الأحد، 14 فبراير 2016

كيف تستمتع برحلتك في الأقصر وأسوان


في إجازة منتصف العام ... السياحة الداخلية تُنعش أسوان والأقصر والأهالي يحلمون بعودة الأجانب

أسعار رحلات النايل كروز تتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه بين القطار والطائرة

صورة تذكارية مع التمساح في النوبة ومنزل محمد منير أصبح مزاراً سياحياً

أم محمود .. نوبية عمرها 100 عام ولا تعرف من القاهرة سوى إمبابة

معبد كوم إمبو تجسيد للتسامح الديني في مصر منذ آلاف السنين

خناقة للتصوير بجانب حورس ومعبد إدفو رمز للفوضى الشعبية

الحنطور وسيلة المواصلات الوحيدة في مدينة إدفو وكل مواطن يركب بالدور

أهالي الصعيد يتفننون في كسب الرزق أمام هويس إسنا ويقدمون دليلاً على " التجارة شطارة"

المصريون لا يهتمون بمعلومات "الصوت والضوء" في الكرنك ويكتفون بالتصوير في الظلام الدامس

البالون في الأقصر يأخذك في رحلة جوار الشمس ولفلاحون يقدمون لك عيدان القصب عند الهبوط





غالباً ما تكون إجازة منتصف العام الدراسي بمصر، موسماً خصباً لتوافد السياحة الداخلية على مدينتي الأقصر وأسوان للتمتع بدفئها وشمسها التي لا تغيب، وللاستمتاع بمعالمها السياحية الأثرية. لم تكن زيارتي هذه المرة هي الأولى فلقد زرت المدينتين مرات متعددة من قبل نظراً لشغفي الكبير بالتاريخ والآثار الفرعونية، لكنني أردت لهذه المرة أن تحتوي على أنشطة مختلفة عما اعتدت عليه سابقاً، فكان اختيار رحلة "نايل كروز" أول قرار مختلف بالنسبة لي لزيارة مدينتي الشمس.
لم يكن من الصعب العثور على رحلة "نايل كروز" فقبل انتهاء امتحانات منتصف العام بشهر تقريباً، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بإعلانات عديدة لتلك الرحلة، تنظمها شركات سياحية ونوادي ومؤسسات حكومية وغيرها، وتباينت الأسعار بين 1200 جنيه و1800 جنيه  و3000 جنيه وفقاً لتحمل سعر تذكرة القطار أو الطائرة إلى أسوان أو الأقصر أم لا، فبعض الرحلات قررت أن تترك الرحلة من القاهرة إلى الأقصر أو أسوان ( وفقاً لبدء الرحلة من إحدى المدينتين والانتهاء بالمدينة الأخرى) للزائر، وبعضها قدمت باقة تشمل رحلة السفر الأولى سواء بالقطار الـ VIP أو الطائرة.
سافرت بالقطار الـ VIP، وكانت هذه أول تجاربي معه منذ إطلاقه العام الماضي، وفي الحقيقة يجب الاعتراف أن القطار يستحق سعر تذكرته العالية، والتي تصل إلى 300 جنيه، فهو نظيف جداً، ولا يعاني من أزمة الحمامات التي تعاني منها الأماكن العامة المصرية ككل، حيث هناك عامل مخصص لكل منطقة حمامات لموالية تنظيفه أول بأول، وتزويده بصابون اليد والمناشف الورقية، كما أنه مكيف بحيث لم نكن نشعر بالبرد الشديد في الخارج وكلنا تخفف من المعاطف الثقيلة، ويحتوي أيضاً على مقهى راقي يقدم المشروبات الساخنة والعصائر والوجبات الخفيفة، ولم يكن هناك ما يمكننا الشكوى منه سوى من تصرفات بعض الركاب والتي لا تمس النظام في القطار أو العاملين عليه.
صورة تذكارية مع التمساح
ربما كان من المرهق للمسافرين بالقطار؛ بدء رحلتهم بمجرد وصولهم حيث لا ينالوا قسطاً من النوم بعد رحلة دامت 12 ساعة، وإن كان اليوم الأول لا يحتوي سوى على زيارة السد العالي ومعبد فيلة الموجود على جزيرة على جزيرة أجيلكا، والذي كان مخصصاً لعبادة الربة إيزيس في فترات طويلة من عهد الأسرات الفرعونية، والمعبد يقدم حفلة للصوت والضوء في الثامنة مساءً، لكنني لم أتمكن من حضورها لرغبتي الشديدة في الحصول على قسط من النوم.
لم يتحرك بنا "الفندق السفينة" في ليلتنا الأولى بجنوب مصر، حيث بدأن رحلتنا في اليوم الثاني مبكراً لزيارة إحدى القرى النوبية الباقية على ضفاف نهر النيل، وهي قرية غرب سهيل، التي حظت بشهرة كبيرة بعد أن تم تصوير مشاهد من فيلم "مافيا" فيها، ووفقاً لأهلها فهم ينتظرون ذهاب الملك محمد منير إليهم قريباً لتصوير مشاهد من مسلسله الجديد.
قرية غرب سهيل صغيرة وتتميز ببيوتها الملونة، حيث يربي النوبيون التماسيح داخل بيوتهم في أحواض مجهزة لذلك، ويعتمدون بشكل رئيسي في كسب لقمة عيشهم على زيارة السياح لهم، فبيوتهم مفتوحة كل يوم لاستقبال الزائرين وتقديم الشاي والحلوى، مع استعراض تماسيحهم وتقديم بعض المعلومات عنها، حيث يجلبونهم من بحيرة ناصر ليربوها ويستولدونها، ويقول محمود صاحب البيت الذي زرته؛ أن عمر التمساح في الأسر لا يزيد عن الستة عشر عاماً، وطوله لا يزيد عن متر ونصف، لكن قد يصل عمر التمساح في البحيرة وراء السد إلى مائة عام، ويبلغ طوله سبعة أمتار وبالطبع يكون أكثر توحشاً. إذا كانت لديك الشجاعة فسوف تحظى بفرصة حمل التماسيح المولودة حديثاً والحصول على صورة تذكارية معها، أما لو كنت مثلي فستكتفي بالتصوير.  
مائة عام في عشق النوبة
في جانب قصي من المنزل تجلس امرأة طاعنة في السن، ترتدي الأسود وتنظر إلى الزائرين باهتمام، بينما تصدر أوامرها باللغة النوبية التي لا أفهمها بالطبع. دنوت منها وسلمت عليها وطلبت أن ألتقط لها صورة، فرفضت بعربية مكسرة، وقالت أنها لا تُحب التصوير وحدها، فناديت على مجموعة من الحاضرين ليجلسوا جوارها وأحظى بتصويرها.
جلست جوارها وأنا أحاول التقاط الكلمات من عربيتها الضعيفة، حيث قالت لي أنها بلغت من العمر مائة عام ربما، وربما أكثر فهي مولودة قبل الخزان والسد بسنين طويلة، وأشارت نحو غرفة بالمنزل قائلة:
"لقد وُلدت هنا في هذه الغرفة وأمي أيضاً وُلدت فيها".. تسترسل الحاجة المعروفة بأم محمود في حكاياتها بالقول:" هذا البيت الذي ترونه كان قاصراً على تلك الغرفة، كنا نعيش فيها كلنا ويعمل رجالنا في النهر، حتى جاء السد العالي ليغرق كافة القرى المجاورة وجزء كبير من قريتنا، لكن بيتنا لم يغرق، فقررت أمي أن لا تغادر، وأنا أيضاً لم أغادر النوبة أبداً"
عندما سألتها إن كانت سافرت إلى القاهرة من قبل قالت:" نعم سافرت إلى القاهرة ... أليست هي إمبابة؟"، وبسؤال واحد من أحفاد الأحفاد أخبرني أنها تعتقد أن القاهرة هي إمبابة لأنها لم تخرج من النوبة سوى مرة واحدة في صباها لزيارة الأهل في حي إمبابة".
الحاجة المعروفة باسم ام محمود، لم تنجب قط، فلقد تزوجت مرة واحدة ولم يحالفها الحظ في أن تُرزق بطفل، لكنها ربت أبناء أختها التي توفت مبكراً، وعمرت بهم هذا البيت الذي أخذ في الاتساع لضم غرف جديدة للعائلة التي أخذت في النمو على مدار عقود طويلة.
أم محمود أكدت أنها لم ولن تغادر النوبة لتتشرد مثل باقي النوبيين الذين لم يعدوا يعرفون أصولهم الآن، فهي ترى الذين هاجروا إلى أسوان وكوم إمبو والقاهرة والإسكندرية، انقطعوا عن جذورهم أما هي فترفض ذلك.
النوبيون في غرب سهيل يعملون في مهن مرتبطة كلها بالسياحة، فهم يبيعون الملابس النوبية والتذكارات المتعلقة بثقافتهم في البازارات البسيطة الممتدة على جانبي الطريق الضيق المجاور للنهر، كما تنتشر الجمال التي بإمكان السائح ركوبها للتجول بالقرية ومشاهدة معالمها، إضافة إلى الفتيات اللائي يعملن داخل منازلهن في غزل "الطواقي" النوبية المميزة والجلابيب المشغوولة يدوياً بنقوش فرعونية ملونة، إضافة إلى الجهزة الموسيقية النوبية مثل العود الخماسي والدفوف، والأسعار رخيصة، فبالإمكان الحصول على جلباب مشغول من الكتان بمائة وعشرين جنيهاً فقط.
انتهت جولة هذا اليوم بزيارة حديقة النباتات المطلة على قبر أغا خان، وفي طريق العودة للسفينة عبر النهر شاهدنا منزل الملك محمد منير المتربع على ضفته، وبشكل شخصي مَثل لي الأمر أهمية بالغة توازي أهمية زيارة أثر فرعوني قديم.

متعة الإبحار في النهر
بمجرد العودة لـ "الكروز"، بدأت في الإبحار باتجاه مدينة كوم إمبو لزيارة معبد الإلهين حورس وسوبك هناك. من الصعب التعبير بالكلمات لوصف الرحلة عبر النهر في طريقنا من أسوان لكوم إمبو، فالطبيعة النهرية في الجنوب مختلفة تماماً عما اعتدنا رؤيته كل يوم في القاهرة، حيث صفاء المياه والطيور باختلاف أنواعها تهبط على صفحة النهر لتشرب وكأنها ترقص بخفة دائرة حول نفسها في تناغم ملحوظ وكأنها تتحرك وفقاً لمعزوفة موسيقية ناعمة. البيوت الطينية للفلاحية على جانبي النهر يتخللها بيوتاً ملونة من دورين، وكان من حظي أن صادفت مجموعة من الفلاحات يلعبن على الشاطئ وهن يغسلن ملابسهن ودُهشت لأن هذا المشهد مازال يحدث في قرى الجنوب حتى الآن. لا يمكنك أن تغمض عينك وأنت تشاهد كل هذه الطبيعة الخلابة التي تغسل النظر برقة الإيقاع الزمني لكل الهدوء المحيط بك.
بعد أربع ساعات تقريباً مرت وكأنها خمس دقائق وصلنا إلى كوم أمبو، فترجلنا من السفينة لنصعد مباشرة إلى المعبد الذي كنت أزوره للمرة الأولى، المعبد مختلف في تصميمه عن باقي المعابد الفرعونية التي اعتدت زيارتها مسبقاً، ربما لأنه ينتمي للعصر البطلمي وتم زخرفته في العصر الروماني، لكنه في النهاية يحمل الروح الفرعونية في البناء، وربما أيضاً لأنه بشكل أو بآخر كما قال المرشد السياحي، دليل على تسامح وتعايش الأديان، فهو معبد مخصص لإلهين هما: حورس وسوبك وكان يتم عبادتهما معاً في نفس التوقيت الزمني دون أي نزاعات بين الناس، حتى أن المعبد له مدخلين واثنين من قدس الأقداس لكل إله.
ربما كنت محظوظة لأنني زرت هذا المعبد في وقت الغروب، حيث حظيت بمشهد بديع للشمس وهي تلملم خيوطها في طريها للغرب، ويبدو أن الطيور كانت تُغَرب هي الأخرى حيث كانت تتجمع في أشكال فنية بديعة جوار الشمس، فكانت الزيارة روحية جمالية وليست فقط تاريخية، فمشهد أعمدة المعبد ذات الزهور اللوتسية المكللة لتاجه والشمس تنسل من بينها لترحل حاملة معها الطيور، ما كان من السهل الحصول عليه في أي توقيت آخر.
عدنا إلى السفينة، لننام أول مرة وهي تسير في اتجاه معبد إدفو، وكنت أتخيل أنني لن أتمكن من النوم بينما السفينة تُبحر شمالاً، لكنني غرقت في النوم ربما لأحتفظ بآخر مشهد لشعاع الشمس وهي تغيب.
تجارة النهر والفصال عبر الأثير

في معبد إدفو تتجلى السلوكيات المصرية السيئة في الأماكن السياحية، ولا أدري السبب، ربما لأن زيارتي للمعبد كانت في منتصف النهار حيث ذروة زيارات الوفود السياحية، فبداية من صعود الشباب إلى قواعد التماثيل والعمدة للحصول على صورة تذكارية وحتى الشجار من أجل التقاط صورة جوار تمثال حورس الصقر الكبير في صدر مدخل المعبد، وكذلك التكالب من أجل الوصول إلى قدس الأقداس لتصوير مركب حورس.
طريقة الوصول إلى المعبد من داخل مدينة إدفو تعتمد بشكل أساسي على عربات الحنطور، حيث تُقل كل عربة أربعة أفراد وعليهم أن يعرفوا رقم الحنطور لأنهم سيستقلونه نفسه في طريقهم للعودة. بمجرد الوصول إلى ساحة جراج الحناطير تجد نفسك محاطاً بها من كل جانب وهي تسير بطريقة عشوائية، وإن كان هناك نظام فيما يبدو لاصطفافها جانباً كي ينزل ركابها، إلا ان نسبة ليست بالقليلة لا تلتزم بهذا القانون، فقط يلتزمون بركابهم لأنهم لو لم يفعلوا ذلك لن يحصلوا على أجرهم في النهاية من المرشد السياحي المسئول عن المجموعة السياحية.
عم أحمد سائق الحنطور الذي ركبته في طريقي لإدفو قال: " مرحب بأهل بلدنا الكرام"، وبمجرد أن رددت السلام انطلق في شكواه: " واللهي مش عارفين من غيركوا كنا عملنا إيه". في ساحة انتظار الحناطير تضامن حسن مع العم أحمد، فبمجرد أن نكأت الجرح بسؤاله إن كان المعبد يعاني من الزحام دائماً قال: " لا يوجد سائحين منذ خمس سنوات من الأساس، أحيانا تأتي وفود من إنجلترا وألمانيا ولكنها قليلة جداً ... الزحام الآن سببه السياحة الداخلية في موسم منتصف العام". وكانت إجابته عندما سألته إن كان يفضل السياحة الخارجية على الداخلية جد موجعة، فقد قال: " والله ما هتفرق المهم نشتغل بدل وقفة الحال".
بعد العودة إلى السفينة بدأنا رحلتنا الثانية عبر النهر في الطريق إلى الأقصر وتلك كانت متعة جديدة لتنفس رائحة النهر المخلوط بسعف النخيل على جانبيه، رحلة للتأمل في شأن بدع الله في خلقه، زاد عليها متعة مشاهدة هويس إسنا وهو يفتح بابه لتعبر منه السفن بعد أن انخفض منسوب المياه أمامه لتهبط السفينة معه لأسفل دون أن نشعر، هذا الهويس الذي ينظم تدفق مياه النيل باتجاه الشمال تم تأسيسه عام 1908 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. قبل الهويس بأمتار قليلة تتجلى عبقرية المصري في الحصول على لقمة عيشه، حيث تنتشر المراكب الصغيرة "فلوكة" والتي يقودها أصحابها ليلتفوا حول السفن في محاولة لبيع منتجات أخميم السوهاجية، من شيلان صعيدي وفوط عليها رسوم فرعونية ومفارش وغيرها. في البداية تساءلت عن كيفية بيعهم لهذه المنتجات لنا ونحن على ظهر السفينة بينما هم في الأسفل داخل مراكبهم؟، لكنني فوجئت بهم يلقون إلينا ببضاعتهم في حرفية عالية لتصل إلى أيدينا، وبعدها يبدأ الفصال على السعر، حتى تتم الصفقة.

رحلة إلى سماء الأقصر
في الأقصر كانت رحلتنا الأخيرة حيث زيارة معابد الكرنك والأقصر والدير البحري ووادي الملوك ووادي الملكات، ولقد قمت بزيارة تلك المزارات من قبل، لكن هذه المرة كان الاختلاف في نظام الدخول، حيث قامت الحكومة بوضع أجهزة تفتيش أليكترونية للحقائب ومداخل أكثر تحضراً عما كان عليه الأمر من قبل، وربما ذلك ما شجعني على دخول عرض الصوت والضوء الخاص بمعبد الكرنك، وكانت صدمتي في زوار عرض اللغة العربية وهم من المصريين، حيث لم يكن الزوار يهتمون بمتابعة العرض بقدر ما اهتموا بإخراج هواتفهم الذكية لالتقاط الصور في الظلام الدامس وتسجيل العرض بالفيديو رغم أنه متوفر على موقع يوتيوب وعلى شرائط فيديو وأقراص دي في دي، بل إن أصواتهم وهم يمرحون بالتقاط الصور التذكارية غلبت على صوت العرض واستاؤوا كثيراً من اعتراضي، فما كان مني سوى التوجه بالشكوى إلى أحد حراس المعبد، الذي اعتذر عن مساعدتي نظراً لصعوبة السيطرة على كل هذا الحشد.
بعد عدت في المساء نادمة لأنني ذهبت إلى العرض العربي، أملت خيراً في آخر رحلاتي بالأقصر والتي كانت لسمائها وليس لآثارها على الأرض، ففي تمام الساعة الخامسة فجراً انتظمت في بهو السفينة مع باقي الأفراد الذين قرروا الذهاب في رحلة البالون. لم يكن عددنا كبير، ربما لأن سعر الرحلة 320 جنيها للفرد، لكنني بمجرد الوصول إلى الساحة التي تتجمع فيها البالونات استعداداً للطيران أيقنت أن المبلغ زهيد جداً، فبحساب تكلفة الميكروباص الذي أقلنا إلى المركب البخاري الذي أوصلنا بدوره إلى ساحة تجمع البالونات، ومن ثم العدد الهائل للعمال الذين يقومون بنفخ البالون بالهيليوم ثم تثبيت قاعدة البالون لنركب داخلها فالأمر بالتأكيد يستحق أكثر من ذلك.
متعة رحلة البالون إلى سماء الأقصر، تبدأ وأنت على الأرض حيث متعة مشاهدة نفخ البالونات بالهيليوم والنار تندفع داخل البالون لتشق الظلام حيث ضوء الشمس لم يكن قد تسلل إلى السماء بعد، ثم بدء انطلاق البالونات واحداً بعد الآخر لتشاهدها وهي تهيم في الفضاء بألوانها الزاهية، بينما الضوء يبدأ في التسلل على استحياء.
جاء الدور علينا، وشعرت برغبتي في الركض لاعتلاء قاعدة البالون استعداداً لاحتضان الهواء وهو سابح في فضائه بالأعلى، فاندفعت لأحتل مكاني وأنا سعيدة كالأطفال بالنيران التي تندفع داخل البالون بين برهة وأخرى لتحافظ على مستوى الهيليوم داخل البلون. من الصعب وضف الإحساس بدقة ونحن نعوم بين السحاب بنعومة لا تشعرك بأنك تتحرك أبداً، بينما تغير المشاهد من حولك وأنت تجاور الشمس في لحظة شروقها هي التي تنبؤك بأنك تتحرك. فرحة بعض رواد البالون المختلطة بخوف البعض الآخر والنيل من أسفلنا بجزره الصغيره والنباتات التي تتوسط مجراه، ثم المرور على الدير البحري لنراه صغيراً جداً .... كل هذا كان بمثابة درة تاج الرحلة بأكملها.
عندما بدأنا في الهبوط سألت الطيار إن سنهبط في إحدى الحقول، فأكد لي بأننا سنهبط في حقل للقصب السكر، ففكرت إن كنا سنؤذي المحصول لكن بمجرد أن اقتربنا من الأرض فوجئت بإحدى الفلاحين مصطحباً ابنه قادمين نحونا وهم يهللون وعندما صبحنا عليهم اتسعت ابتسامة الرجل وهو يقول: يا أهلا يا أهلا ، ثم نظر لابنه وهو يقول: دول مصاروة ... مننا يعني، ثم قدموا لنا عيدان القصب للترحيب بنا.

الموضوع منشور في "جورنال مصر" العدد 69 - 14 فبراير 2016 
























الاثنين، 4 يناير 2016

مجمع الأديان ... في مكان واحد توقد شمعة للعذراء ومارجرجس ثم تقرأ فاتحة الكتاب في جامع عمرو





يُحكى أن هناك بلد اسمها (حا – كا – بتاح) أي مكان الإله بتاح، وكان أهلها يطلقون عليها اسم (كيمة أو تاكيمة) أي السوداء أو الخمرية نسبة إلى لون تربتها، وأطلقوا عليها (تاوي) أي الأرضين نسبة إلى الدلتا والصعيد، وأسموها (تامري و إيرا رع) أي المكتملة وعين الشمس، وكذلك (إثرتي) أي ذات المحرابين في الشمال والجنوب، وأطلق عليها اليونان (إيجيبتوس) أما الآشوريين والفينيقيين فعَرَّفوها بـ (مصرم)، أما المعينيون في اليمن فكانوا يسمونها بـ (مصري)، والعبريون أطلقوا عليها ( إيرس مصر) أي أرض مصر، وفي النصوص الآرامية والسريانية جاء اسمها (مصرين. مصر) وتعني حضارة أرض.
إنها ببساطة مصر ... أول حاضرة في الكون، عرفها البشر من حولها باعتبارها الأرض الأم التي تتسع لاحتوائهم جميعاً، دون تفرقة بين أي منهم واتسعت الأرض الممتدة على شريط  نهر النيل لكل أنواع العبادات وأقيمت المعابد للعديد من الآلهة المختلفة، لتُعبر عن التنوع والتطور الفكري للبشر في محاولاته للوصول إلى الله.
لم تكن مصر أبداً، بلد صراع ديني مثلما كانت أرض العراق مثلاً، وهذا ما أعطى لحضارتها الفرعونية عمراً مديداً لتستقر على قمة الحضارات المصرية القديمة، فتكون هي النظام الحاكم القديم الوحيد الذي استقر على مدار 30 أسرة فرعونية كاملة، حتى غزا الرومان المنطقة وبما فيها مصر، فعمدوا إلى طمس أي نوع من أنواع الهويات الثقافية، في سبيل سيادة ثقافتهم وحدها.
ورغم الاضطهاد الديني الذي واجهه المصريون في عصر الحكم الروماني، إلا أنهم أجبروا الرومان في النهاية على الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، حتى دخل عمرو ابن العاص مصر فاتحاً، ولم يجبر أحداً على الدخول في الإسلام، وعندما أقام عاصمته الفسطاط، لم يقترب من منطقة الأديرة والكنائس التاريخية هناك، وتركها ليبني جوارها أول مسجد في مصر والذي سُمي باسمه، ليرتفع الآذان في حضن أجراس الكنائس.

فسطاط الأديان الثلاثة

منطقة (مجمع الديان) في مصر القديمة، تمتلك روحاً مُشعة تتلبسك بمجرد أن تطأ قدمك أرضها، فبمجرد أن تترجل من المترو في محطة مارجرجس، يبدأ شعاع من نور في الدخول إلى قلبك. وعند السلم الخارجي ترى أول ما ترى قٌبة كنيسة مارجرجس بصليبها الذي يزين قمتها، وهي تعد من أهم الآثار للأقباط الروم الأرثوذوكس بمصر وأفريقيا ويعود تاريخ إنشائها إلى القرن العاشر الميلادي على أحد الأبراج الثلاثة لحصن بابليون. أكثر ما يجذب النظر لكنيسة مارجرجس، تصميمها الدائري وبرج الجرس الذي يرتفع 30 متراَ، إضافة إلى ما تحويه من لوحات ونقوش مطليه بالذهب والأبواب المشغولة بالأرابيسك الذي يختلف عن النمط السائد لدى باقي الكنائس في المنطقة.
لا تستطيع ألا تبدأ بمارجرجس لوجودها تماماً أمام سُلَم المترو، لكن من المفترض أن تبدأ بالكنيسة المعلقة، التي تضم أيقونات قبطية شديدة الروعة وأهمها لوحة ( العدرا الموناليزا) والتي لُقبت بهذا الاسم نظراً لأن عيني العذراء في اللوحة تنظر إليك أينما اتجهت ما يدل على تطور الفن التشكيلي لدى الأقباط قبل أن تبدأ المدرسة الانطباعية في أوروبا. وسُميت "المعلقة" بهذا الاسم نظراً إلى أنها بُنيت على برجين من أبراج حصن بابليون.
ولتاريخ بناء المعلقة أكثر من رواية، فالبعض يقول أنها بُنيت على أنقاض المكان الذي استقرت فيه العائلة المقدسة لمدة ثلاث سنوات هرباً من الملك الفلسطيني هيرودوس الذي أمر بقتل جميع الأطفال، بناءً على نبوءة وردته بشأن سيدنا عيسى. وهناك أقوال أخرى أنها بُنيت على آثار "قلاية" لإحدى الراهبات.
ربما تكون الكنيسة المُعلقة دليلاً كبيراً على روح التسامح المصرية التي استمرت منذ القدم، فلقد تعرضت إلى الانهيار لأكثر من مرة منذ دخول الإسلام مصر بسبب المياه الجوفية، لكنها دائماً ما كانت يتم تُرمم على أيدي الخلفاء المسلمين.
عندما تخرج من "المعلقة" وتبدأ السير بين الأجناس المتعددة التي أتت لتتبرك بالقديسين، يُخايلك امتداد الأبنية التاريخية والمعمار المتأثر بفكرة الحصن، حيث أن المنطقة بأكملها مبنية على آثار "بابليون"، فتشُعر بطاقة إيجابية تدخل روحك، فجوارك يسير المسلمون والمسيحيون يشيرون بأصابعهم إلى أبنائهم عن تكوين معماري أثري مميز، ليحكي له قصة ما يعرفها عن المكان.
عندما تصل إلى السلم الذي يهبط بك نحو كنيسة "المغارة والشهيدين سرجيوس وواخس الشهيرة بكنيسة أبوسرجة"، ومزار مار جرجس وكنيس بن عذرا اليهودي، لا يمكن ألا تمر على البازارات التي تبيع الأيقونات القبطية والصلبان والمسابح وغيرها من اللوحات المُعبرة عن الديانة المسيحية. السير في هذا الممر مع رؤية الضوء الذي يغمرك هابطاً من عَلٍ لا يسمح لك سوى بالشعور بالغبطة، فتجد نفسك تشرع نحو لوحتي العذراء ويسوع في كنيسة أبو سرجة، لتشعل الشمع وتنال بركة المكان وتحاول التلصص لرؤية فوهة البئر التي كانت السيدة مريم ويسوع الطفل يشربان منها، ثم تهرع مسرعاً نحو مزار مارجرجس لتشعل له أيضاً شمعة مستمداً منه القوة وهو يغرس رمحه في قلب التنين، وفي الداخل ستحكي لك الراهبة المسئولة عن المزار حكاية القديسة فلومينا صاحبة المعجزات التي تحدت الإمبراطور ديقليديانوس، إلى أنا نالت الشهادة.
لا تكتمل بركة المكان إلا بزيارة كنيسة القديسة بربارة والموجودة في شارع على اسمها (حارة الست بربارة)، فتسرح بخيالك عن هذه القديسة التي لا يؤكد التاريخ حقيقة وجود جسدها في كنيستها كما هو شائع، حيث كانت فتاة آسيوية تعلمت على يد راهب مصري، فاعتنقت المسيحية وكرَّست نفسها لخدمة الله.
وقبل أن تُنهي جولتك السماوية، عليك أن تمر على كنيس بن عذرا اليهودي، والذي لا يتسم بأي معمار مميز، كما أنه صغير جدا ولا يضم في الداخل سوى صالة كبيرة تتسع للشمعادانات اليهودية ومذبح الصلاة، لكنك أيضاً لن تستطيع أن تمر بينها حيث أنها مسيجة بالحبال التي تمنع العبور وتطالبك بأن تنظر من بعيد.
تجلس على المكتب الخارجي سيدة من الطائفة اليهودية في مصر، والتي تتحدث يسيراً وتُجيب بهدوء شديد أنه لم تعد هناك صلاوات تُقام في المعبد الآن، وذلك للحفاظ على آثار اليهود من الاندثار.
عندما تنتهي من معبد بن عذرا الذي يُقال أنه كان كنيسة مسيحية في الأساس وتم بيعها لليهود ليقيما داخلها معبداً لهم، ستبدأ رحلتك نحو ختام الأديان السماوية عند جامع عمرو ابن العاص.

الطريق إلى عمرو بن العاص

تبدو سماحة الدين الإسلامي في اختيار عمرو ابن العاص لموقع أول مسجد في مصر، حيث تحتاج إلى السير مسافة كيلومتر تقريباً منذ نهاية ممر الكنائس القديمة لتصل إلى المسجد، وذلك لأن الفاتح لمصر لم يرغب في مزاحمة الكنائس أو الاستيلاء على أحدها لتحويلها إلى مسجد بمنطق المنتصر. والمكان منذ أُنشىء الجامع رمزاً لعناق أبدي يجمع بين الديانات السماوية الثلاث التي ترمز لقدرة هذه الأرض على استيعاب كل الأفكار والأديان.
في مسجد عمرو ابن العاص، يحذرك الحارس عند البوابة الرئيسية من وجود سيدات تسرق الهواتف والنقود، وأنه علينا الحفاظ على حقائبنا جيداً، وهو أمر مثير للحزن حيث لم أقابل مثل هذا التحذير عند الكنائس، كما أنه من المحزن أيضاً، أنه محاط بالأبنية العشوائية التي انزرعت كنبت فاسد يعمد إلى تقبيح المشهد الروحاني له. قبل الوصول إلى المسجد يصادفك بعض من أكوام القمامة ما يجعلك تتعجب لعدم اهتمام وزارة الآثار بمحيط المسجد، وكذلك تحزن لأن المصلين أنفسهم لا يحترمون جلال المكان بعشوائيتهم.
رغم ذلك فالصلاة داخل مسجد عمرو ابن العاص تختلف تماماً عن الصلاة في أي مسجد آخر، حيث الفضاء المفتوح على السماء داخل الصحن، يُشعرك بجلال الله يتسرب إلى فؤادك، وهؤلاء المسلمون من كافة البلاد يركعون جوارك يأخذهم جمال الأعمدة التي يعج بها المسجد، فننظر إليها من كل الزوايا فتأخذك في رحلة إيمانية متأملة مع الضوء الذي يشملنا ويفتح لنا تباريح الخالق.
مُجمع الأديان منطقة واحدة تعبر عن مصر، البلد التي تحمل أسماءً عديدة وتحتضن كل المؤمنين والمفكرين بروح سمحة ترفض الرضوخ لأي محاولات لتجريف الحب...  دينُ مصر الحقيقي منذ لحظة خلقها الأولى.




 الموضوع تم نشره في جريدة جورنال مصر الأسبوعية في ديسمبر 2015 




















الاثنين، 28 ديسمبر 2015

جزيرة بالي .... أرض الآلهة (2)

"أبود" جاليري مفتوح للفن التشكيلي وعروض الموسيقى تسير جوارك في الشوارع
أكواخ من زجاج تطل على أنهار المياه والأشجار الخضراء لتستيقظ صباحاً في الجنة
البغبغانات تُجري معك حواراً راقياً والقرود تصعد على كتفيك لتتناول الموز

براهما وسيوا ووسنو ... ثلاثة آلهة يكونون التناغم في الحياة لدى أهل بالي

زوار النبع المقدس يغتسلون في مياهه ويدعون الله بتحقيق أمانيهم

التجديف في الشلالات رياضة بالي الخطرة التي تضج بالحياة

التسوق ممتع في أبود والبائعون يخبرونك عن حقك في الفصال

تناول الدرة المشوي على كورنيش البركان واحدة من أنشطة بالي الممتعة











"كيتوت" عراف "طعام صلاة حب" بلغ المائة ولم يعد يقوى على قراءة الطالع 


في مدينة "أبود"؛ تدور أحداث رواية "طعام، صلاة، حب" في الجزء الخاص بجزيرة بالي. لا يمكنك أن تمر على أبود، دون أن يداخلك الإحساس بأنها مدينة العمر، فتصميم شوارعها ومنازلها ومدارسها ومعابدها، يمنحك الإحساس بدفئ الوطن، ربما لشيء في نفسي بشكل شخصي، حيث أعشق المدن الصغيرة وأحب العيش فيها بعيدا عن صخب العواصم الكبرى، وأنتمي بشكل كبير إلى اللون الأخضر والحيوانات، ولا أنزعج من الزواحف أو الحشرات، بل أتعامل معها بحب وهدوء.
لكل ما سبق نقلت إقامتي إلى "أبود" لأمضي فيها ثلاثة أيام قبل عودتي إلى القاهرة، وربما أيضاً لأنها جاليري مفتوح، فما يفصل بين معرض اللوحات والذي يليه، لا يزيد عن الـ 500 متر، حيث اللوحات الزيتية والتماثيل الخشبية التي لا تقتصر على تراث "بالي" لتمتد إلى التجريد وإن كانت طبيعة استخدام اللون هناك تميل إلى صخب الألوان المدارية وعنفوانها، ما يبعث بهجة خاصة تليق بالمكان. المثير في أبود أيضاً، أنه بإمكانك مقابلة فرقة موسيقية دينية تسير في السوق لتنشد صلواتها وترقص رقصاتها التقليدية، دون أن يكون هناك مناسبة دينية أو مهرجان.

تعني كلمة "أوبود" العلاج أو الدواء، وهي فعلاً تعد علاجاً لكل الضغوط التي يمكن أن تقابلك في الحياة لما تتمتع به من طبيعة ساحرة تصخب بأشجار البامبو والأنهار وبالطبع حقول الأرز، إضافة إلى المعابد والقصور القديمة، التي تختلف في طبيعتها عن المعابد القريبة من "سيمنياك"، ففيها تستقر المعابد جوار الغابات وشلالات الأنهار، وبعضها الآخر زحف  إليه التوسع المعماري مع ازدياد السكان فأصبح وسط المناطق السكنية.
الأسماء من 1إلى 4
أوصلني "مادي" إلى أوبود، لكنه سلمني إلى زميله "كيتوت" ليكمل معي رحلاتي، لاحظت أن اسم "كيتوت" منتشر بشكل أو بآخر، فهو اسم العراف في "طعام، صلاة، حب" وكذلك أغلب الجاليرهات اسمها كيتوت، فكان سؤالي الأول لموظف الاستقبال في منتجع "سابوليدي" الذي أقمت فيه؛ إن كان الاسم شعبياً في بالي وما هو معناه؟ فكان رده المثير للتعجب، بأن أهل بالي كلهم يسمون أبنائهم على الأرقام وفقاً لترتيب ميلادهم في العائلة فـ ( وايان أو بوتو تعني رقم 1) و (مادي أو كاديكت تعني رقم 2) و ( كومان أو نومان تعني 3) و (كيتوت تعني رقم 4) وهنا تنتهي الأرقام البالية، فإذا أنجبت الأسرة أكثر من أربعة ذكور يسبق الرقم كلمة (ني) فيكون الأمر كالتالي ( ني وايان و ني مادي ) و ( ني كومان) و ( ني كيتوت).  قمت باستغلال الفرصة وسألت الموظف إن كان يعرف أين يقطن كيتوت العراف الشهير من فيلم جوليا روبرتس، فأخبرني أن معظم السائحين يسألون عنه منذ عرض هذا الفيلم، وأنه يسكن بالقرب من الفندق، فابتسمت حيث سأحقق واحدة من أهدافي لزيارة بالي.
 منتجع "سابوليدي فيلا" حاصل على ثلاثة نجوم، لكن في الحقيقة هو يرتقي لمراتب الجنان، فهو عبارة عن فلل منفردة في قلب مزارع الأرز ومصمم بحيث تشعر أنك تسبح على السحاب وسط اللون الأخضر وخرير الماء يأتيك من كل جانب، بينما أصوات الضفادع والحشرات تعزف مقطوعة صاخبة ولكنها بالنسبة لي كانت راقية وعالمية، وربما تحققت لي أمنية جديدة من أمانيّ الرومانتيكية في الحياة، أن أعيش في بيت زجاجي يطل من كل جوانبه على الماء والأشجار، حيث كانت غرفتي زجاجية مسدلة على جوانبها الستائر، فلم يكن مني سوى فتح كافة الستائر فيما عدا أثناء النوم لأستمتع بكل هذا الماء والمساحات الخضراء.
يوم للحيوانات فقط
تشتهر أبود بالكثير من المزارات والأنشطة السياحية، بدأتها بزيارة حديقة حيوانات بالي ومن ثم الذهاب إلى غابة القرود. الأمر ليس خيالياً أبداً، فإن كنت تمتلك قلباً ينتمي إلى القرية ستنعم بحوار رائع مع الحيوانات المختلفة في الحديقة، والتي توفر متعة ركوب الفيل ليسير بك وسط الغابات الطبيعية داخلها. كان ركوب الفيل هو هدفي الأول وربما الأخير من زيارة الحديقة لجهلي ربما بالمتع الأخرى لمشاهدة الحيوانات هناك، لما يختلف كثيراً عن حيوانات حديقة الجيزة.
لم يكن في ركوب الفيل أي خطورة، فهم يقيمون ما يشبه المحطة التي تصعد إليها ومن ثم تعتلي ظهر الفيل، ليتهادى بك وسط الأشجار فلا تملك سوى الابتسام كطفل صغير وتحزن لأنك نسيت شراء بعض البالونات لتقبض على خيطها بيدك وأنت فوق الفيل الذي لا يضايقه وجودك فوق ظهره، فيتوقف كل خمسة دقائق ليأكل من نباتات الحديقة وهو مرح مستبشر بجمال الحياة.
بعد أن انتهت رحلتي مع الفيل هبطت لأمرح مع باقي الحيوانات، خاصة البغبغانات المتوفرة بكل الألوان والتي تجري معك حواراً عاطفياً ملهماً، خاصة تلك البغبغانة البيضاء التي تواصلت مع روحي فور وقوفي أمامها وأخذت تمد لي قدمها لتداعب أصابعي وتُحني رأسها لأمسح عليها، لا أبالغ عندما أقول أنني انتزعت نفسي من أمامها بصعوبة وملأت عيناي الدموع وكأنني أفارق صديقة غالية بعدما أوصيتها بأن تحاول ألا تنساني كما لن أنساها عمري كله.
الممتع أيضاً كان دخولي إلى ساحة الغزلان حيث قابلت شبيهة الغزالة "بامبي" الشهيرة في أفلام الكارتون، ومنحني الحارس بعض الأوراق الخضراء لإطعامها، ليخرج إلي فجأة كانجرو وابنها الصغير لتأكل أيضاً، إضافة إلى مجموعة من الجديان والماعز التي اعتدت على الذهاب بصحبتها إلى مدرستي الابتدائية في مدينتي الفشن بمحافظة بني سويف. طقس إطعام الحيوانات جد مفرح فهو يقدمك إلى الحياة بقوة ويمنحك عاطفة لا يمكن أن يمنحها إليك إنسان.
الذهاب إلى غابة القرود كان وجهتي التالية لليوم. وبالفعل لم أتمكن من فهم كلمة غابة القرود قبل أن أزورها، فأنت بالفعل تذهب إلى القرود في عقر دارهم، وبالفعل أنت ضيفاً مرحب بك هناك، فالقرود تستقبلك وأنت على البوابة وقبل حتى قطع تذكرة الدخول. لا مجال للخوف منها وبإمكانك إطعامها، لكن عليك أن تستعد لأن تتسلق ظهرك وتصعد فوق رأسك وهي تتناول الموزة التي تحاول أن تعطمها إياها. طقس مبهج ومخيف في نفس الوقت والقرد يعتلي رأسك مستريحاً وهو يتناول الموزة في استمتاع كبير.
القرود تسير جوارك وتطالبك بأن تلتقط لها صوراً وهي تمنحك بعض (البوزات) الخاصة بموديلات التصوير العالمية، وطبيعي جداً أن تلاحظ قرداً حزيناً ينتحي جانباً وراء عمود أو شجرة وهو جالس القرفصاء يفكر ولا يرغب في قطع حبل أفكاره، كما أنه من الطبيعي أن ترى أسرة مكونة من أب وأم وأطفال صغار تسير مجتمعة، بينما الأب يجري وراء الشقي ليعيده إلى جوار أمه، وغالباً ستشهد مسابقات سباحة بين القرود في البركة، أو سباق استعراض قوة لمهارات التعلق فوق فروع الأشجار والعدو عليها ومن يقع يكون مجالاً لسخرية أقرانه. عالم موازٍ آخر يسحبك لملكوت الله الواسع من الصعب أن تنتزع نفسك من بين أصابعه، لكن دائماً هناك وقت للرحيل.
التجديف وسط الشلالات
قبل السفر إلى بالي أوصاني احد الأصدقاء بأن لا أفوت أبداً رحلة الـ Rafting وبالطبع نظراً لأنني لم أولد في طبيعة تحوي شلالات، لم أشعر بالراحة تجاه تنفيذ وصيته، لكن الإعلانات المتعددة عن هذه الرحلة ومتعتها جعلتني أُشجع نفسي للقيام بها وأنا أقنع نفسي بأن إجادتي للسباحة وممارستي للرياضة عموماً سوف تسهل علي المهمة، وبالفعل ذهبت في اليوم الثاني لحجز الرحلة والقيام بها. خرج معي المرشد الخاص والذي سيقود القارب المطاطي وبدأ بتعليمي كيفية التجديف في المياه، حيث علمني الطريقة الصحيحة للإمساك بالمجداف ومتى أجدف للأمام وللخلف ومتى أتوقف تماماً، وأكد علي ضرورة التوقف عن التجديف جوار الصخور التي تعترض مجرى المياه.  ارتديت السترة والقبعة الواقية وحملت المجداف وسرت وراء المرشد الذي أخبرني أننا سنهبط 400 درجة حتى نصل إلى مجرى النهر، وبالفعل بدأنا الهبوط بينما تجوارنا الأشجار الباسقة على الجانبين وأنا أسمع خرير الماء يعزف مقطوعته الهادئة ليبعث في داخلي الطمأنينة والرهبة في نفس الوقت. بمجرد أن بلغنا مجرى النهر قام المرشد بتجهيز القارب ووضع كاميرتي داخل حقيبة مطاطية ثم ربطها بمقدمة القارب، الذي قفزت إليه وبدأنا رحلتنا بين مياه الشلالات الهادرة والمشوقة. لا أنكر أنها رحلة مرهقة لكنها ممتعة جداً خاصة عندما ينزلق القارب بقوة من ارتفاع إلى آخر فوق الصخور، وتعجبت من نفسي أنني لم أصرخ بل أخذتني الحماسة واعتبرت نفسي بطلة في فيلم مغامرة داخل الشلالات وبين الأدغال، وهو أمر يبعث القوة في النفس ويحفز على خوض أصعب مشاكل الحياة بيسر شديد. بعد أن انتهت رحلتنا اضررنا لصعود 300 درجة في مكان آخر من النهر، ولكنها كانت حديثة فكان الأمر أكثر يسراً من النزول.
كان هذا اليوم مخصصاً للأنشطة المائية بحق، فبعد الانتهاء من الرافتنج، ذهبنا إلى "النبع المقدس" وهو عبارة عن نبع مرصوص على جانبه 14 صنبوراً مائياً مصمماً بشكل تراثي يحمل وجوه الآلهة في بالي، وعلى كل شخص أن يرتدي "سارون" مخصص لذلك لينزل إلى النبع ويبدأ في المرور على الصنابير ومن ثم الدعاء والتطهر في المياه المقدسة المنهمرة منه، وقد قمت بالفعل بارتداء السارون والنزول للنبع ومن ثم المرور على الصنابير للقيام بالطقس كاملاً. عرفت بعد ذلك أن هذا النبع هو مصدر المياه المقدسة التي يرشها الكهنة على المصلين في المعابد وكذلك على القرابين اليومية التي يتم توزيعها في كل مكان.
معابد وآلهة
معبدا طامان أيون و جونوم كاوي، هما المعبدان الكبيران في أبود، الأول متواجد وسط المنازل والآخر موجود جوار الشلالات، وكل منهما يختلف في تصميمه عن الآخر، فطامان أيون مصمم بالشكل المتعارف عليه للمعابد الهندوسية، أما جونوم كاوي فهو منحوت داخل صخور الطبيعة المجاورة للشلالات وتحميه الأشجار المرتفعة وتخفيه عن العيون.
ذهبت بعد ذلك لمشاهدة البركان سبب الأزمة، لكنني لم أستطع البقاء طويلاً نظراً لكثافة الدخان الذي يقذفه ولكني التهمت (كوز درة مشوي) أمامه على الكورنيش قبل أن أغادر.
يؤمن أهل بالي بآلهة هندوسية شهيرة، وتحديداً ثلاثة آلهة هي براهما وسيوا ووسنو الذين يشكلون باتحادهم الأووم أي التوازن في الحياة، أما الإلهة ساراسواتي فهي زوجة براهما وهي المسئولة عن الخير في الحياة، وهي وبراهما أنجبا جانيشا إله الحظ. توجد آلهة أخرى في بالي لكنها ثانوية.
التسوق في أبود
 التسوق في أبود أرخص وأكثر متعة من سيمنياك، من الأشياء التي أوصي بها؛ شراء الصابون الطبيعي والبخور المشهور هناك باسم (دوبا)، وكذلك القيام بعمل جلسة تدليك بالصخور الساخنة وتجربة تنظيف القدمين من خلال سمك الفيسبا المنتشر في كل الشوارع، فقط عليك أن تخلع حذائك وتضع قدميك في أي وعاء زجاجي ممتلئ بالفيسبا، لتبدأ الأسماك بدورها وهو أكل الجلد الميت في القدمين، وهو رائع جدا وإن كنت ستشعر وكأن تياراً كهربائياً خفيفاً يسري في قدميك أثناء عمل السمك. وبالطبع لا تنسوا شراء الفساتين والجواكت الكورشيه، التي ستحصلون عليها بأسعار لا يمكن تصديقها أبداً مقارنة بمصر،  فلقد حصلت على جاكت كورشيه بأكمام طويلة بسعر لا يزيد عن مائة جنيه، وكذلك شراء الفضة سواء كانت أقراط أو قلائد أو أساور، حيث بالإمكان الحصول على قطع ذات تصميم مختلف عما اعتدنا عليه وفي نفس الوقت جميل بأسعار رخيصة جداً، حيث أنه من أهم ما يشتهر به الباعة في أبود أنهم يبلغونك صراحة بأن من حقك الفصال معه حتى الوصول للسعر المناسب لكليكما، وبالفعل هم مرنون جدا في التعامل مع الفصال ولا يغضبون ويخبرونك بصراحة أنهم لن يستطيعوا التخفيض عن حد معين وهو هامش ربحهم، ما يشجع على التسوق خاصة وأنهم يقدمون بضائع مشجعة  على الشراء.
العراف كيتوت ليار
كيتوت ليار هو الاسم الكامل لعراف " طعام، صلاة، حب" وهو يقطن في منزل كبير تقيم فيه عائلته ويمارس فيها مهنة الطب الطبيعي وكذلك قراءة الطالع من خلال "الكف"، ذهبت إليه لأحظى بمقابلة بطل يخرج من بين سطور كتاب أحببته، لكن للأسف كان مريضاً وملازماً الفراش، وأخبرني ابنه أنه رجل تجاوز المائة من عمره وأصبح ضعيفاً جداً وأنه بإمكانه قراءة كفي بنفسه حيث ورث المهنة عن أبيه، لكنني اعتذرت له أنني لا أومن بقراءة الكف وإن كنت أتمنى أن يسمح لي بالتجول في المنزل وتصوير المكان الذي يجلس فيه كيتوت ليار، وهو ما فعلته بعدما سمح لي.
عدت إلى فندقي لأستمتع باللحظات الأخيرة لي وسط جنة بالي، حيث كان علي أن أجمع أغراضي والمغادرة إلى مطار ناجوراه راي في اليوم التالي مبكراً. في المساء أغلقت كل الأنوار وصليت في الخارج شاكرة الله على كل هذا الحب الذي منحني إياه في بالي، فالحب لا يقتصر على عشق رجل أو امرأة وإنما يتسع ليشمل كل ذرة خلقها الله ليزين بها أرضه، وبالي تحوي الكثير من جمال الله. لقد عثرت على الحب فعلاً هناك .... حب الحياة.