الأربعاء، 10 مايو 2017

تجسيد النزاع حول هوية الله على مسرح الطليعة في "يوم أن قتلوا الغناء"





  • "يوم أن قتلوا الغناء" مسرحية تناقش النزاع على تحديد هوية الله بين القسوة والمحبة.. وتطرح أفكاراً فلسفية عميقة دون الوقوع في فخ التثاقف
  • شباب المسرحية يقودون الحياة الدرامية المصرية بأفكار جريئة وأداء إبداعي
  • المسرحية تؤكد أن مصر لا تعدم النص الجيد و تضع مسرح الفضائيات في مأزق



لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفكر للحظة بأن هناك مشكلة يعاني منها المسرح المصري الآن، وتحديداً بعد مشاهدة مسرحية "يوم أن قتلوا الغناء"، فهي تعبير صادق عن أن المسرحيين المصريين لم يتوقفوا عن تفريخ أجيال جديدة متميزة تحمل الراية لتمضي بها قُدماً دون أن تنطفئ شعلة المسرح. عندما قررت مشاهدة المسرحية لم أكن أتخيل مشاهدة معالجة درامية للصراع على ماهية الإله بهذه الحنكة والعمق وكذلك البساطة والبلاغة في توصيل الفكرة في نفس الوقت، فلقد قدم الكاتب محمود جمال نصاً درامياً مسرحياً محكماً لا ينقصه عنصر التشويق رغم طرح أفكار فلسفية عميقة.
استخدم جمال أسطورة الخلق في نسج أحداث المسرحية، وإن وفق فيها بين ما وردت عليه في الكٌتب السماوية وبين محاولات المفكرين المسيحيين المعاصرين  في الغرب لربطها بنظرية التطور، حيث آدم ليس أول إنسان على الأرض ولكنه أول المفكرين والباحثين عن المعرفة، ليستخدم بعد ذلك الصراع بين هابيل وقابيل في نسج حكايته مع دمجها بسفينة نوح والطوفان وكذلك مزمار داوود. فسيلبا الأخ الأول و يمثل الجشع والعنف في تفسير علاقة الإنسان بربه (قابيل)، بينما مدى الأخ الثاني ويمثل الحب والسلام في تفسير علاقة الإنسان بربه (هابيل)، لكن بالطبع يتمكن سيلبا من حُكم الأرض وفرض قوانينه على الناس بالحديد والنار، بينما ينشر مدى الحب والحرية بين الناس على هامش قوانين سيلبا فيتعرض للملاحقة والقتل هو وأتباعه.
استطاع محمود جمال أن يُجسد رمزية السفينة التي يبنيها "مدى" – سفينة نوح - لتعبر عن فكرة الحرية التي يحاول الإنسان تحقيقها بالفرار من نير سيلبا وأدوات قتله، ليعشق الله في مُطلقه دون كبت أو قوانين سادية تجعله يقع تحت وطئ قسوة الاختيار بين السعادة وبين محاولة إرضاء الإله بسجن المشاعر خوفاً من القتل على الأرض والنار في الآخرة، ذلك الصراع الدائم والمستمر الذي يتنازع عليه الناس منذ بداية التاريخ، ليبقى الوصول إلى الحرية المطلقة في عشق الله هدفاً يطارده الفلاسفة ويحاول الناس بلوغه. لكن المؤلف قرر أن ينتصر للسفينة فجسدها واقعاً حقيقياً، حيث تنتهي المسرحية بهطول المطر وبداية الفيضان وصعود المؤمنين بأفكار مدى على السفينة ليرحلوا بحريتهم بعيداً عن أرض الطغيان والظلم. كنت أتمنى أن تنتهي المسرحية بالإبقاء على رمزية فكرة السفينة للدلالة على سعي الإنسان المتصل لبلوغ السلام والحرية والسعادة، دون تحويلها إلى واقع مجسد تم تَحقُقه، فالصراع الدامي بين القتلة باسم الله والسلطان لم ينته من الوجود منذ فجر التاريخ وحتى الآن، ويبقى المفكرين الباحثين عن الله في كُليته المُحبة، معرضون للقتل دون فناء أفكارهم التي تعمل دوماً على تطوير الحياة والإنسان.
استخدم الكاتب المرأة كرمز لنشر فكرة الحب والعطاء في الحياة وكذلك كرمز للشجاعة والإقدام لتحقيق السلام على الأرض من خلال شخصية أم آريوس، التي تُغني لابنها الطفل رغم قوانين سيلبا بتحريم الغناء وقتل كل من تسول له نفسه بممارسته، حيث تغني الأم لطفلها وتتعرض للقتل، ثم يُنتزع آريوس لتحويله إلى أداة قتل دامية باسم الإله، كذلك من خلال شخصية الفتاة كورمن التي لا تخاف جبروت وطغيان آريوس الشاب وتواجهه بشجاعة لتزرع داخله الشك في معتقدات إله سيلبا المُنتقم، وقد لعبت الدورين الممثلة هند عبد الحليم ببراعة فهي تمتلك قوة أداء مسرحية هائلة كما أنها توظف إمكاناتها الغنائية في خدمة الدور ببراعة، ناهيك عن مشاعرها الجياشة التي تنفذ إلى القلب مباشرة باندماجها الكٌلي في أداء دورها، فتلمح دموعها من على مقعدك بين المشاهدين ويهتز وجدانك بتهدج صوتها الدافئ الشجاع.
تضفير الكاتب لقصة الخلق بسفينة نوح بمزمار داوود – مدى أول من عزف على بوصة مجوفة وعرف الله بالموسيقى في المسرحية - مع اللعب على الميثولوجيا اليونانية التي جسدت بداية تَعَرُف الإنسان على القوى العليا التي تتحكم فيه دون إرادته، من خلال الصراع بين الآلهة والإنسان وما حَكَمها من غيرة مشوبة بالكراهية من قبل الآلهة في مواجهة الإنسان، يقابلها خضوع البشر وتحدي بعضهم للآلهة، كان موفقاً جداً في الإسقاط على الواقع الذي نعيشه الآن من تنامي وصعود القوى الظلامية التي تضع منهجاً قاسياً للحياة كمانيفستوا للعلاقة بالله وقتل كل من لا يستجيب، في مواجهة أفكار العدالة والحرية والمساواة بين الجميع على اختلافهم.
اعتمد مهندس الديكور دكتور محمد سعد على القطع المتحركة على جانبي المسرح ومن أعلى لتغيير المشاهد بين المعبد وقصر سيلبا والسوق والسفينة، مع استخدام قطع بسيطة على الخشبة نفسها يتم تغييرها بالفصل بين المشاهد بإظلام خشبة المسرح ومقاعد المشاهدين، فجاءت موظفة جيداً لخدمة الأحداث الدرامية. كذلك كانت موسيقى أحمد نبيل متناغمة مع الأحداث وبسيطة دون تعقيد، أما المخرج تامر كرم فقد استطاع شغل الفضاء المسرحي في بعض المشاهد، لكنه وقع في خطأ ترك مساحات فارغة في مشاهد أخرى دون إظلامها مع تركيز الضوء على الممثلين في المشهد رغم ثباتهم في منطقة واحدة، لكنه لم يغفل ذلك في مشاهد أخرى.
بالطبع كان تجسيد الفنان الكبير ياسر صادق لدور مدى متميزاً جداً، ولا يقل عنه في ذلك الممثل الفنان الكبير علاء قوقة في تجسيد دور سيلبا، أما الفنان الكبير حمادة شوشة فجاء تجسيده لدور الكاهن مشابهاً تماماً لدوره في مسرحية " المحاكمة" التي تُعرض على المسرح القومي الآن، ربما لأن الدورين متماثلين. يبقى الإشارة إلى مجموعة الممثلين الشباب والذين كانوا شُعلة الدهشة في هذه المسرحية، فمحمد ناصر الذي لعب دور "إفراط" يتميز بالخفة في الحركة وإجادته للغناء والرقص ببراعة أيضاً فكان ممثلاً شاملاً بحق. ميرنا الأمين أيضاً كانت مدهشة في أداء دور لوسيلا وبرقصها المتميز وإن كنت أتمنى أن تفقد القليل من الوزن ليظهر أداءها الراقص أكثر خفة، أما طارق صبري الذي لعب دور آريوس فتمكن بقوة في تجسيد الكُره والجهامة ثم الشك والندم انتهاءً بالانتصار للحب والحرية.
ولا أستثني بأي حال من الأحوال أي ممثل شارك في هذا العرض ولو بجملة واحدة، فكلهم بلا مبالغة ممثلين مسرحيين ناضجين ومكتملين، يستطيع كل واحد منهم أن يتحمل وحده مسؤلية عرضاً كاملاً، كما يؤكدون أن مصر لا تعدم الموهبة ولا تغرق في السطحية التافهة التي يتبناها مسرح الفضائيات.
"يوم أن قتلوا الغناء" مسرحية يجب أن تُشاهدوها وهي لا تُعرض في مكان بعيد، فأينما كان الحي الذي تقطنه في القاهرة يمكنك الخروج من باب مترو العتبة مباشرة إلى بوابة مسرح الطليعة، والتذكرة الواحدة بثلاثين جنيهاً فقط، ستشتري بها فكرة ومُتعة، فيالها من صفقة رابحة.


نشر المقال في جريدة القاهرة  عدد 9 مايو 2017 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق