الاثنين، 18 يونيو 2018

"الساعة الأخيرة" ... جدل سياسي حول المياكفيلية الأمريكية من خلال دراما مسرحية متميزة




أزاح "مسرح الغد" ستارته عن مسرحية المخرج الكبير ناصر عبد المنعم الجديدة "الساعة الأخيرة"، والتي رأيتها مناسبة تماماً للجدال السياسي المطروح الآن حول دور الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع الدائر على الأراضي السورية، حيث شعارات الديموقراطية والإنسانية التي تقدمها الإدارة الأمريكية دائماً، كمبرر لضرباتها العسكرية في البلاد لحماية مصالحها السياسية، مروراً بتاريخها في أفغانستان والعراق بمنطقة الشرق الأوسط في الحقبة الأخيرة، رغم أن أحداث المسرحية بعيدة تماماً عن هذا المسرح السياسي، وتأخذنا بعيداً في التاريخ حول مجزرتها الإنسانية في هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.

استخدم المؤلف الإسقاط السياسي هذا بشكل غير مباشر عن طريق محاكمة عقدها الطيار توماس فريبي لنفسه قبل وفاته وحيداً في منزله، بعد أن هجره الجميع وتنكروا له حتى زوجته وابنه عندما اكتشفوا هول تأثير تلك القنبلة الذرية المدمرة.
يستخدم عيسى جمال الدين تكنيك المونودراما في مسرحيته أغلب الوقت، حيث يتحدث فريبي إلى نفسه المتمثلة في تمثال له يتخذ موقعاً جانبياً من ديكور منزله الذي يتوسط المسرح. وكلمة يتوسط هنا قدمها ناصر عبد المنعم في شكل جديد لتقسيم فضائه المسرحي، حيث قسم خشبة المسرح إلى ثلاثة أقسام بشكل عرضي ليقدم لنا ثلاثة فضاءات مسرحية تشغل عمق خشبة المسرح، تمثل الأولى في المقدمة شاشة عرض للأحداث الخاصة بالحرب العالمية الثانية، أما الفضاء الثاني فهو يمثل منزل الطيار فريبي وهو ثابت لا يتحرك أو يتغير طوال أحداث المسرحية، أما الفضاء الثالث والذي يقسمه أو يحتجزه خلفه ستار مشابه لستار عرض الفيديو الأول، حيث تُعرض عليه أحياناً بعض الصور، فيمثل ذاكرة توماس فريبي التي يحاكمها وهو يجتر أزماته النفسية.

المونودراما الذاتية لفريبي يقطعها أحياناً جاره الوحيد الذي مازال يتعامل معه لأنه لا يراه مجرماً بل كولونيلاً عسكرياً ووطنياً عظيماً، أو شخوص ذاكرة فريبي التي تتداعى عليه بما مثلته من أحداث عاشها الطيار المأزوم، الذي يعتقد أنه يراوغ الموت بالامتناع عن النوم والاحتفاظ بباخته الصدرية لصيقة به في جيب ملابسه، ساخراً من صديقه اللدود الطيار تشارلز سويني الذي عاش في منافسة دائمة معه على تصدر القمة، والذي مات لأنه لم يستطع الوصول إلى بخاخته التي تبعد عنه خطوات قليلة، وهو ما يتعرض له توماس فريبي نفسه في نهاية المسرحية ليلقى حتفه بنفس الطريقة وكأن القدر يسخر منهما ويحرمهما التنفس الذي حرما منه الآلاف من ضحايا قنبلتي هيروشيما ونجازاكي.

يحاول المؤلف بعبقرية، مستخدماً المعلومات المتوفرة عن توماس فريبي الذي وضع اسم أمه إينولا على الطائرة التي ألقى منها القنبلة، في صنع دراما تراجيدية لحياة هذا الطيار والذي يفترض أنه لم يكن على علم كامل بأبعاد مهمته السرية شديدة الخطورة والحساسية، وكيف عاش عمره كله في حالة تأنيب ضمير لما نتج عن فعله الذي يرى أنه كان مشيناً ومعادياً للإنسانية كلها، رغم محاولات تبريره لقيامه بهذه الفعلة التي كان يجهل نتائجها المروعة، بداية من بواكير طفولته الأولى وعلاقته الشائكة مع والده الذي قتله بوضع السم له في الشراب وهو مازال في السادسة من عمره، ما يخلق تناقضاً هاماً في نسيج الشخصية التي يقدمها لنا عيسى، فكيف يمكن لشخص يمتلك عقلية إجرامية منذ طفولته أن يتألم ضميره لقتل الآلاف من الأبرياء رغم انتمائهم لكيان عدو لبلاده، وكيف لهذه الشخصية أن تلحظ وتسخر من سياسة بلادها الميكافيلية التي تستخدم وتبرر كل فعل لصالحها ثم تلوي عنقه بعد ذلك ببساطة لتستنكره أو تغلفه بتبريرات تخدم معانٍ إنسانية سامية مثل الحرية والعدالة والديموقراطية، خاصة وأن هذه الشخصية كما قدمها المؤلف، تتطلع نحو السماء والتربع فوق عرشها، شخصية مهووسة بالتفوق ويمكنها أن تفعل أي شئ حتى تبقى متربعة على القمة.

وربما يحسم عيسى هذا الجدل في نهاية المسرحية، لحسم توماس فريبي لمحاكمته لذاته، بأنه لو عاد به الزمان سينفذ مهمته مرة أخرى لتتربع بلاده على عرش الكون، ليكون جزاءه هو الموت مخنوقاً بعد أن عجز الوصول إلى بخاخته الصدرية.
يقع المؤلف في مشكلة كبيرة يقع فيها الكثير من كتاب الدراما العربية على اختلاف أجناسها، ألا وهي التعبير عن رأيه وتقديم رؤيته الخاصة كمؤلف على لسان شخوصه، في حين أنه من المفترض وفقاً لأصول الكتابة الدرامية، أن يتحدث المؤلف بلغة شخوصه ويقدم أفكارهم هم لا أفكاره، وأن يصل عن طريقهم هم للفكرة الرئيسية التي يرغب في تقديمها، حتى لا تخرج لغة الشخوص خطابية منزوعة عن السياق الدرامي وتبدو كخطبة عصماء زاعقة، ونلاحظ ذلك من خلال شخصية فريبي وشخصية الفتاة القروية اليابانية التي قابلها فريبي على بعد 30 ميلاً من هيروشيما بعد إسقاط القنبلة، فكيف يمكن لفتاة قروية ضريرة وساذجة عالمها محدود، أن تتحدث وكأنها زعيم وطني مفوه يقول جملاً مثل ( ستنهض إمبراطورية اليابان وستهزم أمريكا في عقر دارها) ومثل تلك الجمل التي تؤكد مستقبلاً لم يكن محسوماً أو معروفاً في لحظة وقوع الحدث، وكان الأجدر بالمؤلف أن يجعل الفتاة تتصرف تصرفات بسيطة  تشير إلى أن اليابان ستنهض من هذه الكارثة بشكل غير مباشر ويشبه الشخصية القروية الضريرة ذات العالم المحدود.

نفس الخطأ يرتكبه المؤلف على لسان شخصية فريبي، الذي يهتف بشعارات معادية للسياسة الأمريكية المتلاعبة وكأنه يحمل في داخله ثقافة شخص ينتمي إلى منطقة الشرق الأوسط أو أي منطقة متضررة من السياسة الأمريكية، ناهيك عن السخرية من أمريكا التي تقتل وتبكي على القتلى بطريقة مصرية بحتة، رغم أن المؤلف اتبع أسلوباً حوارياً في مسرحيته، يوحي بأن هذه المسرحية مترجمة، ما ساعد بالطبع على تمثل أحداثها التي تدور على أرض أمريكية، وكان حرياً به أن يقدم هذه الأفكار بشكل يتناسب وشخصية الطيار فريبي الأمريكي الذي تربى على القيم والأفكار العسكرية الأمريكية، حتى وإن كان يحاكم نفسه على الجريمة التي ارتكبها. كما أنني أعتقد أن نهاية المسرحية كانت يجب أن تتوقف عند لحظة سقوط فريبي صريعاً، حيث جاء دخول جاره إليه واكتشاف جثته وكلامه عن عظمة فريبي وعظمة أمريكاً تطويلاً لم يخدم الدراما في شئ، كما أن المشاهد لم يكن ينتظر أن يؤكد له المؤلف أن هذا الجار مخلصاُ وصادقاً في وعده الذي قطعه على نفسه أمام فريبي بأن يعود إليه بعد ساعة ليحتفل معه بعيد ميلاده.

ويؤكد المخرج الكبير ناصر عبد المنعم من خلال مسرحيته (الساعة الأخيرة)، على أنه يمتلك أدوات اللعبة المسرحية باحترافيته العالية، فتجده يلعب بالضوء والظل بميزان حساس يجعل وعي المشاهد متيقظاً طوال الأحداث دون السماح له بلحظة من الهدوء، ساعده في ذلك بالطبع مدير الإضاءة، إضافة إلى خروج ودخول الممثلين الذي سار بانسيابية نادراً ما نقف عليها في أغلب العروض المسرحية الآن، فترى ناصر كمايسترو يحرك بعصاه الممثلين بميزان حساس، هذا إلى جانب استخدامه الإبداعي لفضائه المسرحي كما ذكرت سابقاً، حيث استغل كل سنتيمتر منه بشكل انسيابي لا يوحي بأي زحام أو حركة غير مبررة داخل السياق الدرامي.
ولا يمكن أن نغفل عبقرية الأداء التي قدمها الفنان شريف صبحي بتجسيده لدور الطيار فريبي، فخرج صادقاً موحياً لدرجة جعلت المشاهدين يتماهوا تماماً مع الشخصية ويتمثلوا آلامها وأحزانها وتناقضاتها، فلقد برع صبحي في ارتداء جسد فريبي وروحه وعبر عن دواخله بشكل أوحى بأنه هو فريبي لا غيره.

كذلك استطاعت الفنانة سامية عاطف رغم قصر دورها والذي لم يحتل أكثر من مشهد واحد، أن تلفت النظر إليها وإلى أدائها المتميز والرهيف، حيث لعبت دور الفتاة اليابانية ببراعة مدهشة حقاً، إضافة إلى دور ام فريبي الذي لم يستغرق سوى مشهد واحد آخر.
"الساعة الأخيرة"، مسرحية تستحق المشاهدة، وأعتقد أنها ستمثل إضافة هامة إلى مجموع المسرحيات التي حققت نجاحاً جماهيرياً مؤخراً، استحق أن تستمر في عروضها دون توقف.

المقال منشور بجريدة القاهرة في شهر مايو 2018