة في النفس ويحفز على خوض أصعب مشاكل الحياة بيسر شديد. بعد أن انتهت رحلتنا اضررنا لصعود 300 درجة في مكان آخر من النهر، ولكنها كانت حديثة فكان الأمر أكثر يسراً من النزول.
كان هذا اليوم مخصصاً للأنشطة المائية بحق، فبعد الانتهاء من الرافتنج، ذهبنا إلى "النبع المقدس" وهو عبارة عن نبع مرصوص على جانبه 14 صنبوراً مائياً مصمماً بشكل تراثي يحمل وجوه الآلهة في بالي، وعلى كل شخص أن يرتدي "سارون" مخصص لذلك لينزل إلى النبع ويبدأ في المرور على الصنابير ومن ثم الدعاء والتطهر في المياه المقدسة المنهمرة منه، وقد قمت بالفعل بارتداء السارون والنزول للنبع ومن ثم المرور على الصنابير للقيام بالطقس كاملاً. عرفت بعد ذلك أن هذا النبع هو مصدر المياه المقدسة التي يرشها الكهنة على المصلين في المعابد وكذلك على القرابين اليومية التي يتم توزيعها في كل مكان.
معابد وآلهة
معبدا طامان أيون و جونوم كاوي، هما المعبدان الكبيران في أبود، الأول متواجد وسط المنازل والآخر موجود جوار الشلالات، وكل منهما يختلف في تصميمه عن الآخر، فطامان أيون مصمم بالشكل المتعارف عليه للمعابد الهندوسية، أما جونوم كاوي فهو منحوت داخل صخور الطبيعة المجاورة للشلالات وتحميه الأشجار المرتفعة وتخفيه عن العيون.
ذهبت بعد ذلك لمشاهدة البركان سبب الأزمة، لكنني لم أستطع البقاء طويلاً نظراً لكثافة الدخان الذي يقذفه ولكني التهمت (كوز درة مشوي) أمامه على الكورنيش قبل أن أغادر.
يؤمن أهل بالي بآلهة هندوسية شهيرة، وتحديداً ثلاثة آلهة هي براهما وسيوا ووسنو الذين يشكلون باتحادهم الأووم أي التوازن في الحياة، أما الإلهة ساراسواتي فهي زوجة براهما وهي المسئولة عن الخير في الحياة، وهي وبراهما أنجبا جانيشا إله الحظ. توجد آلهة أخرى في بالي لكنها ثانوية.
التسوق في أبود
 التسوق في أبود أرخص وأكثر متعة من سيمنياك، من الأشياء التي أوصي بها؛ شراء الصابون الطبيعي والبخور المشهور هناك باسم (دوبا)، وكذلك القيام بعمل جلسة تدليك بالصخور الساخنة وتجربة تنظيف القدمين من خلال سمك الفيسبا المنتشر في كل الشوارع، فقط عليك أن تخلع حذائك وتضع قدميك في أي وعاء زجاجي ممتلئ بالفيسبا، لتبدأ الأسماك بدورها وهو أكل الجلد الميت في القدمين، وهو رائع جدا وإن كنت ستشعر وكأن تياراً كهربائياً خفيفاً يسري في قدميك أثناء عمل السمك. وبالطبع لا تنسوا شراء الفساتين والجواكت الكورشيه، التي ستحصلون عليها بأسعار لا يمكن تصديقها أبداً مقارنة بمصر،  فلقد حصلت على جاكت كورشيه بأكمام طويلة بسعر لا يزيد عن مائة جنيه، وكذلك شراء الفضة سواء كانت أقراط أو قلائد أو أساور، حيث بالإمكان الحصول على قطع ذات تصميم مختلف عما اعتدنا عليه وفي نفس الوقت جميل بأسعار رخيصة جداً، حيث أنه من أهم ما يشتهر به الباعة في أبود أنهم يبلغونك صراحة بأن من حقك الفصال معه حتى الوصول للسعر المناسب لكليكما، وبالفعل هم مرنون جدا في التعامل مع الفصال ولا يغضبون ويخبرونك بصراحة أنهم لن يستطيعوا التخفيض عن حد معين وهو هامش ربحهم، ما يشجع على التسوق خاصة وأنهم يقدمون بضائع مشجعة  على الشراء.
العراف كيتوت ليار
كيتوت ليار هو الاسم الكامل لعراف " طعام، صلاة، حب" وهو يقطن في منزل كبير تقيم فيه عائلته ويمارس فيها مهنة الطب الطبيعي وكذلك قراءة الطالع من خلال "الكف"، ذهبت إليه لأحظى بمقابلة بطل يخرج من بين سطور كتاب أحببته، لكن للأسف كان مريضاً وملازماً الفراش، وأخبرني ابنه أنه رجل تجاوز المائة من عمره وأصبح ضعيفاً جداً وأنه بإمكانه قراءة كفي بنفسه حيث ورث المهنة عن أبيه، لكنني اعتذرت له أنني لا أومن بقراءة الكف وإن كنت أتمنى أن يسمح لي بالتجول في المنزل وتصوير المكان الذي يجلس فيه كيتوت ليار، وهو ما فعلته بعدما سمح لي.
عدت إلى فندقي لأستمتع باللحظات الأخيرة لي وسط جنة بالي، حيث كان علي أن أجمع أغراضي والمغادرة إلى مطار ناجوراه راي في اليوم التالي مبكراً. في المساء أغلقت كل الأنوار وصليت في الخارج شاكرة الله على كل هذا الحب الذي منحني إياه في بالي، فالحب لا يقتصر على عشق رجل أو امرأة وإنما يتسع ليشمل كل ذرة خلقها الله ليزين بها أرضه، وبالي تحوي الكثير من جمال الله. لقد عثرت على الحب فعلاً هناك .... حب الحياة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق