الاثنين، 20 يونيو 2016

كوكاكولا وبيبسي يدقان أول مسمار في نعش الإعلان التقليدي

تساؤلات عديدة يمكن طرحها في عالم التسويق والإعلان الآن، حيث تتصارع الوسائل التقليدية للإعلان عن المنتجات مع الوسائل الحديثة والتي تعتمد بشكل كبير على الآليات التي فرضتها تكنولوجيا المعلومات المعاصرة، وتتصارع معها العقليات القديمة التي تحكم سوق التسويق مع العقليات الحديثة التي تحاول طرح وجهة نظرها بالمضي قدماً في استخدام لغة العصر الحديث.
يتجلى هذا الصراع في شهر رمضان والذي يعتبر أكبر شهر تسويقي خلال العام في المنطقة العربية، فهو الموسم الذي تزيد فيه نسبة المشاهدة بدرجات تصل أضعاف المتعارف عليه، حيث تبدأ الشركات الكبيرة في التسابق من أجل تقديم أكثر الإعلانات تشويقا وجذباً للمشاهد، فكما تقول النكتة: نحن نشاهد إعلانات تتخللها مشاهد من المسلسلات.
السؤال هنا: هل الإعلانات بشكلها التقليدي أصبحت كافية لتحقيق أرباح مستمرة للمنتج؟ بالإجابة على هذا السؤال نصل لفعالية شكل الإعلان كأسلوب تسويقي متعارف عليه منذ القدم. وفي الحقيقة مع تزاحم المنتجات وتشابه الخدمات المقدمة وُضِعَ المُنتِج نفسه في خانة اليك كما يقولون، فأنت حتى لو حققت نجاحاً كبيراً في المبيعات، كيف ستضمن بقاءك في السوق بنفس نسبة المبيعات على الأقل وكيف ستضمن ولاء المستهلك بأن لا يفكر في تجربة منتج آخر؟
لا يوجد ضامن لولاء المستهلك الذي غالباً في مجتمعاتنا لا يتميز بالوعي كي يقوم بتقييم كل منتج على حدة ومقارنته بالآخر وبالتالي يقرر أن لا يغير الاسم التجاري الذي يتعامل معه، أضف إلى ذلك انه على المنتجين أن يضمنوا وجود سلعهم في أكبر عدد ممكن من منافذ البيع حتى يكون في متناول يد المستهلك، وإلا سيحول اختياره إلى المتوفر في المنفذ المجاور لمسكنه أو عمله..... تحديات كثيرة يواجهها المنتجون الآن ولا يحلها الإعلان بشكله التسويقي والذي يمثل تكلفة مادية كبيرة بدون ضامن حقيقي لأن يحقق الهدف منه.
هنا تأتي الوسائل الحديثة التي تقدمها العلاقات العامة والتي لا تعمل على تحقيق مبيعات بشكل مباشر ولكنها بأسليبها غير المباشرة تحقق أعلى المبيعات وتضمن ولاء المستهلك بل وتزيد عدد المستهلكين مع الوقت... ووسائل العلاقات العامة كثيرة جداً ومتعددة، فهي في الأساس تقوم على الإبداع والتجديد والتفكير خارج الصندوق كما يقولون، لكننا هنا بصدد وسيلة واحدة من وسائل العلاقات العامة؛ ألا وهي المسؤولية الاجتماعية أو الـ CSR
العام الماضي خرجت شركة كوكاكولا من سباق الإعلانات المتوحش في رمضان ووضعت إعلاناتها التي خرجت بشكل قِيمي لتغيير المجتمع إيجابياً نحو نظرته إلى المختلف عن السياق العام، على يوتيوب، وهو أحد المنافذ الإعلانية الجديدة والشهيرة الحديثة، وأثبتت أن اليوتيوب قادر على توصيل الرسالة الإعلانية بنجاح دون أن تكلف نفسها ميزانية الإعلان بالقنوات التلفزيونية الضخمة. أما هذا العام فقد اختفت تماماً عن الأنظار خلال الأسبوع الأول من رمضان لتخرج بهدوء في الأسبوع الثاني بإعلان بسيط وغير مكلف بالمرة ولكن ضربت به جميع العصافير على الشجرة بحجر واحد، حيث جاء إعلانها في شكل رسالة بأن كوكاولا ليست المشروب التاريخي الذي يروي عطشك فقط، ولكنه أيضاً المنتج الذي ينتمي إلى مجتمعك ويعمل على تطويره، فقد أعلنت الشركة عن الإنجازات التي حققتها بالفعل في تطوير مائة قرية فقيرة، وكان عنوان الإعلان #خلي_الوعد_حقيقة. وهذا ما نسميه بالمسؤولية الاجتماعية للشركات والذي يربط المجتمع بالشركة ومنتجها دون الدخول في تفنيد مزايا المنتج ومقارنته بمنافسيه، فالشركة هنا أصبحت جزءاً من المجتمع نفسه.

نفس الشئ قامت به بيبسي هذا العام حيث خرجت من سباق الإعلانات الضخمة التكلفة وقدمت في الأسبوع الثاني من رمضان إعلان "رحلة إزازة" الذي قدمت فيه وعوداً بمشاريع خدمية للمجتمع، وبالتالي يمكننا القول أن اثنين من أكبر الشركات المعلنة في السوق المصرية فطنت إلى أهمية العلاقات العامة واستخدام أحد أدواتها الـ CSR  في مقابل تقليص حجم الإعلانات التقليدية والتي أتنبأ لها بالانتهاء تماماً قريباً على الأقل في ثوبها التاريخي الذي يحتاج إلى تحديث.

 

الأحد، 14 فبراير 2016

كيف تستمتع برحلتك في الأقصر وأسوان


في إجازة منتصف العام ... السياحة الداخلية تُنعش أسوان والأقصر والأهالي يحلمون بعودة الأجانب

أسعار رحلات النايل كروز تتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه بين القطار والطائرة

صورة تذكارية مع التمساح في النوبة ومنزل محمد منير أصبح مزاراً سياحياً

أم محمود .. نوبية عمرها 100 عام ولا تعرف من القاهرة سوى إمبابة

معبد كوم إمبو تجسيد للتسامح الديني في مصر منذ آلاف السنين

خناقة للتصوير بجانب حورس ومعبد إدفو رمز للفوضى الشعبية

الحنطور وسيلة المواصلات الوحيدة في مدينة إدفو وكل مواطن يركب بالدور

أهالي الصعيد يتفننون في كسب الرزق أمام هويس إسنا ويقدمون دليلاً على " التجارة شطارة"

المصريون لا يهتمون بمعلومات "الصوت والضوء" في الكرنك ويكتفون بالتصوير في الظلام الدامس

البالون في الأقصر يأخذك في رحلة جوار الشمس ولفلاحون يقدمون لك عيدان القصب عند الهبوط





غالباً ما تكون إجازة منتصف العام الدراسي بمصر، موسماً خصباً لتوافد السياحة الداخلية على مدينتي الأقصر وأسوان للتمتع بدفئها وشمسها التي لا تغيب، وللاستمتاع بمعالمها السياحية الأثرية. لم تكن زيارتي هذه المرة هي الأولى فلقد زرت المدينتين مرات متعددة من قبل نظراً لشغفي الكبير بالتاريخ والآثار الفرعونية، لكنني أردت لهذه المرة أن تحتوي على أنشطة مختلفة عما اعتدت عليه سابقاً، فكان اختيار رحلة "نايل كروز" أول قرار مختلف بالنسبة لي لزيارة مدينتي الشمس.
لم يكن من الصعب العثور على رحلة "نايل كروز" فقبل انتهاء امتحانات منتصف العام بشهر تقريباً، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بإعلانات عديدة لتلك الرحلة، تنظمها شركات سياحية ونوادي ومؤسسات حكومية وغيرها، وتباينت الأسعار بين 1200 جنيه و1800 جنيه  و3000 جنيه وفقاً لتحمل سعر تذكرة القطار أو الطائرة إلى أسوان أو الأقصر أم لا، فبعض الرحلات قررت أن تترك الرحلة من القاهرة إلى الأقصر أو أسوان ( وفقاً لبدء الرحلة من إحدى المدينتين والانتهاء بالمدينة الأخرى) للزائر، وبعضها قدمت باقة تشمل رحلة السفر الأولى سواء بالقطار الـ VIP أو الطائرة.
سافرت بالقطار الـ VIP، وكانت هذه أول تجاربي معه منذ إطلاقه العام الماضي، وفي الحقيقة يجب الاعتراف أن القطار يستحق سعر تذكرته العالية، والتي تصل إلى 300 جنيه، فهو نظيف جداً، ولا يعاني من أزمة الحمامات التي تعاني منها الأماكن العامة المصرية ككل، حيث هناك عامل مخصص لكل منطقة حمامات لموالية تنظيفه أول بأول، وتزويده بصابون اليد والمناشف الورقية، كما أنه مكيف بحيث لم نكن نشعر بالبرد الشديد في الخارج وكلنا تخفف من المعاطف الثقيلة، ويحتوي أيضاً على مقهى راقي يقدم المشروبات الساخنة والعصائر والوجبات الخفيفة، ولم يكن هناك ما يمكننا الشكوى منه سوى من تصرفات بعض الركاب والتي لا تمس النظام في القطار أو العاملين عليه.
صورة تذكارية مع التمساح
ربما كان من المرهق للمسافرين بالقطار؛ بدء رحلتهم بمجرد وصولهم حيث لا ينالوا قسطاً من النوم بعد رحلة دامت 12 ساعة، وإن كان اليوم الأول لا يحتوي سوى على زيارة السد العالي ومعبد فيلة الموجود على جزيرة على جزيرة أجيلكا، والذي كان مخصصاً لعبادة الربة إيزيس في فترات طويلة من عهد الأسرات الفرعونية، والمعبد يقدم حفلة للصوت والضوء في الثامنة مساءً، لكنني لم أتمكن من حضورها لرغبتي الشديدة في الحصول على قسط من النوم.
لم يتحرك بنا "الفندق السفينة" في ليلتنا الأولى بجنوب مصر، حيث بدأن رحلتنا في اليوم الثاني مبكراً لزيارة إحدى القرى النوبية الباقية على ضفاف نهر النيل، وهي قرية غرب سهيل، التي حظت بشهرة كبيرة بعد أن تم تصوير مشاهد من فيلم "مافيا" فيها، ووفقاً لأهلها فهم ينتظرون ذهاب الملك محمد منير إليهم قريباً لتصوير مشاهد من مسلسله الجديد.
قرية غرب سهيل صغيرة وتتميز ببيوتها الملونة، حيث يربي النوبيون التماسيح داخل بيوتهم في أحواض مجهزة لذلك، ويعتمدون بشكل رئيسي في كسب لقمة عيشهم على زيارة السياح لهم، فبيوتهم مفتوحة كل يوم لاستقبال الزائرين وتقديم الشاي والحلوى، مع استعراض تماسيحهم وتقديم بعض المعلومات عنها، حيث يجلبونهم من بحيرة ناصر ليربوها ويستولدونها، ويقول محمود صاحب البيت الذي زرته؛ أن عمر التمساح في الأسر لا يزيد عن الستة عشر عاماً، وطوله لا يزيد عن متر ونصف، لكن قد يصل عمر التمساح في البحيرة وراء السد إلى مائة عام، ويبلغ طوله سبعة أمتار وبالطبع يكون أكثر توحشاً. إذا كانت لديك الشجاعة فسوف تحظى بفرصة حمل التماسيح المولودة حديثاً والحصول على صورة تذكارية معها، أما لو كنت مثلي فستكتفي بالتصوير.  
مائة عام في عشق النوبة
في جانب قصي من المنزل تجلس امرأة طاعنة في السن، ترتدي الأسود وتنظر إلى الزائرين باهتمام، بينما تصدر أوامرها باللغة النوبية التي لا أفهمها بالطبع. دنوت منها وسلمت عليها وطلبت أن ألتقط لها صورة، فرفضت بعربية مكسرة، وقالت أنها لا تُحب التصوير وحدها، فناديت على مجموعة من الحاضرين ليجلسوا جوارها وأحظى بتصويرها.
جلست جوارها وأنا أحاول التقاط الكلمات من عربيتها الضعيفة، حيث قالت لي أنها بلغت من العمر مائة عام ربما، وربما أكثر فهي مولودة قبل الخزان والسد بسنين طويلة، وأشارت نحو غرفة بالمنزل قائلة:
"لقد وُلدت هنا في هذه الغرفة وأمي أيضاً وُلدت فيها".. تسترسل الحاجة المعروفة بأم محمود في حكاياتها بالقول:" هذا البيت الذي ترونه كان قاصراً على تلك الغرفة، كنا نعيش فيها كلنا ويعمل رجالنا في النهر، حتى جاء السد العالي ليغرق كافة القرى المجاورة وجزء كبير من قريتنا، لكن بيتنا لم يغرق، فقررت أمي أن لا تغادر، وأنا أيضاً لم أغادر النوبة أبداً"
عندما سألتها إن كانت سافرت إلى القاهرة من قبل قالت:" نعم سافرت إلى القاهرة ... أليست هي إمبابة؟"، وبسؤال واحد من أحفاد الأحفاد أخبرني أنها تعتقد أن القاهرة هي إمبابة لأنها لم تخرج من النوبة سوى مرة واحدة في صباها لزيارة الأهل في حي إمبابة".
الحاجة المعروفة باسم ام محمود، لم تنجب قط، فلقد تزوجت مرة واحدة ولم يحالفها الحظ في أن تُرزق بطفل، لكنها ربت أبناء أختها التي توفت مبكراً، وعمرت بهم هذا البيت الذي أخذ في الاتساع لضم غرف جديدة للعائلة التي أخذت في النمو على مدار عقود طويلة.
أم محمود أكدت أنها لم ولن تغادر النوبة لتتشرد مثل باقي النوبيين الذين لم يعدوا يعرفون أصولهم الآن، فهي ترى الذين هاجروا إلى أسوان وكوم إمبو والقاهرة والإسكندرية، انقطعوا عن جذورهم أما هي فترفض ذلك.
النوبيون في غرب سهيل يعملون في مهن مرتبطة كلها بالسياحة، فهم يبيعون الملابس النوبية والتذكارات المتعلقة بثقافتهم في البازارات البسيطة الممتدة على جانبي الطريق الضيق المجاور للنهر، كما تنتشر الجمال التي بإمكان السائح ركوبها للتجول بالقرية ومشاهدة معالمها، إضافة إلى الفتيات اللائي يعملن داخل منازلهن في غزل "الطواقي" النوبية المميزة والجلابيب المشغوولة يدوياً بنقوش فرعونية ملونة، إضافة إلى الجهزة الموسيقية النوبية مثل العود الخماسي والدفوف، والأسعار رخيصة، فبالإمكان الحصول على جلباب مشغول من الكتان بمائة وعشرين جنيهاً فقط.
انتهت جولة هذا اليوم بزيارة حديقة النباتات المطلة على قبر أغا خان، وفي طريق العودة للسفينة عبر النهر شاهدنا منزل الملك محمد منير المتربع على ضفته، وبشكل شخصي مَثل لي الأمر أهمية بالغة توازي أهمية زيارة أثر فرعوني قديم.

متعة الإبحار في النهر
بمجرد العودة لـ "الكروز"، بدأت في الإبحار باتجاه مدينة كوم إمبو لزيارة معبد الإلهين حورس وسوبك هناك. من الصعب التعبير بالكلمات لوصف الرحلة عبر النهر في طريقنا من أسوان لكوم إمبو، فالطبيعة النهرية في الجنوب مختلفة تماماً عما اعتدنا رؤيته كل يوم في القاهرة، حيث صفاء المياه والطيور باختلاف أنواعها تهبط على صفحة النهر لتشرب وكأنها ترقص بخفة دائرة حول نفسها في تناغم ملحوظ وكأنها تتحرك وفقاً لمعزوفة موسيقية ناعمة. البيوت الطينية للفلاحية على جانبي النهر يتخللها بيوتاً ملونة من دورين، وكان من حظي أن صادفت مجموعة من الفلاحات يلعبن على الشاطئ وهن يغسلن ملابسهن ودُهشت لأن هذا المشهد مازال يحدث في قرى الجنوب حتى الآن. لا يمكنك أن تغمض عينك وأنت تشاهد كل هذه الطبيعة الخلابة التي تغسل النظر برقة الإيقاع الزمني لكل الهدوء المحيط بك.
بعد أربع ساعات تقريباً مرت وكأنها خمس دقائق وصلنا إلى كوم أمبو، فترجلنا من السفينة لنصعد مباشرة إلى المعبد الذي كنت أزوره للمرة الأولى، المعبد مختلف في تصميمه عن باقي المعابد الفرعونية التي اعتدت زيارتها مسبقاً، ربما لأنه ينتمي للعصر البطلمي وتم زخرفته في العصر الروماني، لكنه في النهاية يحمل الروح الفرعونية في البناء، وربما أيضاً لأنه بشكل أو بآخر كما قال المرشد السياحي، دليل على تسامح وتعايش الأديان، فهو معبد مخصص لإلهين هما: حورس وسوبك وكان يتم عبادتهما معاً في نفس التوقيت الزمني دون أي نزاعات بين الناس، حتى أن المعبد له مدخلين واثنين من قدس الأقداس لكل إله.
ربما كنت محظوظة لأنني زرت هذا المعبد في وقت الغروب، حيث حظيت بمشهد بديع للشمس وهي تلملم خيوطها في طريها للغرب، ويبدو أن الطيور كانت تُغَرب هي الأخرى حيث كانت تتجمع في أشكال فنية بديعة جوار الشمس، فكانت الزيارة روحية جمالية وليست فقط تاريخية، فمشهد أعمدة المعبد ذات الزهور اللوتسية المكللة لتاجه والشمس تنسل من بينها لترحل حاملة معها الطيور، ما كان من السهل الحصول عليه في أي توقيت آخر.
عدنا إلى السفينة، لننام أول مرة وهي تسير في اتجاه معبد إدفو، وكنت أتخيل أنني لن أتمكن من النوم بينما السفينة تُبحر شمالاً، لكنني غرقت في النوم ربما لأحتفظ بآخر مشهد لشعاع الشمس وهي تغيب.
تجارة النهر والفصال عبر الأثير

في معبد إدفو تتجلى السلوكيات المصرية السيئة في الأماكن السياحية، ولا أدري السبب، ربما لأن زيارتي للمعبد كانت في منتصف النهار حيث ذروة زيارات الوفود السياحية، فبداية من صعود الشباب إلى قواعد التماثيل والعمدة للحصول على صورة تذكارية وحتى الشجار من أجل التقاط صورة جوار تمثال حورس الصقر الكبير في صدر مدخل المعبد، وكذلك التكالب من أجل الوصول إلى قدس الأقداس لتصوير مركب حورس.
طريقة الوصول إلى المعبد من داخل مدينة إدفو تعتمد بشكل أساسي على عربات الحنطور، حيث تُقل كل عربة أربعة أفراد وعليهم أن يعرفوا رقم الحنطور لأنهم سيستقلونه نفسه في طريقهم للعودة. بمجرد الوصول إلى ساحة جراج الحناطير تجد نفسك محاطاً بها من كل جانب وهي تسير بطريقة عشوائية، وإن كان هناك نظام فيما يبدو لاصطفافها جانباً كي ينزل ركابها، إلا ان نسبة ليست بالقليلة لا تلتزم بهذا القانون، فقط يلتزمون بركابهم لأنهم لو لم يفعلوا ذلك لن يحصلوا على أجرهم في النهاية من المرشد السياحي المسئول عن المجموعة السياحية.
عم أحمد سائق الحنطور الذي ركبته في طريقي لإدفو قال: " مرحب بأهل بلدنا الكرام"، وبمجرد أن رددت السلام انطلق في شكواه: " واللهي مش عارفين من غيركوا كنا عملنا إيه". في ساحة انتظار الحناطير تضامن حسن مع العم أحمد، فبمجرد أن نكأت الجرح بسؤاله إن كان المعبد يعاني من الزحام دائماً قال: " لا يوجد سائحين منذ خمس سنوات من الأساس، أحيانا تأتي وفود من إنجلترا وألمانيا ولكنها قليلة جداً ... الزحام الآن سببه السياحة الداخلية في موسم منتصف العام". وكانت إجابته عندما سألته إن كان يفضل السياحة الخارجية على الداخلية جد موجعة، فقد قال: " والله ما هتفرق المهم نشتغل بدل وقفة الحال".
بعد العودة إلى السفينة بدأنا رحلتنا الثانية عبر النهر في الطريق إلى الأقصر وتلك كانت متعة جديدة لتنفس رائحة النهر المخلوط بسعف النخيل على جانبيه، رحلة للتأمل في شأن بدع الله في خلقه، زاد عليها متعة مشاهدة هويس إسنا وهو يفتح بابه لتعبر منه السفن بعد أن انخفض منسوب المياه أمامه لتهبط السفينة معه لأسفل دون أن نشعر، هذا الهويس الذي ينظم تدفق مياه النيل باتجاه الشمال تم تأسيسه عام 1908 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. قبل الهويس بأمتار قليلة تتجلى عبقرية المصري في الحصول على لقمة عيشه، حيث تنتشر المراكب الصغيرة "فلوكة" والتي يقودها أصحابها ليلتفوا حول السفن في محاولة لبيع منتجات أخميم السوهاجية، من شيلان صعيدي وفوط عليها رسوم فرعونية ومفارش وغيرها. في البداية تساءلت عن كيفية بيعهم لهذه المنتجات لنا ونحن على ظهر السفينة بينما هم في الأسفل داخل مراكبهم؟، لكنني فوجئت بهم يلقون إلينا ببضاعتهم في حرفية عالية لتصل إلى أيدينا، وبعدها يبدأ الفصال على السعر، حتى تتم الصفقة.

رحلة إلى سماء الأقصر
في الأقصر كانت رحلتنا الأخيرة حيث زيارة معابد الكرنك والأقصر والدير البحري ووادي الملوك ووادي الملكات، ولقد قمت بزيارة تلك المزارات من قبل، لكن هذه المرة كان الاختلاف في نظام الدخول، حيث قامت الحكومة بوضع أجهزة تفتيش أليكترونية للحقائب ومداخل أكثر تحضراً عما كان عليه الأمر من قبل، وربما ذلك ما شجعني على دخول عرض الصوت والضوء الخاص بمعبد الكرنك، وكانت صدمتي في زوار عرض اللغة العربية وهم من المصريين، حيث لم يكن الزوار يهتمون بمتابعة العرض بقدر ما اهتموا بإخراج هواتفهم الذكية لالتقاط الصور في الظلام الدامس وتسجيل العرض بالفيديو رغم أنه متوفر على موقع يوتيوب وعلى شرائط فيديو وأقراص دي في دي، بل إن أصواتهم وهم يمرحون بالتقاط الصور التذكارية غلبت على صوت العرض واستاؤوا كثيراً من اعتراضي، فما كان مني سوى التوجه بالشكوى إلى أحد حراس المعبد، الذي اعتذر عن مساعدتي نظراً لصعوبة السيطرة على كل هذا الحشد.
بعد عدت في المساء نادمة لأنني ذهبت إلى العرض العربي، أملت خيراً في آخر رحلاتي بالأقصر والتي كانت لسمائها وليس لآثارها على الأرض، ففي تمام الساعة الخامسة فجراً انتظمت في بهو السفينة مع باقي الأفراد الذين قرروا الذهاب في رحلة البالون. لم يكن عددنا كبير، ربما لأن سعر الرحلة 320 جنيها للفرد، لكنني بمجرد الوصول إلى الساحة التي تتجمع فيها البالونات استعداداً للطيران أيقنت أن المبلغ زهيد جداً، فبحساب تكلفة الميكروباص الذي أقلنا إلى المركب البخاري الذي أوصلنا بدوره إلى ساحة تجمع البالونات، ومن ثم العدد الهائل للعمال الذين يقومون بنفخ البالون بالهيليوم ثم تثبيت قاعدة البالون لنركب داخلها فالأمر بالتأكيد يستحق أكثر من ذلك.
متعة رحلة البالون إلى سماء الأقصر، تبدأ وأنت على الأرض حيث متعة مشاهدة نفخ البالونات بالهيليوم والنار تندفع داخل البالون لتشق الظلام حيث ضوء الشمس لم يكن قد تسلل إلى السماء بعد، ثم بدء انطلاق البالونات واحداً بعد الآخر لتشاهدها وهي تهيم في الفضاء بألوانها الزاهية، بينما الضوء يبدأ في التسلل على استحياء.
جاء الدور علينا، وشعرت برغبتي في الركض لاعتلاء قاعدة البالون استعداداً لاحتضان الهواء وهو سابح في فضائه بالأعلى، فاندفعت لأحتل مكاني وأنا سعيدة كالأطفال بالنيران التي تندفع داخل البالون بين برهة وأخرى لتحافظ على مستوى الهيليوم داخل البلون. من الصعب وضف الإحساس بدقة ونحن نعوم بين السحاب بنعومة لا تشعرك بأنك تتحرك أبداً، بينما تغير المشاهد من حولك وأنت تجاور الشمس في لحظة شروقها هي التي تنبؤك بأنك تتحرك. فرحة بعض رواد البالون المختلطة بخوف البعض الآخر والنيل من أسفلنا بجزره الصغيره والنباتات التي تتوسط مجراه، ثم المرور على الدير البحري لنراه صغيراً جداً .... كل هذا كان بمثابة درة تاج الرحلة بأكملها.
عندما بدأنا في الهبوط سألت الطيار إن سنهبط في إحدى الحقول، فأكد لي بأننا سنهبط في حقل للقصب السكر، ففكرت إن كنا سنؤذي المحصول لكن بمجرد أن اقتربنا من الأرض فوجئت بإحدى الفلاحين مصطحباً ابنه قادمين نحونا وهم يهللون وعندما صبحنا عليهم اتسعت ابتسامة الرجل وهو يقول: يا أهلا يا أهلا ، ثم نظر لابنه وهو يقول: دول مصاروة ... مننا يعني، ثم قدموا لنا عيدان القصب للترحيب بنا.

الموضوع منشور في "جورنال مصر" العدد 69 - 14 فبراير 2016 
























الاثنين، 4 يناير 2016

مجمع الأديان ... في مكان واحد توقد شمعة للعذراء ومارجرجس ثم تقرأ فاتحة الكتاب في جامع عمرو





يُحكى أن هناك بلد اسمها (حا – كا – بتاح) أي مكان الإله بتاح، وكان أهلها يطلقون عليها اسم (كيمة أو تاكيمة) أي السوداء أو الخمرية نسبة إلى لون تربتها، وأطلقوا عليها (تاوي) أي الأرضين نسبة إلى الدلتا والصعيد، وأسموها (تامري و إيرا رع) أي المكتملة وعين الشمس، وكذلك (إثرتي) أي ذات المحرابين في الشمال والجنوب، وأطلق عليها اليونان (إيجيبتوس) أما الآشوريين والفينيقيين فعَرَّفوها بـ (مصرم)، أما المعينيون في اليمن فكانوا يسمونها بـ (مصري)، والعبريون أطلقوا عليها ( إيرس مصر) أي أرض مصر، وفي النصوص الآرامية والسريانية جاء اسمها (مصرين. مصر) وتعني حضارة أرض.
إنها ببساطة مصر ... أول حاضرة في الكون، عرفها البشر من حولها باعتبارها الأرض الأم التي تتسع لاحتوائهم جميعاً، دون تفرقة بين أي منهم واتسعت الأرض الممتدة على شريط  نهر النيل لكل أنواع العبادات وأقيمت المعابد للعديد من الآلهة المختلفة، لتُعبر عن التنوع والتطور الفكري للبشر في محاولاته للوصول إلى الله.
لم تكن مصر أبداً، بلد صراع ديني مثلما كانت أرض العراق مثلاً، وهذا ما أعطى لحضارتها الفرعونية عمراً مديداً لتستقر على قمة الحضارات المصرية القديمة، فتكون هي النظام الحاكم القديم الوحيد الذي استقر على مدار 30 أسرة فرعونية كاملة، حتى غزا الرومان المنطقة وبما فيها مصر، فعمدوا إلى طمس أي نوع من أنواع الهويات الثقافية، في سبيل سيادة ثقافتهم وحدها.
ورغم الاضطهاد الديني الذي واجهه المصريون في عصر الحكم الروماني، إلا أنهم أجبروا الرومان في النهاية على الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، حتى دخل عمرو ابن العاص مصر فاتحاً، ولم يجبر أحداً على الدخول في الإسلام، وعندما أقام عاصمته الفسطاط، لم يقترب من منطقة الأديرة والكنائس التاريخية هناك، وتركها ليبني جوارها أول مسجد في مصر والذي سُمي باسمه، ليرتفع الآذان في حضن أجراس الكنائس.

فسطاط الأديان الثلاثة

منطقة (مجمع الديان) في مصر القديمة، تمتلك روحاً مُشعة تتلبسك بمجرد أن تطأ قدمك أرضها، فبمجرد أن تترجل من المترو في محطة مارجرجس، يبدأ شعاع من نور في الدخول إلى قلبك. وعند السلم الخارجي ترى أول ما ترى قٌبة كنيسة مارجرجس بصليبها الذي يزين قمتها، وهي تعد من أهم الآثار للأقباط الروم الأرثوذوكس بمصر وأفريقيا ويعود تاريخ إنشائها إلى القرن العاشر الميلادي على أحد الأبراج الثلاثة لحصن بابليون. أكثر ما يجذب النظر لكنيسة مارجرجس، تصميمها الدائري وبرج الجرس الذي يرتفع 30 متراَ، إضافة إلى ما تحويه من لوحات ونقوش مطليه بالذهب والأبواب المشغولة بالأرابيسك الذي يختلف عن النمط السائد لدى باقي الكنائس في المنطقة.
لا تستطيع ألا تبدأ بمارجرجس لوجودها تماماً أمام سُلَم المترو، لكن من المفترض أن تبدأ بالكنيسة المعلقة، التي تضم أيقونات قبطية شديدة الروعة وأهمها لوحة ( العدرا الموناليزا) والتي لُقبت بهذا الاسم نظراً لأن عيني العذراء في اللوحة تنظر إليك أينما اتجهت ما يدل على تطور الفن التشكيلي لدى الأقباط قبل أن تبدأ المدرسة الانطباعية في أوروبا. وسُميت "المعلقة" بهذا الاسم نظراً إلى أنها بُنيت على برجين من أبراج حصن بابليون.
ولتاريخ بناء المعلقة أكثر من رواية، فالبعض يقول أنها بُنيت على أنقاض المكان الذي استقرت فيه العائلة المقدسة لمدة ثلاث سنوات هرباً من الملك الفلسطيني هيرودوس الذي أمر بقتل جميع الأطفال، بناءً على نبوءة وردته بشأن سيدنا عيسى. وهناك أقوال أخرى أنها بُنيت على آثار "قلاية" لإحدى الراهبات.
ربما تكون الكنيسة المُعلقة دليلاً كبيراً على روح التسامح المصرية التي استمرت منذ القدم، فلقد تعرضت إلى الانهيار لأكثر من مرة منذ دخول الإسلام مصر بسبب المياه الجوفية، لكنها دائماً ما كانت يتم تُرمم على أيدي الخلفاء المسلمين.
عندما تخرج من "المعلقة" وتبدأ السير بين الأجناس المتعددة التي أتت لتتبرك بالقديسين، يُخايلك امتداد الأبنية التاريخية والمعمار المتأثر بفكرة الحصن، حيث أن المنطقة بأكملها مبنية على آثار "بابليون"، فتشُعر بطاقة إيجابية تدخل روحك، فجوارك يسير المسلمون والمسيحيون يشيرون بأصابعهم إلى أبنائهم عن تكوين معماري أثري مميز، ليحكي له قصة ما يعرفها عن المكان.
عندما تصل إلى السلم الذي يهبط بك نحو كنيسة "المغارة والشهيدين سرجيوس وواخس الشهيرة بكنيسة أبوسرجة"، ومزار مار جرجس وكنيس بن عذرا اليهودي، لا يمكن ألا تمر على البازارات التي تبيع الأيقونات القبطية والصلبان والمسابح وغيرها من اللوحات المُعبرة عن الديانة المسيحية. السير في هذا الممر مع رؤية الضوء الذي يغمرك هابطاً من عَلٍ لا يسمح لك سوى بالشعور بالغبطة، فتجد نفسك تشرع نحو لوحتي العذراء ويسوع في كنيسة أبو سرجة، لتشعل الشمع وتنال بركة المكان وتحاول التلصص لرؤية فوهة البئر التي كانت السيدة مريم ويسوع الطفل يشربان منها، ثم تهرع مسرعاً نحو مزار مارجرجس لتشعل له أيضاً شمعة مستمداً منه القوة وهو يغرس رمحه في قلب التنين، وفي الداخل ستحكي لك الراهبة المسئولة عن المزار حكاية القديسة فلومينا صاحبة المعجزات التي تحدت الإمبراطور ديقليديانوس، إلى أنا نالت الشهادة.
لا تكتمل بركة المكان إلا بزيارة كنيسة القديسة بربارة والموجودة في شارع على اسمها (حارة الست بربارة)، فتسرح بخيالك عن هذه القديسة التي لا يؤكد التاريخ حقيقة وجود جسدها في كنيستها كما هو شائع، حيث كانت فتاة آسيوية تعلمت على يد راهب مصري، فاعتنقت المسيحية وكرَّست نفسها لخدمة الله.
وقبل أن تُنهي جولتك السماوية، عليك أن تمر على كنيس بن عذرا اليهودي، والذي لا يتسم بأي معمار مميز، كما أنه صغير جدا ولا يضم في الداخل سوى صالة كبيرة تتسع للشمعادانات اليهودية ومذبح الصلاة، لكنك أيضاً لن تستطيع أن تمر بينها حيث أنها مسيجة بالحبال التي تمنع العبور وتطالبك بأن تنظر من بعيد.
تجلس على المكتب الخارجي سيدة من الطائفة اليهودية في مصر، والتي تتحدث يسيراً وتُجيب بهدوء شديد أنه لم تعد هناك صلاوات تُقام في المعبد الآن، وذلك للحفاظ على آثار اليهود من الاندثار.
عندما تنتهي من معبد بن عذرا الذي يُقال أنه كان كنيسة مسيحية في الأساس وتم بيعها لليهود ليقيما داخلها معبداً لهم، ستبدأ رحلتك نحو ختام الأديان السماوية عند جامع عمرو ابن العاص.

الطريق إلى عمرو بن العاص

تبدو سماحة الدين الإسلامي في اختيار عمرو ابن العاص لموقع أول مسجد في مصر، حيث تحتاج إلى السير مسافة كيلومتر تقريباً منذ نهاية ممر الكنائس القديمة لتصل إلى المسجد، وذلك لأن الفاتح لمصر لم يرغب في مزاحمة الكنائس أو الاستيلاء على أحدها لتحويلها إلى مسجد بمنطق المنتصر. والمكان منذ أُنشىء الجامع رمزاً لعناق أبدي يجمع بين الديانات السماوية الثلاث التي ترمز لقدرة هذه الأرض على استيعاب كل الأفكار والأديان.
في مسجد عمرو ابن العاص، يحذرك الحارس عند البوابة الرئيسية من وجود سيدات تسرق الهواتف والنقود، وأنه علينا الحفاظ على حقائبنا جيداً، وهو أمر مثير للحزن حيث لم أقابل مثل هذا التحذير عند الكنائس، كما أنه من المحزن أيضاً، أنه محاط بالأبنية العشوائية التي انزرعت كنبت فاسد يعمد إلى تقبيح المشهد الروحاني له. قبل الوصول إلى المسجد يصادفك بعض من أكوام القمامة ما يجعلك تتعجب لعدم اهتمام وزارة الآثار بمحيط المسجد، وكذلك تحزن لأن المصلين أنفسهم لا يحترمون جلال المكان بعشوائيتهم.
رغم ذلك فالصلاة داخل مسجد عمرو ابن العاص تختلف تماماً عن الصلاة في أي مسجد آخر، حيث الفضاء المفتوح على السماء داخل الصحن، يُشعرك بجلال الله يتسرب إلى فؤادك، وهؤلاء المسلمون من كافة البلاد يركعون جوارك يأخذهم جمال الأعمدة التي يعج بها المسجد، فننظر إليها من كل الزوايا فتأخذك في رحلة إيمانية متأملة مع الضوء الذي يشملنا ويفتح لنا تباريح الخالق.
مُجمع الأديان منطقة واحدة تعبر عن مصر، البلد التي تحمل أسماءً عديدة وتحتضن كل المؤمنين والمفكرين بروح سمحة ترفض الرضوخ لأي محاولات لتجريف الحب...  دينُ مصر الحقيقي منذ لحظة خلقها الأولى.




 الموضوع تم نشره في جريدة جورنال مصر الأسبوعية في ديسمبر 2015