الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

صحراء منهاتن .. رواية تسطر بحرفية تداعيات حقبة التسعينيات وتراهن على الزمن

(صحراء منهاتن) رواية صدرت عن دار الدار في أول هذا العام 2017، للكاتب أيمن نيازي، الذي فيما يبدو وضع فيها تجربته الأدبية كاملة، حيث أنه ينتمي إلى جيل التسعينيات، لكنه لم يخض غمار الكتابة الروائية قبلها، ووفقاً له؛ فهي قد احتاجت إلى ثلاث سنوات حتى ينتهي من الكتابة الأخيرة لها.

تعتبر هذه الرواية من الروايات القليلة جداً لحد الندرة، التي تتناول فترة التحولات السياسية والاقتصادية العالمية، والتي بالطبع أثرت على الواقع العربي، وفرضت آليات جديدة للتعامل مع قضاياه العروبية، وبالطبع القضية المحورية التي تكاد أن تكون أزلية الآن ( القضية الفلسطينية)، ومنذ ذلك التحول الاجتماعي العربي من مدني حداثي إلى أصولي ديني، مع ظهور وتصاعد قوي الإسلام السياسي في السبعينيات التي دَيَنَت القضايا العربية التحررية، وحولتها من التحرر من الاستعمار الأجنبي للوطن، إلى التحرر من السيطرة الصليبية أو ( النصرانية الغربية) للبلاد والشعوب الإنسانية.
لم يغرق أيمن نيازي في أسر النقاش السياسي على حساب الدراما في الرواية، بل استطاع بمهارة تُحسب له أن يضفر التاريخ السياسي لتلك الحقبة التاريخية القريبة مع الأحداث الدرامية والشخوص ما بين أبطال وأشخاص ثانوية. ولا يمكن لقارئ الرواية أن يشعر أبداً أنه وقع في فخ المعلومات الغزيرة التي تقدمها الرواية، أو يرتبك في الربط ما بين تلك الأحداث وعلاقتها بالأبطال، فالدراما في الرواية بدأت من الصفحة الأولى وبدأ معها السرد المعلوماتي أيضاً، بحيث سارت الأحداث السياسية مع سير الشخصيات الروائية في خطين متشابكين طوال العمل، ليجد القارئ نفسه مع آخر صفحة أنه قرأ كتابين متعانقين بدلاً من كتاب واحد، الأول تاريخي سياسي لأحداث المنطقة منذ السبعينيات مع التركيز بالطبع على عقد التسعينيات، والثاني حكاية الأبطال أو الشخصيات المحورية في "صحراء منهاتن" أمل وحازم وبطل الرواية أو السارد الرئيسي فيها، الثلاثة الذين يمثلون جيل التسعينيات بالرواية، والذين كانوا انعكاساً حقيقياً لتأثير معركة قتل الوطنية العروبية طوال عشرين عاماً سابقة على مرحلة شبابهم (السبعينيات والثمانينيات).
لا يفرد أيمن نيازي أو يغرق في تفاصيل الأحداث التي مرت على جيل الآباء للشخصيات المحورية باعتبارهم سبباً رئيسياً في تحركات وتوجهات الثلاثة، لكن برشاقة ملحوظة في السرد والقفز ما بين الأحداث التي شملت عقوداً تصل إلى الأربعة، قدم خلفية سريعة لوالدي كل من حازم وطارق وأمل، وتمكن من بداية الرواية أن يغزل قماشة واسعة جداً يمكنه من خلالها أن يسرد تفاصيل كثيرة لأحداث مثيرة مع شخوص عديدة جداً، لا يمكن معها أن تتوه أو تفقد خيطاً بالدراما، بل على العكس ظهرت كل تلك الشخصيات وكأنها أبطال، وكانوا بالفعل فاعلين ومحركين للأحداث.
أنت مع أيمن نيازي في روايته الأولى "صحراء منهاتن" ستنتقل عبر البلاد من مصر إلى المملكة العربية السعودية إلى أفغانستان ثم السودان وفلسطين المحتلة وفلسطين السلطة وحماس والولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه سيأخذك إلى أماكن أخرى أيضاً بشكل خاطف وسريع مثل فييتنام، وكل ذلك دون تشتيت للقارئ، ودون أن تشعر أنك تهت في أحداث لا لزوم لها.
لا أدري لماذا اختار نيازي اسم "صحراء منهاتن" تحديداً للرواية، ولكن ربما لأن بطل الرواية أو السارد الرئيسي لها، الذي كان بطلاً مركزياً نرى من خلاله الأحداث، استقر في النهاية بالولايات المتحدة وتحديداً في نيويورك بحي منهاتن، وربما أيضاً لأن نيازي يطرح وبثقة فكرة أن الولايات المتحدة، سبباً رئيسياً وربما المسبب الوحيد لصناعة التطرف الديني الإسلامي، وبالتالي تدمير وضياع مصائر بلاد كثيرة بما فيها هي شخصياً مع تفجير برجي التجارة العالمين عام 2001.
يتعدد صوت الراوي في الرواية، رغم أن لدينا راوي رئيسي وهو البطل الرئيسي، العقل المفكر الوحيد في ثلاثي التسعينيات، فهو الوحيد الذي لم ينجر وراء الشعارات الدينية أو الوطنية دون تفكير، ومنذ طفولته وهو يبصر ما يحدث حوله بدقة ويترجمه إلى تحليلات منطقية ساعده عليها أمه الناصرية القومية المتعصبة ثم أشخاص آخرون كان آخرهم الدكتور جلال أستاذه في الجامعة الذي قدم له منحة دراسة الدكتوراة في نيويورك، لكن هناك أيضاً صوت آخر لراوٍ عليم بكل شئ، يحكي خلفيات وقصص الآخرين، وربما يكون هو نفسه "البطل" ولكن من الصعب الجزم بذلك، حيث أن "البطل الرئيسي" مثلاً لم يكن شاهداً على أحداث عشق الدادة لعدنان في رام الله عندما كانت في مراهقتها وهو لم يأت إلى الحياة بعد، أو يروي قصة العلاقة الثلاثية المشبوهة بين السيناتور وليام وديفيد اليهودي والزوجة العشيقة في نفس الوقت.
بذكاء شديد يقدم نيازي قناعاته بأن التطرف الديني ليس إسلامياً فقط، بل هو مسيحي ويهودي أيضاً، ويقدم دلائلة من خلال الدراما على أن التطرف الإسلامي كان ومازال الأعلى صوتاً في العالم لأن أمريكا والقوى الغربية يدعمونه بالمال والسلاح لتحقيق أهدافهم سواء في المنطقة العربية أو في بلاد أخرى مثل أفغانستان للقضاء على التواجد الروسي هناك.
ومن اللافت للنظر أيضاً أنه لم يغفل إلقاء الضوء على سيطرة الرجل الأنجلوسكسوني الأبيض على مقدرات العالم الاقتصادية والسياسية منذ الاستعمار الأوروبي للمنطقة والعالم بداية من القرن الثامن عشر، والذي مازال مستمراً وممتداً وتتحرك بإرادته كل مصائر الكرة الأرضية حتى الآن، مع الإشارة البسيطة لأن عالم هذا الرجل الأبيض على وشك أن ينهار بإفصاحه في نهاية الرواية لأن ابن السيناتور وليام هو الابن الطبيعي لعشيق زوجته اليهودي، وكذلك بقرار توم الابن أن يتزوج من الفتاة الفيتنامية التي يحبها رغم عن إرادة والده الذي قالها صراحة؛ بأنه يمكنه العبث مع الفييتنامية لكن عند الزواج يجب أن يتزوج من كاثوليكية بيضاء.
ما بين جهاد حازم الذي وقع في براثن الجهاديين منذ دراسته في الجامعة، فأمضى حياته بين أفغانستان والسودان واليمن ثم أمريكا في النهاية لتفجير البرجين، وبين أمل ابنة القيادي في حماس حسن الزهار والسيدة المصرية المنحدرة من أصول أريستوقراطية زائلة، والمتخبطة بين الاسلامية والعروبية لفلسطين، وبين "البطل الرئيسي" الذي اختار ألا يكون فريسة لكل هؤلاء حتى والده الذي وقع أسير الحياة الرغدة بالعمل في الخليج وأمه التي ظلت متشبثة بعشقها لعبدالناصر وفكره القومي، نتنقل بين أحداث الرواية، التي تسطر نهاية درامية متميزة جداً، فبرشاقة يُحسد عليها فعلاً أنهى خيوط روايته المتشابكة بالشخصيات والأحداث في أربع صفحات فقط، حيث وضع نهاية لكل الأبطال بالرواية بما فيها الشخصيات الفرعية، بالتنقل بينهم جميعاً ورسم نهاية مصائرهم، كنوع من الهذيان وكأنه يعلن بصوت صارخ في الوجوه موت أوطاننا، والعبث الذي نعيشه الآن دون معنىً مفهوم لقيمة وجودنا على أرض لم نعد نعرف؛ هل هي أوطاننا فعلاً؟ أم أوطان الغرباء؟

رواية " صحراء منهاتن" رواية تستحق القراءة عن جدارة، فبين الكثير من الأعمال الأدبية التي تعبر دون أن تترك أثراً، يقف أيمن نيازي بروايته الأولى الناضجة جداً، في مكان له وحده، مقدماً عملاً أدبياً  لن يغفله الزمن بالتأكيد. 

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

الأوركسترا يفتتح مهرجان الموسيقى العربية بتجربة خاصة تحتاج إلى تطوير

لا أستطيع أن أقول؛ إن تكوين أوركسترا بهذا الحجم من أجل تقديم مؤلفات عربية يُعد الأول من نوعه في مصر والمنطقة، فلقد شهد مهرجان الموسيقى العربية في دورات سابقة له العديد من الأوركسترات التي لعبت مؤلفات موسيقية لمؤلفين مصريين وعرب مصاحبة آلة شرقية كصولو مثل العود، لكنني يمكنني أن أقول إن ما قدمه الأوركسترا وبهذه التوليفة من الآلات الموسيقية في حفل افتتاح الدورة السادسة والعشرين من مهرجان الموسيقى العربية، يُعد عملاً نادر الحدوث في عالمنا العربي، لأننا وببساطة قمنا بالفصل العنيف بين كل ما هو عربي وما هو أوركسترا سيمفوني، فالسيمفونية مستقرة في وجداننا على أنها مُؤلف غربي ومن الصعب التفاهم معها عربياً رغم محاولات العديد من المؤلفين الموسيقيين المصريين والعرب تقديم مؤلفات سيمفونية، لم تحظ بالترحاب الكافي، ربما لأنها حاولت الدمج بين مفهوم الموسيقى الغربية ومفهوم الموسيقى الشرقية، ما كان غريباً على أذن حتى المهتمين والمتابعين.

مؤخراً برزت الموسيقى التصويرية الخاصة بالمسلسلات والأفلام، كمتنفس وحيد للمؤلفين الموسيقيين العرب، يقدمون من خلالها أفكارهم الموسيقية، وربما كان الراحل الكبير عمار الشريعي والموسيقار عمر خيرت، أبرز من حمل لواء هذا المسار ونقله إلى خشبة المسرح، ليكون شكلاً متناغماً يجمع بين رضا الجمهور والإطار العام لما هو معروف موسيقياً بالسيمفونيات.
عندما ذهبت إلى حفل افتتاح الأوبرا لحضور الأوركستر الذي تم تكوينه خصيصاً من أجل تقديم مؤلفات الموسيقيين العرب للدراما، تخيلت أنه سيتم العمل على تكوين مؤلف متعاشق لمجموعة من مؤلفات كل موسيقار، ليتم عزفها بشكل أشبه بالسيمفونية الكاملة، وذلك كان هو الوضع الأمثل أو الذي نحتاج لأخذ خطوة شجاعة لتنفيذه، لكن ما حدث هو تقديم عدداً من الموسيقات الخاصة بمجموعة من المسلسلات بشكل منفرد لكل مُؤلف موسيقي، وهو في رأيي الأمر المعتاد والذي لا يمثل إضافة كخطوة مستقبلية على طريق تطوير وتحديث القوالب الموسيقية العربية والتي وصلت حالياً لنوع من أنواع التشبع والجمود.
رغم ذلك جاءت التجربة مميزة ولم تخلو من النقاط الإيجابية التي تُحسب لهذا المجهود المميز، فلقد تم تقسيم العمل الموسيقي ككل إلى أقسام درامية، وربما في رأيي جاءت على عكس فكرة التصاعد الدرامي، حيث بدأ الأوركسترا بعزف المؤلفات التي تُجسد قمة الصراع أولا، والتي لعب بطولتها بامتياز المؤلف الموسيقي الكبير رعد خلف، الذي تم لعب ثلاث مقطوعات له هي : (مسلسل نابليون والمحروسة، ومسلسل مشرفة رجل من هذا المكان، ومسلسل حرب الجواسيس الذي تم دمجها  مع موسيقى مسلسل عابد كرمان).

وفيما عدا موسيقى مسلسل "مشرفة رجل من هذا الزمان" والتي كانت ناعمة وهادئة ومكتوبة للآلات الوترية بشكل خاص حيث لعب فيها الكمان والفيولا دوراً رئيسياً مع خلفية خافتة للتشيلو والكونترباص، تأتي باقي المؤلفات لتُعبر بقوة عن عقلية رعد التي تضج بقوة نبضات الحياة في قمة صراعها، فأنت أثناء مشاهدتك للأوركسترا وهو يعزف مقطوعة مسلسل "نابليون والمحروسة"، ستتوه عينيك بين الحركات الديناميكية الضاجة بالسرعة والتوتر المتصاعد لكل الآلات الموسيقية على المسرح، فلم يكن لآلة واحدة منها مجال للسكون والكمون، بل كان لكل واحدة دور مهم، وبدون صولوهات، فبأسلوب بوليفوني عالي الاحترافية جعل رعد الأوركسترا يعمل كخلية نحل مخضرمة، فالأوركسترا يستقبلك ودون سابق إنذار بقرعات قوية من آلة "التيمباني" الضخمة وعلى غير المعتاد يلعب "الباص درام" دوراً بارزاً بينما تقدم آلات النفخ جميعها (فلوت – ترومبيت – ترومبون – كورنو – فرنش كورن – فاجوت – أوبوا – باستوبا) حواراً منحوت الملامح ويمكن تمييزه بوضوح. هكذا كانت البداية التي خطفت آذان الحضور وحبست أنفاسهم لتضج القاعة بالتصفيق في النهاية.
جاءت موسيقى مسلسل "الكابوس" للمؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا في نفس الوقت الدكتور أحمد عاطف كفاصلة بين موسيقى رعد خلف وموسيقى الموسيقار التونسي الشاب أمين بوحافة، حيث تميزت الموسيقى بدور بارز لآلة الفيولا التي لعب الصولو الخاص بها دكتور أحمد عاطف بنفسه حيث انه صوليست هام ومرموق في مجاله، وكان صولو الفيولا الذي تكرر مرتين هو أبرز ما في المقطوعة.
يأتي بعد ذلك التصاعد الدرامي المعكوس لعمل الأوركسترا، حيث بزوغ المشكلة أو الحبكة الدرامية للعمل الموسيقي الشامل ، وقدمه بامتياز الموسيقار التونسي أمين بوحافة من خلال الموسيقى التي وضعها لأربعة أعمال درامية هي (جبل الحلال و جراند اوتيل ولا تطفئ الشمس و حارة اليهود)، والتي كانت الغلبة فيها للوتريات مع دور بارز لآلة البيانو وبدء ظهور صوت آلة الهارب، وبالطبع لعب على البيانو أمين بوحافة بنفسه على آلة بيانو خاصة تم إضافتها إلى المسرح أثناء عزف أعماله، إضافة إلى آلة الأوكرديون بشكلها الحديث المتمثل في كي بورد موصل ببوق نفخ عن طريق الفم، قدم بوحافة من خلال مزجه مع البيانو مهارة فائقة في العزف.
نعومة مقطوعات بوحافة شكلت وحدة متكاملة لم يشعر معها المستمع أنه ينصت إلى مقطوعات مختلفة، إضافة إلى صولو التشيلو الذي لعبه محمود صالح والذي أضفى شجناً وصوتاً رخيماً معتقاً للمقطوعات الموسيقيى التي عبرت بصدق عن الصراعات النفسية الداخلية المكتومة للإنسان.

كانت المقطوعات الموسيقية السابقة بالحفل فيما عدا "الكابوس"، قريبة أو متسقة أكثر مع الروح الموسيقية الغربية حيث لم تلعب فيها الآلات الموسيقية الشرقية التي كانت موجودة على المسرح (ناي،عود وقانون) دوراً يُذكر وربما اختفى بعضها تماماً مثل القانون والناي، لكن الموسيقار المصري تامر كروان أعاد معنى الموسيقى الشرقية المتطورة بمعناها الحرفي الشجي إلى الأوركسترا، من خلال مؤلفاته لمسلسلات ( ذات، سجن النسا، واحة الغروب)، حيث انضم إلى الأوركسترا عازفان لآلتين إيقاعيتين شرقيتين هما الرق والدف، واستطعنا أن نسمع بوضوح صوت العود والقانون، بينما ارتدت الوتريات جلباباً شرقياً فخماً أضاف زهواً محبباً على الأوركسترا وجذب آذان المستمعين على مقاعد الجمهور، خاصة عندما شدا المُطرب الغول وائل الفشني أغنية واحة الغروب، والذي أبهر بها الجميع حيث صوتاً فخماً يتلاعب بالمقامات ويصعد ويهبط على الطبقات الصوتية بانسيابية مبهرة.
وكما يقولون ختامه مسك، جاءت مؤلفات الموسيقار المصري الكبير راجح داوود من خلال موسيقى تتر مسلسل "هوانم جاردن سيتي" والتي غنت أغنيتها نهال نبيل. بعد ذلك  انضم إلى الأوركسترا (الكبار) من الصوليستات وعلى رأسهم الدكتورة إيناس عبد الدايم على الفلوت وهاني البدري على الناي، بينما لعب الكلارينت عمرو إمام والتشيلو محمود صالح، والبيانو والأورغن محمود مخيمر، والعود محمد عرفة، بينما قدم الأداء الصوتي سيد إمام، وذلك لمتطلبات المزج الموسيقي الرائع لمجموعة من مؤلفات الموسيقار راجح داوود وكان من بينها البسكاليا الشهيرة خاصته، حيث المعنى الحقيقي للموسيقى السيمفونية الشرقية والتي ربما يتفرد بها داوود وحده على الساحة العربية الآن حسب معلوماتي الخاصة.

ومن أكثر المزازيك الملهمة التي وضعها داوود في مؤلفاته؛ الحديث الرائق للفاجوت والعود، وكذلك الجدل الحاد الناعم بين آلتي النفخ الشرقية والغربية الفلوت (إيناس عبد الدايم) والناي (هاني البدري)، لينضم إليهما في الجدل القانون ويُشكل الرق والدف ظهيراً شعبياً زاهياً لهم في الخلفية، فمما لا شك فيه أن راجح داوود من أميز المؤلفين الموسيقيين الذين قاربوا في مؤلفاتهم بين الآلات الشرقية والغربية حيث أثبت أن بإمكانهما التفاهم والتحاور بتناغم.
وفي لفتة هامة تُعبر عن أن الفن الراقي المُعبر عن حركة التنوير العربية لا يتم إلا تحت لواء مصر، انتهت الحفل بعزف رشيق وخاطف لأغنية "اسلمي يا مصر"، التي لحنها الراحل صفر علي وصاغها أوركسترالياً الموسيقار الكبير راجح داوود.

تم نشر المقال في جريدة القاهرة الثقافية 7 نوفمبر 2017 


الأحد، 12 نوفمبر 2017

"الجلسة – شغل عفاريت" .. نص مسرحي تقليدي مُقَدَم بحرفية بالغة المهارة

مع رفع لافتة كامل العدد استطعت بمعجزة أن أحصل على مقعد إضافي داخل قاعة صلاح عبد الصبور في مسرح الطليعة، كي أتمكن من حضور مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت"، ولا يمكنني أن أقول أن هذه حالة نادرة الآن في عروض البيت الفني للمسرح، والذي تشهد خشباته مؤخراً نشاطاً ورواجاً بين صفوف الجماهير من عشاق المسرح، الذين استطاع الجيل الجديد من الفنانين المسرحيين تحت قيادة متميزة، جذبهم وإعادتهم إلى مقاعد مسارح الدولة.

مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت"، من تأليف وإخراج الفنان مناضل عنتر الذي يتميز برؤاه المسرحية المعاصرة، حيث جمع هذه المرة بين عناصر المسرح التقليدي والرقص المعاصر، في عرض يمكن لنا وصفه بالحالة المسرحية المغايرة لما هو سائد على الساحة، حيث ينجذب المشاهد بشدة لوتيرة المسرحية المتسارعة والموترة من أول مشهد لها، فلا يسمح له مناضل ومجموعة الفنانين المشاركين في العرض أن يلتقط أنفاسه دقيقة واحدة، فيكون من الطبيعي جداً أن تجد مشاهداً قد نهض من مقعده واضعاً كفية فوق رأسه من شدة الإثارة والترقب لفك طلاسم هذا العرض الذي يقوم على فكرة الصراع بين الإنسان والشيطان داخل حلبة السباق المحمومة والمفروضة على كليهما منذ بدء الخليقة.

تختلط الأفكار داخل المحتوى العام للسياق الدرامي بالمسرحية، فبين فكرة الجن غير المرئي والذي يتلبس الإنسان، وفكرة الاستعانة برجال الدين (مسيحي ومسلم) لتخليص الإنسان من هذا اللبس، يغرس مناضل الأفكار التي ربما تختلط في رأيه هو شخصياً وتجسد لديه صراعاً فكرياً، ويبدو هذا ملحوظاً في الخلط بين النصوص المقدسة وتراث الشخصيات الأسطورية الشعبية مثل "أمنا الغولة"، والشخصيات المقدسة داخل التوراة مثل ليليت والإنجيل مثل ماريا المجدلية، التي افترض مؤلف النص أن كل امرأة تولد من نسل ماريا مُعرضة لإغواء الشيطان واللبس، وبالتالي تأتي شخصية بطلة العرض الذي لعبت دورها باقتدار بليغ الجمال والقوة الفنانة إيمان غنيم، حيث فتاة مسيحية تقع تحت سطوة الجن فتعيش في أرق وقلق دائم يُغرقها في الإحساس بالغربة والتمعن في الوحدة واعتزال الناس.

يطرح النص أفكاراً تراثية مثل أن الفتاة التي تستغرق وقتاً طويلا في مطالعة نفسها في المرآة، تتعرض لإغواء الشيطان وأسره ومن ثم الوقوع في الرذيلة، كما يضع بعضاً من الأفكار الفلسفية الحداثية مثل نفي وجود شخصية الشيطان حيث أن فكرته موجودة داخلنا بالأساس، أو أن الفتاة ليست ملبوسة ولكنها مريضة نفسياً وتحتاج إلى العلاج النفسي وليس رجال الدين، على لسان شخصية الشيطان التي تفنن في أدائها بحرفية مسرحية عالية الفنان طه خليفة، كما يطرح فكرة تعرض رجال الدين أنفسهم وهم يصارعون الشيطان للوقوع تحت سيطرته حيث لا عاصم للإنسان سوى إرادته وقوة إيمانه.
حالة من الجدل التقليدي الخاص بفكرة اللبس وضعف الأنثى تحديداً أمام إغواء الشيطان، تم تغليفها بثوب مسرحي حديث، إضافة إلى السفسطة العقائدية بين الشيخ والقسيس الذي يتعرض كل واحد منهما للإغواء والاختبار في إيمانهما، لكن مناضل عنتر يأبى أن يجعلهما صيداً سهلاً للشيطان، حيث يتخلصا سريعاً من تأثيره ويفيقا لنفسهيما ناهضين مرة أخرى بقوة للبحث عن منفذ وحل داخل نصوص الدين والتراث لإنقاذ الفتاة، بين عدد لا حصر له من المحاورات بين الشيطان الأكبر ومساعديه وبين رجلي الدين المسيحي والإسلامي حول الشر الذي ينتصر دائماً بإسقاط الإمبراطوريات والممالك، وهنا يأتي السؤال المهم: وما هي فائدة حصول الشيطان على هذه الفتاة؟ وهو سؤال وجيه لم تقدم له المسرحية إجابة حقيقية وإنما طرح تقليدي يعيد إنتاج أفكار مجتمعية نتمنى الخلاص منها وليس تأكيدها، فالمرأة في رأي مناضل عنتر مازالت هي مصدر الفتنة والإثارة بجسدها المُشكلة ومن خلالها يمكن إفناء الأرض باستغلالها في إغواء الرجال، وهذا في رأيي لا يختلف مهما تم تغليفه بعناصر مسرحية حديثة عن أي طرح وهابي متطرف سائد في مجتمعاتنا العربية، ولا أدري أيضاً لماذا كان يجب أن تكون الفتاة الملبوسة بالجن مسيحية، فليس من الضروري أن تكون حفيدات ماريا المجدلية كلهن مسيحيات، إضافة إلى أنه من المفترض أن استخدام شخصية المجدلية استخداماً رمزياً لعملية التحول من العصيان إلى الإيمان.

استخدام شخصيتين لرجلي دين يمثلان الدينين الرسميين بمصر كان في رأيي نوعاً من السذاجة الفكرية أشبه بصور التقبيل والمصافحة بعد كل حادث إرهابي بين ممثلي الدينين في مصر، فلقد كان يكفي أن يمثل الدين في المسرحية شخصية واحدة تتحدث بمنطقه دون تحديد الكتاب المقدس الذي يتبعه، فمع استخدام شخصية ماريا المجدلية وربط فكرة أن حفيدتها مسيحية ظهر دور الشيخ باهتاً بلا معنى بينما دور القسيس أكثر قوة في تجسيد الصراع بين الشيطان والدين.
لا يمكنني أن أنكر أنه على تقليدية الفكرة واستخدامها لرموز أكثر تقليدية، خرج النص مكتوباً بحرفية عالية استطاع من خلال الفنانين أن يحبس الأنفاس في صالة المسرح، لكن لأن محتوى النص تقليدي، خرج أداء الممثلين أيضاً قريباً جداً من الأداء المسرحي الواقعي، فللجن طريقة في الكلام بالتأكيد يجب أن تكون مليئة بالفحيح، وللشر أسلوباً في الحكي والضحك وحتى السير، لكنني أيضاً لا يمكنني أن أنكر أن هذا الأداء التقليدي خرج ممتعاً جداً.
كانت العروض الراقصة بالمسرحية متميزة على أنها تحتاج إلى فضاء مسرحي أكثر رحابة من طبيعة قاعة صلاح عبد الصبور الضيقة والمحدودة، كذلك المكياج والملابس خرجا مناسبين إلى حد كبير لطبيعة المسرحية وطرحها التقليدي لتجسيد فكرة الشيطان حيث الاعتماد على اللونين الأسود والأحمر، ونفس الشئ حدث مع الديكور والإضاءة حيث الشياطين تخرج من أسفل الأرض ولا تتعامل إلا من خلال إضاءات أقرب إلى لون النار. أما الموسيقى فكانت متميزة جداً حيث جمعت بين أغاني الزار التراثية القديمة وموسيقى تحمل الكثير من الغموض والسؤال.
وينتصر مناضل عنتر في مسرحيته "الجلسة" إلى الشر حيث يجعل الشيطان يُغوي الفتاة بقتل نفسها في لحظة مخادعة بقمة الصراع بينه وبين رجلي الدين، فيفوز بحبس أنفاس المشاهدين الذين تسود بينهم حالة صمت ثم تساؤل إن كانت المسرحية قد انتهت؟ ليدركوا الأمر بعد لحظات تمر عليهم وكأنها زمن طويل، بعدها ينهض الجميع من مقعده في وصلة تصفيق لا تنتهي. وربما انتصر مناضل للشيطان بمسرحيته ليدلل في النهاية عدم قدرة الدين على مخاطبة الناس الآن من خلال طرحه التقليدي الذي لا يناسب العصر، لكن هذا الأمر كان بالنسبة لي مثل موجة أفلام المخدرات التي تنتهي بأن مصير المدمن الفناء ولكن بعد أن يعيش حياة حافلة بالاستمتاع واللذة.
مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت" نص مسرحي تقليدي مصنوع بحرفية شديدة المهارة والروعة، ولذلك أتمنى أن يحضره الجميع ولكن بعقل نقدي حيث الاستسلام لطرح المحتوى الفكري للمسرحية مخادع وفي رأيي ينتصر للسلفية على الفكر الحداثي في تناول علاقة الدين بأزمات النفس البشرية والصراع بين الإنسان وتقاليد المجتمع الرجعية الخانقة.
تم نشر المقال في جريدة القاهرة بتاريخ 7 نوفمبر 2017 


الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

"القرصان" عرض باليه يجمع عناصر الجمال الكلاسيكي ممزوج بروح الشرق الأسطورية

"لي كورسير" أو القرصان، هو  في الأصل عرض باليه يُقدم في ثلاثة فصول مع نص أوبرالي محكي، قام بإبداعه كل من جوليوس هنري فيرناي دي سانت و جورج لوسلي مستوحيين النص من قصيدة "القرصان" للورد بايرون. قُدم العرض لأول مرة بشكل متطور على المسرح الإمبراطوري بأوبرا باريس في الثالث والعشرين من يناير عام 1865، لكن كل الإنتاجات الحديثة لعرض القرصان مبنية على العرض المستحدث الذي قدمته فرقة باليه ماستر ماريوس بيتيبا للباليه الإمبراطوري في سان بيتريسبرج بعد ذلك.

ونظراً لأن باليه القرصان يحتوي على العديد من المشاهد الراقصة الاحتفالية ما يجعله محبباً لدى الجمهور على اختلاف العصور، حظى بتحديثات عدة، منها عام 1955 على يد فرقة باليه بيوتر جيوزف التي قدمت نسخة جديدة للقرصان على مسرح مالي للبالية بليننجراد، وفي عام 1973 قدمت فرقة باليه كيروف لقسطنطين سيرجييف نسخة محدثة أيضاً تحتوي على مشاهد راقصة جديدة، ليشهد العرض تحديثاً شاملاً على يد مسرح البلشوي عام 2007، وربما إعادة إحياء كاملة بعد سنين طويلة من النسيان، ليعود ويجوب العالم من خلال فرق باليه أوروبية كانت أولها فرقة الباليه الوطني الإنجليزية عام 2013، وقدمتها فرقة باليه أوبرا القاهرة لأول مرة في الشرق الأوسط منذ خمس سنوات لتعود إلى تقديمها الآن في ثوب مبهر يليق بالمسرح الكبير وجمهوره.
تدور أحداث باليه "القرصان" في منطقة الشرق وتحديداً في أحد الموانئ التي تقع على مضيق البسفور، حيث نشاهد في بداية العرض مع موسيقى تُجسد الصراع، مقاومة القراصنة لعاصفة شديدة تواجه سفينتهم ما يُعرضها للتحطم بالقرب من الميناء. يُعرض المشهد من خلف ستارة شفافة توحي بالضباب وبعد المسافة بين السفينة والمشاهدين في صالة المسرح، لترتفع بعد ذلك ونحن نشاهد مجموعة من الفتيات ينجحن في إنقاذ قائد السفينة "نور الدين"، ومساعده "علي" وبعض الأتباع.

مع بداية المشهد الأول نتعرف على ياسمين وجولنار اللتان تنقذان نور الدين وعلي، فيقع القرصانان في عشق الفتاتين، لكن يظهر فجأة تاجر الجواري أحمد مع العسكر الذين يهجمون على الجمع وينجحون في أسر الفتيات استعداداً لبيعهن في سوق الجواري.
في المشهد الثاني من الفصل الأول يتحول ديكور المسرح إلى سوق كبير للجواري، يعج بالتجار الذين أتوا لشراء الفتيات ومعهم الثري سعيد باشا. حيث نشاهد رقصة العبيد التي أضافها بيتيبا على موسيقى أمير أولدينبرج بيتر جورجفيتش، وصاغها في شكل رقصة ثنائية تعبيرية يعرض فيها أحمد بائع الجواري الفتيات على الأغنياء لشرائهن، وتحتوي الرقصة على حركات شرقية مستوحاة من الرقص الشرقي مع الاستعانة بتنويعات موسيقية شرقية أيضاً.  

الرقصة الثانية بالمشهد الثاني هي رقصة الجاريات الثلاث والتي كانت في الأصل عبارة عن فالس فقط تؤديها جاريات ثلاث على موسيقى أدولف آدم، ثم قام بوجني بإضافة أجزاء موسيقية جديدة لتتحول إلى رقصة ثلاثية تستهل بالفالس ثم يتبعها تنويعات على اللحن الأصلي، وهذه الرقصة تعتمد على أسلوب رقص الباليه الكلاسيكي ولا تحمل أي عناصر شرقية في الحركات أو الموسيقى.
ينجح سعيد باشا في شراء جولنار وقبل أن يشتري ياسمين، يدخل نور الدين والقراصنة متخفيين في زي تجار عرب وينجح في شراء ياسمين، لكنه بعد أن يفصح عن شخصيته الحقيقية لها، تقع مشاجرة كبيرة بين القراصنة والعسكر الذين يساعدون سعيداً في اختطاف ياسمين والفتيات ولكن نور الدين يتمكن من القبض على تاجر الجواري أحمد ويرغمه على اصطحابه لمنزل سعيد باشا.
في الفصل الثاني ننتقل إلى قصر سعيد باشا حيث جناح الحريم المزدان بالثريات والبلورات الرقراقة والستائر المُخملية. يظهر الباشا وهو يحاول استمالة ياسمين له بالإغداق عليها بالمجوهرات في حركات تعبيرية راقصة، لكنها ترفضه ما يثير حفيظته ويترك المكان غاضباً.
مع إظلام خشبة المسرح يتغير الديكور ليقدم حديقة القصر في المشهد الثاني من الفصل الثاني، ونشاهد أحمد وهو يرشو الحرس لفك أسر ياسمين وجولنار وباقي الفتيات، وبعد أن يلتقي نور الدين بياسمين ويقدما رقصة باليه كلاسيكية تُعبر عن الحب الذي يجمعهما، يدخل عليهما سعيد باشا ويأمر حراسه بالقبض على الحبيبين.

المشهد الثالث من الفصل الثاني لا يقدم أحداثاً إضافية، وهو بشكل كبير مُصمم لتقديم متعة متابعة الرقص على الموسيقى الرومانسية الساحرة، حيث نور الدين في الأسر نائماً من التعب ويحلم بنفسه مع حبيبته في حديقة مليئة بالأشجار. هذا المشهد مشهور باسم "الحديقة المسحورة" ويرجع تاريخ تصميمه عندما أعاد مازلييه عرض باليه القرصان في باريس عام 1865، حيث أضاف إليه رقصة جماعية أسماها "رقصة الزهور" على موسيقى ليو ديليب وبعد عام قام بيتيبا بالتوسع في تصميم هذه الرقصة وأسماها مشهد الحديقة المسحورة، ليقوم بوجني بتوسيع فالس الافتتاحية لديليب وإضافة تنويعين جديدين للموسيقى الأصلية.
في المشهد الرابع من الفصل الثاني يستيقظ نور الدين من حلمه الساحر ليجد من حوله رفاقه، وقد استطاعوا أن يحرروه من الأسر، ليدخل سعيد باشا ومعه الحرس ونشاهد معركة راقصة على موسيقى تتسم بالقوة لتوحي بشدة المعركة بين الجميع، والتي ينجح فيها القراصنة ويحرروا الفتيات والهروب بهن.

الفصل الثالث والأخير من باليه القرصان، يتكون من مشهد واحد احتفالي بشكل كبير، حيث لا نتابع أحداثاً هامة، فقط نشاهد وصول القراصنة إلى الجزيرة سعداء بالفوز وتحرير الفتيات، ويحاول بعض القراصنة الانتقام من أحمد تاجر الجواري لكن نور الدين يتدخل ليخبرهم أن أحمد هو من ساعدهم في إنقاذ الفتيات.
نشاهد في الفصل عدداً من الرقصات الجماعية الاحتفالية، ليبدأ أبطال العرض نور الدين وياسمين وعلي وجولنار في تقديم رقصات متشابكة حيث تبدأ الرقصة بشكل رباعي للراقصين الأربعة، ثم ينفصلا ليقدما رقصات ثنائية لكل من علي وجولنار ثم ياسمين ونور الدين، ليبدأوا بعد ذلك في تقديم صولهات راقصة ممتعة للغاية.

لا يمكننا إغفال دور الإضاءة التي صممها ياسر شعلان والتي اعتمدت طوال العرض على التعبير عن فكرة الأسطورة التي تعتمد عليها قصة القرصان، فهي تتضامن بشكل كبير مع ألوان ملابس الراقصات بين الأزرق والبنفسجي الفاتح والوردي، ما لعب دوراً كبيراً في تعليق قلوب المشاهدين بالعرض، كذلك لم يستخدم ياسر إضاءات قوية وصريحة سوى في مشاهد مثل مشهد سوق الجواري، بينما اعتمد الإضاءة الداكنة المكتومة في قصر سعيد باشا ليوحي بالظلم والقهر والطمع في بيت هذا التاجر الثري.
لعب الأوركسترا دوراً هاماً في العرض، حيث كان أدائه تحت قيادة قائد الأوركسترا ديفيد كريشينزي ناعماً ومبهراً ما ساهم بشكل كبير في إنجاح العرض بين شغف المتابعة وانسيابية الراقصين على نغمات الموسيقى.

ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نغفل روعة أداء الراقصين سواء كان الصوليستات أو المجمايع، حيث يواصل أحمد نبيل ضجته الرائعة في الأداء، بينما كانت كاترينا زابرزنايا تجسيداً حقيقياً لمعنى الفراشة الحالمة على المسرح، وواصل بطلا العرض أنجا أهسين وممدوح حسن روعة أدائهما في لعب دوري نور الدين وياسمين.
عرض باليه القرصان من العروض التي لا تُترك بالفعل، فهو يجمع كل عناصر الجمال الخاصة بالموسيقى والباليه الكلاسيكي، مع زهوة ورقة الديكور والملابس، إضافة إلى روح الشرق المستوحاة في القصة والتي تأخذنا إلى أجواء أساطير علاء الدين والقراصنة التي اشتهرت في تلك الفترة.



 المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 17 أكتوبر 2017 

الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

"قلعة آلموت" عرض للرقص الحديث يستلهم أسطورة الحشاشين في الإسقاط على واقع الإسلام السياسي المعاصر

استضاف مسرح الجمهورية عرض الرقص المسرحي الحديث "قلعة آلموت"، ضمن عروض مهرجان المسرح التجريبي لمدة ثلاثة أيام، استطاع خلالها العرض أن يحقق نجاحاً فنياً وجماهيرياً كبيراً، حيث استطاع المخرج مناضل عنتر إضافة عرضاً مميزاً جديداً إلى قائمة عروضه التي حققت نجاحاً محلياً وعالمياً منذ عرضه الأول (الآلات) عام 2008.
العرض الجديد (قلعة آلموت) يُعد قراءة مسرحية راقصة للرواية الشهيرة بنفس الاسم للروائي والمفكر السلوفاكي فلاديمير بارتول، والتي كتبها عام 1939 عن طائفة الحشاشين التي أسسها الحسن بن الصباح في القرن الخامس الهجري، فكانت أول طائفة دينية متشددة تُنفذ اغتيالات سياسية في شكل استشهادي بدائي يناسب تقنيات ذلك الوقت.

من بروفات العرض 

كتب بارتول الرواية في زمن تميز بصعود النظريات الشمولية وبوجود شخصيات سياسية قيادية تتطلع إلى تغيير العالم، ما جعل الكاتب يتأثر بهذا الظرف التاريخي ويتجه باهتمامه إلى شخصية "شيخ الجبل" الفذة التي استخدمت فكرة الجنة والحور العين لاستقطاب الشباب لتنفيذ اغتيالاته السياسية باسم الدين والدفاع عنه، معتمداً في ذلك على كتابات المستشرقين وعلى ما تضمنته تلك الكتابات من أساطير أحاطت بداهية من كبار دهاة التاريخ السياسي الإسلامي في بلاد فارس.
وبالطبع ورغم أن الرواية قديمة جداً إلا أنها تعبر بجدارة عن واقعنا الذي يعج بالتطرف الديني واستخدام الاسلام سياسياً وتحويله إلى دين اغتيالات وحروب، وهذا هو ما أعتقد تماماً أنه كان السبب وراء اختيار مناضل عنتر للرواية لتكون مصدر قراءته المسرحية الراقصة الجديدة، لكن المدهش حقاً هو أنه لم يتم ذكر الرواية أو مؤلفها بأي شكل من الأشكال في كُتيبات المسرحية أو الأخبار المنشورة عنها، وكأن قصة المسرحية إنتاجاً فكرياً خالصاً لمنتجيها المحليين، وهو ما يجعلنا نطالب يتصحيح الأمر مستقبلاً، فرواية "قلعة آلموت" ومؤلفها بارتول ليسا بمغمورين كي يتم تجاهل ذكرهما بهذه الطريقة.
اختار مناضل الجزء الخاص بانتقال المقاتلين الشباب الذين دربهم الصباح على الاغتيالات السياسية إلى منطقة الحريم أو كما ادعى الصباح الجنة وحورها العين العذراوات أبدأ، حيث يقع أحد الشباب في غرام جارية أو واحدة من الحور العين الملفقات، لنشاهد عروضاً راقصة ثنائية مبهرة حقاً تتميز بكريوجراف محكم وقادر على التعبير عن تفاصيل القصة بلغة جسد بليغة، استطاعت أن تفوز بتصفيق الجمهور لأكثر من مرة.
العرض احتوى على الصراع بين شغف الحياة والرغبة في تحقيق الهدف الذي يعتقد الشباب أنه سامي من أجل رفعة الدين، من خلال حوارات راقصة بين الشباب والشيخ الصباح الذي يدفعهم نحو اغتيال الشخصيات السياسية البارزة في الدولة، لكن الموسيقى في بعض المواضع لم تأت مناسبة لفكرة العرض، حيث تم الاستعانة ببعض الأغاني الحديثة باللغة الفرنسية وهو ما لم يكن مفهوماً في السياق العام للعمل، بينما جاءت أخرى في إطار صوفي وهو ما لا يناسب طبيعة العمل أيضاً، الذي يعتمد على حالة الصراع بين فكرة الحياة وفكرة الموت أو الاستشهاد من أجل بلوغ الجنة، في حين جاءت في مواضع أخرى مناسبة ومتجانسة مع المحتوى الدرامي العام للعرض.
كانت الإضاءة موفقة بالعرض، حيث عبرت بصدق عن حالة الغموض والمجهول الذي يسعى إليه الشباب المقاتل، بينما عبرت في مواضع أخرى عن الشر والأهداف التدميرية التي يسعى إلى تحقيقها الصباح، وكذلك حالة الصراع السياسي في الداخل وتربص الأجنبي لينقض على البلاد وسط كل هذه البلبلة الداخلية، وذلك دون اللعب بالضوء والظل كثيراً، حتى أن المشاهد كان يشعر بحالة الظلام الذي يشوبه الضوء الخافت الخانق والكئيب دون أن يلاحظ التغيير الذي يحدث مع كل مشهد، فجاء تغيير الإضاءة وفقاً لطبيعة كل مشهد انسيابياً دون ضجة غير مريحة للعين.
من بروفات العرض 

الديكور كان ثابتاً أيضاً، حيث القلعة على جانبي خشبة المسرح، وسلالم تؤدي إلى مساحة مسرحية عليا يتغير عليها المشاهد الخاصة برجال السياسة والذي رمزوا لعملية الصراع السياسي وكونهم أهدافاً للاغتيال، بينما كانت هناك شاشة تغطي خلفية المسرح كله يظهر عليها العرض مُصوراً في تسجيل سابق، ومن المفترض أن تتناغم الحركة على المسرح مع الحركة المسجلة والمعروضة عبر الشاشة، وهو ما لم يحدث في الكثير من المشاهد، ما يجعلنا نتساءل عن السبب الدرامي الذي تم من أجله استخدام هذه الشاشة؟ فهي لم تقدم شيئاً تكميلياً للأحداث المسرحية الراقصة، وجاء استخدامها معيقاً لعملية التوحد الكامل مع العرض الدائر على الخشبة، فكانت عنصراً بعث على التشتت، حتى أنني لجأت إلى تَعمُد تجاهلها طوال العرض كي أركز مع العرض أكثر.
لم يُقدم عنتر في مسرحيته عملية الاغتيال بشكل صريح واكتفى بالترميز لها، لينتهي العرض جامعاً عناصره الدرامية القائمة على الصراع بين الحب والحياة والموت من أجل جنة مُلفَقة، لكن الغريب حقاً اننا فوجئنا بمشهد ختامي صوفي لعرض تنورة وهو ما كان دخيلاً بالفعل على العرض وخارج السياق تماماً، لينتهي العرض بشكل يشذ عن المسار العام للأحداث الراقصة.

في النهاية لا يمكننا إنكار أن العرض كان ممتعاً بشكل عام، وجامعاً لكافة عناصر الكريوجراف الناجح في التعبير بصدق عن الأحداث، فكان التواصل بين المشاهدين والأحداث التي شملت الصراع والحب قوياً وبليغاً. 
المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 10 أكتوبر 2017

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

" كأنك تراه " مسرحية تستحضر روح الرسول وتتساءل (ماذا سنفعل وهو بيننا؟)

" كأنك تراه " تجربة مسرحية تحمل في طياتها أبعاداً صوفية، وإن كانت الكاتبة نسمة سمير التي تعد هذه المسرحية هي تجربتها الأولى مع مسرح الدولة، ربطت ما هو صوفي بما هو اجتماعي، في محاولة منها لاستحضار روح الدين الإسلامي في تعاملاتنا اليومية وعاداتنا الإجتماعية التي تكونت بفعل الإغراق في المادية وتأثير الجماعات الدينية المتشددة على أسلوبنا في الحياة، فأصبحنا نرتكب المعاصي دون أن ندري.


النص الذي أنتجه البيت الفني للمسرح ليُعرض خلال شهر رمضان، والذي قرر مدير عام مسرح الطليعة شادي سرور إعادة عرضه، لما رآه فيه من طرح اجتماعي جدير بالانتشار بعيداً عن رُوحانيات الشهر الفضيل، يعتمد على فنانين مغمورين، أتوا من مختلف محافظات مصر، وبعضهم تُعد "كـأنك تراه " هي تجربته الأولى على المسرح، ما يجعلنا فخورين بالمواهب التي تقدمها بلادنا من مختلف أرجائها، حيث أن الممثلين على اختلاف أعمارهم وبلا أي استثناءات أثبتوا قدرات تمثيلية هائلة، إضافة إلى أن أغلبهم يستطيع الغناء، بل ويمتلكون أصواتاً عذبة حملت الكثير من الشجن.
تعتمد فكرة الكاتبة نسمة سمير على سؤال (ماذا لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش بيننا اليوم؟)، وتحاول الإجابة على السؤال من خلال استحضار روح (سيدي أويس القرني) اليمني الذي حدَّث الرسول، عمر ابن الخطاب عنه، فلقد كان يعيش في اليمن وتتوق نفسه إلى رؤية الرسول (ص) ولكن مرض والدته منعه عن الذهاب إلى المدينة لرؤيته، فلما حثته أمه على تركها والسفر لتحقيق ما يصبو إليه قلبه قال:" أيقول الرسول أمك ثم أمك ثم أمك وأتركك وأمضي؟".


اختيار نسمة لشخصية سيدي أويس قائمة على أنه آمن بالله ورسوله دون أن يلقى النبي، وامتثل لأخلاق سيدنا محمد وتعاليم القرآن دون أنه يعلمه أو يراقب تصرفاته أحد، فعاش حياته وكأنه يرى الرسول. ومن هنا تأتي تيمة المسرحية؛ كيف نعيش وكأننا نراه عليه الصلاة والسلام.
تبدأ المسرحية بعد ذلك في طرح أزمات سلوك المسلمين من خلال مشاكل المجتمع المصري ومقارنتها بأخلاق وسلوك الرسول، ومنها الهوس بتسجيل كل لحظات الحياة عبر التكنولوجيا، دون أن نعيش الحياة بالفعل، كما تطرح قضية الحب والزواج والمغالاة في في طلبات أهل العروس ما يشقي الرجال ويؤجل سن الزواج، ورعاية اليتيم ويتم الأبناء في ظل حياة آبائهم بانشغالهم عنهم من أجل المادة، والعلاقة بين الغني والفقير، وبشرية الرسول قبل نبوته، والتظاهر بالسعادة أمام الناس بما نمتلك دون أن نكون سعداء بالفعل، والغش في التجارة والتحايل على الرزق بالكذب، والتحايل بالدين من أجل تحقيق المكاسب، والعلاقة بين المسلم والمسيحي أو أي إنسان ينتمي إلى ديانة أخرى، والإرهاب باسم الدين وتعريض أرواح الناس للخطر بخرق القانون ... إلخ.


تناولت المسرحية كل هذه القضايا على شكل اسكتشات تمثيلية يتخللها الإنشاد الديني، بينما يجيب سيدي أويس الذي لعب دوره الفنان محمد يونس باقتدار،على تساؤلات مريدي مقامه بماذا قال أو فعل الرسول في كل موقف يتعرضون له ويرتكبون الأخطاء بدعوى أن قسوة الحياة هي التي فرضت عليهم ذلك، ويفرق بين فكرة تشبث الناس بالمظاهر الدينية، دون جوهر الدين أو العمل بمبادئه في تعاملاتنا اليومية، وكيف أن مظهر الدين لا يعني الإيمان به.
استطاع المخرج الموهوب ماهر محمود أن يقدم معالجة إخراجية محكمة، تمكنت من ربط تزاحم الأفكار والقضايا داخل النص، بشكل لا يشتت المشاهد، فكانت الحركة داخل الفضاء المسرحي بقاعة صلاح عبد الصبور - لا تحتوي القاعة على خشبة مسرح، بينما يصطف المشاهدون على جانبي المساحة المسرحية- منظمة في تداخل يضفي ديناميكية لا تسمح بالملل خلال الأحداث، التي هي في الأساس تعتمد على الإنشاد الديني.


أما ديكور المسرحية الذي صممته نهى نبيل ونفذته شيماء عبد العزيز، فجاء مقسماً بشكل طولي يناسب تقسيمة ساحة المسرح، حيث جامع سيدي عويس والكنيسة المجاورة له، بينما يجلس الممثلون بينهما، ليتبادلا النهوض والعودة إلى أماكنهم وما يتفق مع دور كل واحد منهم. لم يكن هناك أدوات أو قطع مسرحية لاستخدامها أو تحريكها، حيث كان الممثلون يجلسون على الأرض ويتحركون بين الديكور المجسد للكنيسة والجامع. أما الإضاءة والملابس فخرجوا في شكل بسيط وتقليدي، حيث شخصية سيدي أويس ترتدي ملابس عربية تاريخية، وباقي الشخصيات يرتدون ملابس معاصرة تعبر عن الحالة الاقتصادية أو المستوى التعليمي لكل شخصية. 
الأشعار العامية التي تم إنشادها خلال المسرحية مهداة من الشاعر محمد بهجت، وقد جاءت معبرة تماماً عن الحالة المسرحية، لدرجة أنها حملت في داخلها بُعداً تراثياً يجعل المستمع يظن أنها أناشيد شعبية قديمة بالفعل، كما ان الموسيقي والملحن الكبير محمد عزت، استطاع بالطبع أن يغلفها بتلك الروح التراثية والتي يبرع فيها عزت منذ بداياته، حيث كان ومازال واحداً من أهم الموسيقيين المعبرين عن روح الشعب المصري بموسيقاه التي تحفر عميقاً في الوجدان الفني للمصريين.


فقط يؤخذ على النص تزاحم وتعدد القضايا، حيث داخلني شعور بأن الكاتبة تخاف أن لا تكرر التجربة وتقدم عملاً مسرحياً جديداً، فمن وجهة نظري، خرجت مسألة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وموضوع الإرهاب بزرع قنبلة بين الكنيسة والجامع، والإرهابي الذي ظهر في المشهد الأخير، زائدة عن الحاجة، بل وساهمت في إضعاف الدراما المقدمة، حيث كان من الأفضل أن تتوقف المسرحية على معالجة مسألة السلوك والتعاملات بين الناس، دون حشر موضوع كبير مثل الإرهاب والوحدة الوطنية، حيث أنهما موضوعان يحتاجان إلى تناول درامي عميق لا يصح سردهما على عجل وبتلك السطحية كما جاء في العرض.

"كأنك تراه" تجربة مسرحية يكمن تميزها في استخدام أسلوب طرح بسيط، قادر على الوصول إلى الناس بمختلف طبقاتهم الاقتصادية والتعليمية، فهو يجمع بين الحَكي والإنشاد والحركة الخفيفة التي تجذب المشاهد العادي دون تعقيد أو سفسطة فلسفية مركبة، لذلك أتمنى أن يجوب العرض المحافظات المصرية، حتى تعم الفائدة المرجوة منه. 

نُشر المقال بجريدة القاهرة يوم 26 سبتمبر 2017

الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

تشريح الحالة الجنسية للمجتمع المصري في "سيرة اللذة والجنس في مصر"



هذا كتاب عن الظمأ
ظمأ الجسد، وجوعه، وطرائق إشباعه أو "تحريره" عند رجال ونساء من الحاضر والماضي، عبر أقوال أثارت جدلاً وأفعال أحدثت زلزالاً في مجتمعات حائرة بين دين الفضيلة وديناميت الرغبات الجامحة.
هكذا؛ استهل الدكتور ياسر ثابت مقدمة كتابه " سيرة اللذة والجنس في مصر" والذي صدر العام الماضي 2016، ليلخص بكلمات بليغة محتوى بحثه الرصين في كوميديا الجنس السوداء التي يعيشها المجتمع المصري، الذي يقدم بحرفية شديدة قمة التناقض بين ظاهر الشخصية المصرية وباطنها، والتي تعلن بصخب دنس الجنس بينما تغرق داخله في الخفاء بنوع عالي الحرفية من التواطئ بين جميع أفراد الشعب رجاله ونسائه.
هذه الدراسة التي يمكننا أن نعدها فريدة من نوعها في مصر وربما في العالم العربي، حيث غالباً ما نتعرض إلى كتب مترجمة تقدم أبحاثاً لموضوع الجنس وتأثيره في البنية الاجتماعية للمجتمعات المختلفة، لكننا لا نجد ما يوازيها أو يقترب منها محلياً، فموضوع الجنس شائك وأحد أضلاع مثلث برمودا للمحرمات العربية (الدين والجنس والسياسة)، وحتى لو تجرأ كاتب وقدم بحثاً في الدين أو السياسة، فهو ينأى بنفسه بعيداً عن الجنس الذي دائماً ما يثير زوبعة من الرفض والاستهجان دون حتى الاطلاع على محتوى الكتاب.
يقترب دكتور ياسر من تابوه الجنس بحذر أيضاً، فهو يتعامل بذكاء شديد مع الموضوع، حيث لا يدخل في منطقة التحليل العميق للشخصية المصرية وسبب هوسها الجنسي، وعلاقتها المتناقضة معه، فهذا الشعب الذي تتمحور حياته بشكل كبير حول موضوع الجنس، ينفي الأمر طوال الوقت ويتخذ كافة التدابير للتضييق الجنسي الظاهري في حين يتسامح معه طالما كان داخل الدوائر المغلقة – ( تحتل مصر المركز الثاني عالمياً في أكثر عمليات بحث مرتبطة بالجنس على الإنترنت).
خلال ستة عشر فصلاً يتنقل ثابت بين مواضيع كثيرة حول سيرة الجنس في مصر، من سيرته بين المشاهير في الماضي والحاضر، إلى الجنس في الأعمال السينمائية والأدبية، ثم موضوع الجنس في الحجاب وأزيائه، والتراث المتحرر جنسياً أمام انغلاق عقولنا في الحاضر، والعلاقة بين المال وعشق العواجيز، ولم يغفل أيضاً التطرق إلى مسألة المثلية الجنسية وإن كان القانون قد جرمها صراحة؟
لكن في رأيي كان الفصل الأكثر قوة وربما تأثيراً في الكتاب، هو "تحرش قطاع عام" الذي تناول فيه موضوع التحرش من كافة جوانبه القانونية والاجتماعية، واستعرض ردود فعل المجتمع عليه سواء في الشارع أو عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم انكاره لكونه موجود من قبل ليطفح على السطح في العشر سنين الأخيرة ويكتفي بوصفه بالظاهرة، إضافة إلى صورة مصر في الخارج وتناول موضوع التحرش بالسائحات.  كذلك لم يغفل السرد التاريخي إن جاز لنا التعبير لأشهر حوادث الاغتصاب والتحرش التي تناولها الإعلام المصري منذ الثمانينيات. ولا يغفل ثابت  التركيز الشعبي والإعلامي طوال الوقت في إلقاء اللوم دائماً على الضحية (المرأة), إضافة إلى مناقشة مسألة التحرش من حيث هي قصور أمني أم أزمة اجتماعية مفصلية لها علاقة بنظرة المجتمع للمرأة.
برشاقة معهودة يخط دكتور ياسر بحثه في سرد ممتع، برغم أنه في حقيقة الأمر يقدم دراسة أشبه بالتاريخية للأمر، من خلال رصده للحوادث التي تتمحور حول موضوع الجنس عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة مع إضافة وسائل التواصل الإجتماعي وخاصة موقع الفيسبوك، الذي تحول إلى مسرحاً للتفاعل الاجتماعي المصري، يمكن من خلاله تقديم رؤية شبه واقعيه للحراك الاجتماعي داخل مصر.
تناول أيضاً الكتاب مسألة إثبات النسب، من خلال فصل "عز وزينة ومعركة التوأم" والذي أفرد فيه لتفاصيل القضية معتمداً على ما نٌشر عنها في الجرائد والمواقع الإخبارية، لكن الفصل لم يتوقف عند توأم عز وزينة بل فرد للعديد من قضايا النسب التي طالت مشاهير العرب.
ويعرج الكتاب أيضاً غرام السلفيين والإخوان من خلال فصل "جنس الأخوة"، لكننا نجده يقول:" الأكيد أن هناك من يطابق قوله فعله من حيث الالتزام وحسن الخلق، لكننا نتحدث عن نماذج لا يمكن تجاهلها أصيبت بتشوهات خطيرة نتيجة التناقض بين كبت مستمر تحت شعار الالتزام، ورغبة مستعرة تلهو سراً فتصنع ما تصنع."
وهنا أتساءل: هل يبرر ثابت كتابته لهذا الفصل حتى يتقي شر الأخوة والسلفيين؟ ولماذا لم يقدم مبررات لغيرهم من الفئات الأخرى التي تناولها في بحثه مثل الفنانين؟ فليس هناك من دليل على ان الانفلات الجنسي تختص به فئة دون الأخرى في المجتمع وليس عاديا أن تكون الفضائح الجنسية قاصرة على الفنانين مثلاً بينما هي أمر غريب على الإخوان والسلفيين، فإن كانت فضائح الفنانين هي الأكثر بروزاً فذلك لكونها تجذب القراء والمشاهدين أكثر، لكن في النهاية عندما قرر الإعلام أن يترصد الجماعات الدينية خلال 2011 و 2012، وأصبحوا مادة دسمة للمتابعة جماهيرياً، تصدرت فضائحهم عناوين المواقع الإخبارية.
من الفصول المميزة أيضاً، الفصل الخاص بالمخرجة إيناس الدغيدي التي تُعد بحق أيقونة مصرية لكسر تابوه الجنس في مصر، من خلال تناولها لموضوعه في أفلامها المختلفة، التي لطالما قوبلت بالهجوم اللاذع في الوقت الذي حققت فيه انتشاراً وجماهيرية كبيرة، إضافة إلى حضورها الإعلامي وآراؤها التي كانت صادمة للمجتمع.
كتاب "سيرة اللذة والجنس في مصر" يمكنه أن يكون بداية لتشجيع كتاب آخرين على تناول موضوع الجنس من جوانب أخري تشرح المجتمع المصري بطبقاته المختلفة وتدرس أزمة التناقض الذي يغرق فيها شعب كامل شغوف بالجنس لكنه ينكره.



الأربعاء، 2 أغسطس 2017

"أحلام من أبي" .... سؤال الهوية الذي لا يكتوي بجمره سوى من يكبشه


ربما لا يشعر بحرق جمر النار سوى من يكبشها بكفيه كما يقولون، ولهذا ربما كان استيعابي ورؤيتي لكتاب " أحلام من أبي – قصة عرق وإرث" للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما؛ مغايراً لرؤية كثيرين قدموا مراجعات للكتاب الذي صدر أول مرة عام 1994، قبل أن يظهر اسم أوباماً كنجم من نجوم السياسة الأمريكية.




لقد تجسدت أمامي كل الآلام التي صاحبت رحلتي الطويلة مع محاولاتي المستميتة للبحث عن هويتي، فمن أنا؟ هو السؤال المؤرق لكل البشرية، لكن التحدي لدى من عاش تجربة الغياب التام للأب مختلف تماماً، وربما من عاش مثلي أيضاً في مدينة لا تشبهه ومعروف بين الجميع أنه فقط يسكنها لكنه ليس من أهلها، يضفي على تشتت الهوية بعداً آخر أكثر إيلاماً، فأنت دائما ما تقع تحت ضغط سؤالين: من هذا الرجل الذي أحمل اسمه وملامحه؟ ولماذا أتيت هنا؟
نعيش مع باراك أوباما خلال 500 صفحة في الترجمة التي قدمتها كل من هبة نجيب السيد مغربي وإيمان عبد الغني نجم ونشرها مركز كلمة بأبوظبي، رحلة صادقة وتفصيلية سردها أوباما ببراعة أدبية تضعة في مصاف الأدباء العالميين، جمع فيها بين سؤال الهوية خاصته وسؤال الهوية العالمي والخاص باحتلال الرجل الأبيض للعالم وفرضه لونه وملامحة وثقافته لتكون هي الأفضل دون التفكير في أفضليتها تلك على أساليب أخرى كانت موجودة وذابت في هوية الأبيض الرأسمالية الليبرالية.
لا يغيب عن القارئ نبرة التمرد والرفض لكل ما هو أبيض لدى أوباما، فهو من البداية أثناء سرده لتفاصيل طفولته أفرد لملاحظاته الخاصة بفرق اللون بينه وبين أمه وجده وجدته لأمه، وكذلك ما تابعه في مجلات ملقاة في السفارة الأمريكية بأندونيسيا لإعلانات تفتيح البشرة لتحصل النساء على اللون الأبيض باعتباره العلامة الأهم من علامات الجمال والجاذبية، ناهيك عن ألمه الخاص بخوف جدته من متابعة شاب لها في الشارع، كانت كل أسباب ارتيابها تكمن في لون بشرته الأسود. كل ذلك وهو لا يعرف الرجل الذي نقل إليه هذا اللون سوى من خلال صورة معلقة بمنزل جدته تجمعه بأمه أثناء زواجهما.
لم يقتصر سؤال الهوية أو العرق الذي ينتمي إليه عند هذه الحدود، فهو المولود على تخوم البيض ويحمل ملامح السود، لا يدري إلى أي العالمين تكمن ماهيته، حيث تختل موازينه في كلا العالمين ولا يشعر بالانتماء الكامل لأي منهما، فالتفوق الأبيض يطعنه في لونه بينما يكمن داخل دمائه، والعزلة السوداء تطعنه في قلبه بينما يحملها على جسده.
كانت لرحلة أوباما مع أمه إلى أندونيسيا ليعيش معها وزوجها الثاني، تأثيراً كبيراً في تكوين شخصيته، حيث تعلم كيف يمكن أن تتحايل على الحياة وأنت لست بأمريكي، وهذا المجهود الكبير الذي يمكن لطفل وشاب ورجل أن يبذله طالما لا يحمل الباسبور الأمريكي حتى لو كان يعيش خارج الحدود الأمريكية، فأعلام الولايات المتحدة ترفرف فوق حدود بلاد العالم وتتحكم بها وبأهلها، فتفرض عليهم أنماطاً من العيش لا تشبههم، وتجبرهم على مخاتلة المبادئ الأمريكية أو الخضوع لها بالكامل حتى يتمكنوا من كسب قوتهم اليومي ولا يتعرضون للرفض أو النبذ أو حتى السجن والقتل، حيث حكام تلك البلاد يخضعون لأمريكا بشكل أو بآخر ويقمعون أي محاولة لمواجهتها ورفضها.
كانت حياة أوباما بأندونيسيا بمثابة جرس تنبيه له كي يقدر كونه أمريكيا على هذه الأرض وعندما أعادته أمه ليكمل دراسته بأمريكا، حيث لم تكن ترضى عن المستوى التعليمي في أندونيسيا، رفض العودة إليها مرة أخرى وأصر على أن يستمر في إقامته مع جده وجدته في هاواي. لكن حياته في الولايات المتحدة لم تكن مثالية بالشكل الذي تخيله، فهو أسود اللون، وهذه غربة أخرى داخل ما يعتقد أنه الوطن، فهو يتجاهل تماماً والده وكينيا التي ينتمي إليها بالعرق أيضاً لأنه لا يعرف شيئاً عنها ولا يعرف شيئاً عن أبيه.
مرحلة أخرى ينتقل إليها أوباما في كتابه الممتع " أحلام من أبي"، ألا وهي مرحلة المراهقة التي حملت إليه أول لقاء له بأبيه، فهذا الرجل الذي كانت أمه وعائلتها يصفونه بالألمعية والذكاء، بدا له متواضع جداً و نحيف للغاية، بينما لم يستطع أن يتفاعل معه وأحاديثه إليه، فكان بمثابة عار لطم وجهه فجأة وهو يحاول أن ينتمي لشئ، لكن والده استطاع أن يجلب له الفخر والإعجاب عندما ذهب إلى مدرسته ليلقي على طلاب فصله محاضرة عن كينيا والقبيلة التي ينتمي إليها (لوو) وعن وظيفته أيضاً، لكن ذلك لم يمح إحساس الغربة تجاه أبيه ولم يشعر أنه بإمكانه أن يجلس إليه ليتجاذب معه أطراف الحديث.
وكما جاء كما ذهب، ليعود باراك وحيداً في طاحونة حياته غير المحددة فمن أنا وما الذي أتى بي هنا؟ يظلا السؤالان الجوهريان.
في المرحلة الثانوية يتعمد باراك أوباما أن ينخرط في تجمعات السود ويبتعد تماماً عن المجتمع الأبيض، لكن ذلك لم يجعله يقبض على هويته المنشودة، فمجتمعات الأمريكان من أصول أفريقية تعيش فكرة القهر والاستعباد الأبيض كجزء أصيل من الهوية، ولا يتخلص من هذا الإحساس إلا من يعتزل حياة السود وينتمي بالكامل إلى عالم الرجل الأبيض الرأسمالي بكل قوانينه المجحفة حتى لأصحاب البشرة السمراء مثله. ظل أوباما في حالة التخبط بين العالمين، فهو من ناحية لا ينتمي لمجتمع الأمريكيين من أصول أفريقية حيث أن والده قدم إلى الولايات المتحدة للدراسة بهارفارد ثم عاد مرة أخرى، ووالدته أمريكية بيضاء، ومن ناحية أخرى هو يواجه حكماً مؤبداً بالحياة بينهم بسبب لون بشرته.
ذلك النزاع النفسي الذي عاشه أوباما طوال مرحلة دراسته الثانوية، جعله لا يدري ما الذي يريده فعلاً في الحياة وما الذي يمكنه أن يفعله، فأجل فكرة الدراسة بالجامعة وقرر الانخراط في العمل الاجتماعي داخل أحياء السود، وبالفعل يبدأ في عمله هذا ويحقق إنجازات كثيرة تُحسب له، لكنه يتعرض خلال الفترة لكثير من المتناقضات داخل مجتمعات السود نفسها، فهم يقسمون أنفسهم وفقاً للأحياء والكنائس وهم أيضاً يهدفون إلى الخروج منها للعيش مع الرجل الأبيض كنوع من الارتقاء ولا يبقى سوى التعيس الذي لا ينوي فعل شئ في حياته سوى التذمر والتشدق بكراهية الرجل الأبيض وقوانينه.
في المرحلة التالية لحياة أوباما وقبل أن يلتحق بجامعة هارفارد مثل أبيه، يقرر القيام برحلة إلى كينيا للوقوف على جذوره بنفسه ومحاولة البحث عن أبيه الذي كان قد توفى بالفعل، في باقي إخوته وعماته وأجداده، تلك الرحلة التي أقحمت أوباما في مستوى آخر من أساليب العيش، ومستوى آخر من توغل الرجل الأبيض وسيطرته على أفريقيا وفقدان الكينيين لهويتهم وعاداتهم وتقاليدهم أمام قانون الرجل الأبيض ذو الأفضلية المهيمنة على العالم.

"أحلام من أبي" كتاب ممتع بحق يأخذك بنعومة إلى قسوة العالم المتناقض ويطعنك في هويتك التي تشعر أنك بشكل أو بآخر تخليت عنها أيضاً من أجل تبني ثقافة وهوية الرجل الأبيض، الذي تؤمن داخلك أنه المسيطر وذو الأفضلية في جميع أنحاء العالم، لكنك عندما تتكلم بصوت مسموع لا تفعل سوى أن تلعنه بينما تمضي قدماً وأنت لا تهدف إلا إلى أن يقبلك في عالمه حتى وأنت تعيش على أرض وطنك.