الاثنين، 12 فبراير 2018

أحمس ... متعة العرض الذي أفسده نص خارج التاريخ

قدم مسرح الجمهورية على مدار ثلاثة أيام عرض "أحمس" الذي يجمع بين الرقص المسرحي الحديث والمسرح التقليدي، حيث شارك فيه كوكبة من الممثلين الكبار جاءت على رأسهم الفنانة القديرة سميرة عبد العزيز والتي لعبت دور أم الفرعون المصري البطل أحمس (تيتي شيري) والفنانون كمال عطية ويحيى أحمد وحمزة العيلي والدكتور عبد الله سعد الذي لعب دور الملك سقنن رع الذي قاد أول مقاومة عسكرية للهكسوس.
من بروفات العرض 

جمع العرض الكثير من الأدوات الفنية المبهرة، مثل الرسم على الرمل من خلال شاشات عرض تتدلى من أعلى خشبة المسرح لتجسيد بعض الأحداث من خلال الرسم الذي قدمه الفنان المتميز في هذا المجال مايكل رومان، تصحبه رواية صوتية للأحداث، إضافة إلى قطع مسرحية متحركة تجسد البناء الفرعوني من جدران ومسلات وعواميد وعجلات حربية، حيث يمكننا وصف ديكور هذا العمل الفني الكبير بأنه ينتمي إلى فئة الديكور الفاخر والذي أضفى على المسرحية روح الفخامة التي تتناسب وقصتها عن أول  قائد وبطل عسكري في التاريخ المصري، أحمس الذي حرر مصر من أول احتلال ذُكر في التاريخ المصري القديم.
من بروفات العرض

تسير أحداث العمل المسرحي بالتوازي مع العرض الراقص، حيث يجمع بين تجسيد الأحداث بالرقص وكذلك بالحوار المسرحي، فنلاحظ أن أحمس وكاموس يلعب دورهما بطلان، أحدهما بالتمثيل والآخر بالرقص، ما أكسب العمل غنى في المشاهدة البصرية وكان الأمر أشبه بتوزيع عمل موسيقى على عدد من الآلات التي تعزف جملة موسيقية واحدة ولكن بأصوات مختلفة، لتكون النتيجة وليمة فنية دسمة يفوز بها المشاهد.
عمد مصمم الإضاءة ياسر شعلان إلى استخدام إضاءة خافتة في الكثير من المشاهد، بينما جسد مشاهد الحرب والصراع من خلال تركيز الإضاءة عليها مع الإظلام لباقي جنبات خشبة المسرح، لكنه في النهاية لم يستخدم أي نوع من أنواع الإضاءة العالية بأي جزء من أحداث العمل.
تبدأ المسرحية بشخصية الكاتب المصري يجلس على الجانب الأيمن من خشبة المسرح وهو يرتدي الزي الفرعوني ويحمل كتاباً ضخماً، يقرأ منه قصة كفاح المصريين ضد احتلال الهكسوس لأرضهم، وكيف استشهد الكثيرون فداءً للوطن قبل أن يأتي أحمس ليتوج هذا الكفاح بالانتصار، بينما يحيط به مجموعة من الأطفال الذين يرتدون ملابساً حديثة وهم ينصتون بشغف للحكاية، لنعرف في نهاية المسرحية أنهم أبناء للشهداء المصريين المعاصرين الذين ضحى آباؤهم بأرواحهم من أجل الحفاظ على أرض مصر.
من بروفات العرض 

من الصعب الإشارة إلى أي ضعف بأي عنصر من عناصر المسرحية، فلقد جاء الأداء المسرحي متناغماً تماماً مع الأداء الراقص، وهنا يجب الإشارة إلى بطل العرض الراقص عمرو البطريق الذي جسد دور أحمس، حيث كاد يقترب بأدائه من الكمال، فلقد بدا وحده دون منازع الأكثر تمكناً من الحركات الراقصة و كذلك القدرة على الأداء التعبيري للأحداث، ناهيك عن لياقته البدنية العالية والتي ترقى به إلى مصاف العالمية، في حين لم تكن رشا الوكيل التي لعبت دور ابنة ملك الهكسوس متمكنة من أدائها في كثير من الحركات التي جمعتها بعمرو البطريق "أحمس"، ورغم أن إيمان رزيق التي جسدت دور نفرتاري، مساحة دورها أقل بكثير، إلا أنها بدت متكمنة من الحركة التي أدتها باحتراف ومرونة عالية، خاصة في المشهد الذي جمعها بالبطريق عند عودة أحمس من رحلته الاستكشافية لقصر ملك الهكسوس وجيشه.
لم ينغص علي فرصة الاستمتاع الكامل بهذا العرض الهام سوى الإعداد المسرحي للنص، والذي قام به الدكتور مصطفى سليم، الذي استند في إعداده للنص إلى رواية الأديب الكبير نجيب محفوظ (كفاح طيبة)، وهي من الروايات الأولى له، والتي تحتوي على رواية متخيلة عن تحرير أحمس لأرض مصر، وتحتوي على مغالطات تاريخية كبيرة، وربما لا علاقة لها بحقيقة تاريخ هذا الفرعون الذي ينتمي للدولة الحديثة ويعد المؤسس للأسرة الثامنة عشر، وعلى يديه تم نقل العاصمة المصرية إلى طيبة في الصعيد، بعد أن كانت قبل ذلك في منف (الجيزة حالياً)، والتي سقطت في أيدي الهكسوس، ليهاجر المصريون إلى الجنوب ويبدأون كفاحهم من هناك.
من بروفات العرض 

ربما نعطي العذر لنجيب محفوظ الذي كتب روايته في الأربعينيات من القرن العشرين، حيث المصادر التاريخية لم تكن متوفرة بالقدر الذي يجعله يكتب الرواية بأحداث تاريخية دقيقة، لكن من الصعب أن نلتمس العذر للدكتور مصطفى سليم، الذي يعيش في زمن تتوفر فيه المصادر التاريخية الدقيقة، ولو الأمر بالنسبة إليه مرهقاً أو كان الوقت ضيقاً للبحث بنفسه، فإن الاتصال بأستاذ تاريخ مصري قديم من أساتذة كلية الآثار على سبيل المثال، كان سيفي بالغرض.
للأسف الشديد لم تعبر القصة الخاصة بالمسرحية عن الأحداث الحقيقية لتحرير مصر على يد سقنن رع ثم كاموس فأحمس الذي حقق الانتصار الكبير في النهاية، فلا يوجد دليل تاريخي على وجود شخصية ابنة ملك الهكسوس، ولا دليل على كونها وقعت في غرام أحمس، كما أن اسم ملك الهكسوس الأخير أمنوفيس وليس أبوفيس كما هو مذكور في رواية "كفاح طيبة"، مع إغفال تام لقصة "أفراس" النهر التي حاول بها ملك الهكسوس استفزاز المصريين في الجنوب، كذلك من المهم جداً لفت النظر إلى أن الهكسوس حكموا شمال مصر وليس جنوبها حيث أقام الهكسوس عاصمتهم أوراريس في شرق الدلتا ولم يحدث أبداً أن احتلوا طيبة متخذين منها عاصمة لهم، حيث أن احتلال الهكسوس تمركز في الدلتا ومنتصف مصر.
من بروفات العرض 

لم يشر الكاتب إلى أن سقنن رع استشهد في المعركة، بعد ما أسس حكماً قوياً في طيبة وبدأ في محاربة الهكسوس في الشمال، فدخل معهم في حروب طاحنة حقق فيها انتصاراً يُحسب له، لكنه مات في المعركة بجروح بليغة في رأسه منها شق رأسه ببلطة عميقاً، ولم يحدث أنه توفى جالساً على عرشه أبداً.
حكم كاموس الابن الأكبر لسقنن رع مصر ليكون آخر ملوك الأسرة السابعة عشر، وقد حقق في حكمه الذي استمر خمسة أعوام انتصارات عظيمة ضد الهكسوس محبطاً كل محاولاتهم لاختراق طيبة، بل اشتهر عنه التنكيل بالمصريين الذي يهادنون الهكسوس ويتعاملون معهم، وبعد أن قُتل كاموس أتى أحمس أخيه الصغير ليحقق الانتصار الأكبر ويحرر مصر كلها من الهكسوس، وبالطبع لا يمكن إغفال الدور العظيم الذي لعبته أمهما وزوجة سقنن رع الملكة تيتي شيري.
هذه محاولة بسيطة لتصحيح المغالطات التاريخية التي شملت النص كله للأسف، فلقد خرجت المسرحية لا تنتمي بأي حال من الأحوال للتاريخ، وإنما لفانتازيا روائية ألفها نجيب محفوظ.
بقى أن أشير إلى الإعداد الموسيقي للعرض والذي قدمه خالد درويش، وجاء موفقاً إلى حد كبير، حيث عبر بقوة عن حالة الصراع والحرب بالعمل، كما احتوى على نقلات سلسة من حالة الصراع إلى الحالة الرومانسية التي جمعت أحمس بابنة ملك الهكسوس في العرض ثم مع زوجته نفرتاري.
وبالطبع لا يمكن إغفال محمود مصطفى الذي لعب دور المايسترو لهذا العمل المسرحي الضخم بجدارة، فلقد أدار العمل من حيث تصميم الرقصات والحركة والإخراج باحترافية عالية، جعلتنا نستمتع بالعرض رغم التلفيق التاريخي المُخل لقصة أحمس، الفرعون المصري الذي خلده التاريخ وسيظل يخلده.

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 6 فبراير 2018