الأحد، 12 نوفمبر 2017

"الجلسة – شغل عفاريت" .. نص مسرحي تقليدي مُقَدَم بحرفية بالغة المهارة

مع رفع لافتة كامل العدد استطعت بمعجزة أن أحصل على مقعد إضافي داخل قاعة صلاح عبد الصبور في مسرح الطليعة، كي أتمكن من حضور مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت"، ولا يمكنني أن أقول أن هذه حالة نادرة الآن في عروض البيت الفني للمسرح، والذي تشهد خشباته مؤخراً نشاطاً ورواجاً بين صفوف الجماهير من عشاق المسرح، الذين استطاع الجيل الجديد من الفنانين المسرحيين تحت قيادة متميزة، جذبهم وإعادتهم إلى مقاعد مسارح الدولة.

مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت"، من تأليف وإخراج الفنان مناضل عنتر الذي يتميز برؤاه المسرحية المعاصرة، حيث جمع هذه المرة بين عناصر المسرح التقليدي والرقص المعاصر، في عرض يمكن لنا وصفه بالحالة المسرحية المغايرة لما هو سائد على الساحة، حيث ينجذب المشاهد بشدة لوتيرة المسرحية المتسارعة والموترة من أول مشهد لها، فلا يسمح له مناضل ومجموعة الفنانين المشاركين في العرض أن يلتقط أنفاسه دقيقة واحدة، فيكون من الطبيعي جداً أن تجد مشاهداً قد نهض من مقعده واضعاً كفية فوق رأسه من شدة الإثارة والترقب لفك طلاسم هذا العرض الذي يقوم على فكرة الصراع بين الإنسان والشيطان داخل حلبة السباق المحمومة والمفروضة على كليهما منذ بدء الخليقة.

تختلط الأفكار داخل المحتوى العام للسياق الدرامي بالمسرحية، فبين فكرة الجن غير المرئي والذي يتلبس الإنسان، وفكرة الاستعانة برجال الدين (مسيحي ومسلم) لتخليص الإنسان من هذا اللبس، يغرس مناضل الأفكار التي ربما تختلط في رأيه هو شخصياً وتجسد لديه صراعاً فكرياً، ويبدو هذا ملحوظاً في الخلط بين النصوص المقدسة وتراث الشخصيات الأسطورية الشعبية مثل "أمنا الغولة"، والشخصيات المقدسة داخل التوراة مثل ليليت والإنجيل مثل ماريا المجدلية، التي افترض مؤلف النص أن كل امرأة تولد من نسل ماريا مُعرضة لإغواء الشيطان واللبس، وبالتالي تأتي شخصية بطلة العرض الذي لعبت دورها باقتدار بليغ الجمال والقوة الفنانة إيمان غنيم، حيث فتاة مسيحية تقع تحت سطوة الجن فتعيش في أرق وقلق دائم يُغرقها في الإحساس بالغربة والتمعن في الوحدة واعتزال الناس.

يطرح النص أفكاراً تراثية مثل أن الفتاة التي تستغرق وقتاً طويلا في مطالعة نفسها في المرآة، تتعرض لإغواء الشيطان وأسره ومن ثم الوقوع في الرذيلة، كما يضع بعضاً من الأفكار الفلسفية الحداثية مثل نفي وجود شخصية الشيطان حيث أن فكرته موجودة داخلنا بالأساس، أو أن الفتاة ليست ملبوسة ولكنها مريضة نفسياً وتحتاج إلى العلاج النفسي وليس رجال الدين، على لسان شخصية الشيطان التي تفنن في أدائها بحرفية مسرحية عالية الفنان طه خليفة، كما يطرح فكرة تعرض رجال الدين أنفسهم وهم يصارعون الشيطان للوقوع تحت سيطرته حيث لا عاصم للإنسان سوى إرادته وقوة إيمانه.
حالة من الجدل التقليدي الخاص بفكرة اللبس وضعف الأنثى تحديداً أمام إغواء الشيطان، تم تغليفها بثوب مسرحي حديث، إضافة إلى السفسطة العقائدية بين الشيخ والقسيس الذي يتعرض كل واحد منهما للإغواء والاختبار في إيمانهما، لكن مناضل عنتر يأبى أن يجعلهما صيداً سهلاً للشيطان، حيث يتخلصا سريعاً من تأثيره ويفيقا لنفسهيما ناهضين مرة أخرى بقوة للبحث عن منفذ وحل داخل نصوص الدين والتراث لإنقاذ الفتاة، بين عدد لا حصر له من المحاورات بين الشيطان الأكبر ومساعديه وبين رجلي الدين المسيحي والإسلامي حول الشر الذي ينتصر دائماً بإسقاط الإمبراطوريات والممالك، وهنا يأتي السؤال المهم: وما هي فائدة حصول الشيطان على هذه الفتاة؟ وهو سؤال وجيه لم تقدم له المسرحية إجابة حقيقية وإنما طرح تقليدي يعيد إنتاج أفكار مجتمعية نتمنى الخلاص منها وليس تأكيدها، فالمرأة في رأي مناضل عنتر مازالت هي مصدر الفتنة والإثارة بجسدها المُشكلة ومن خلالها يمكن إفناء الأرض باستغلالها في إغواء الرجال، وهذا في رأيي لا يختلف مهما تم تغليفه بعناصر مسرحية حديثة عن أي طرح وهابي متطرف سائد في مجتمعاتنا العربية، ولا أدري أيضاً لماذا كان يجب أن تكون الفتاة الملبوسة بالجن مسيحية، فليس من الضروري أن تكون حفيدات ماريا المجدلية كلهن مسيحيات، إضافة إلى أنه من المفترض أن استخدام شخصية المجدلية استخداماً رمزياً لعملية التحول من العصيان إلى الإيمان.

استخدام شخصيتين لرجلي دين يمثلان الدينين الرسميين بمصر كان في رأيي نوعاً من السذاجة الفكرية أشبه بصور التقبيل والمصافحة بعد كل حادث إرهابي بين ممثلي الدينين في مصر، فلقد كان يكفي أن يمثل الدين في المسرحية شخصية واحدة تتحدث بمنطقه دون تحديد الكتاب المقدس الذي يتبعه، فمع استخدام شخصية ماريا المجدلية وربط فكرة أن حفيدتها مسيحية ظهر دور الشيخ باهتاً بلا معنى بينما دور القسيس أكثر قوة في تجسيد الصراع بين الشيطان والدين.
لا يمكنني أن أنكر أنه على تقليدية الفكرة واستخدامها لرموز أكثر تقليدية، خرج النص مكتوباً بحرفية عالية استطاع من خلال الفنانين أن يحبس الأنفاس في صالة المسرح، لكن لأن محتوى النص تقليدي، خرج أداء الممثلين أيضاً قريباً جداً من الأداء المسرحي الواقعي، فللجن طريقة في الكلام بالتأكيد يجب أن تكون مليئة بالفحيح، وللشر أسلوباً في الحكي والضحك وحتى السير، لكنني أيضاً لا يمكنني أن أنكر أن هذا الأداء التقليدي خرج ممتعاً جداً.
كانت العروض الراقصة بالمسرحية متميزة على أنها تحتاج إلى فضاء مسرحي أكثر رحابة من طبيعة قاعة صلاح عبد الصبور الضيقة والمحدودة، كذلك المكياج والملابس خرجا مناسبين إلى حد كبير لطبيعة المسرحية وطرحها التقليدي لتجسيد فكرة الشيطان حيث الاعتماد على اللونين الأسود والأحمر، ونفس الشئ حدث مع الديكور والإضاءة حيث الشياطين تخرج من أسفل الأرض ولا تتعامل إلا من خلال إضاءات أقرب إلى لون النار. أما الموسيقى فكانت متميزة جداً حيث جمعت بين أغاني الزار التراثية القديمة وموسيقى تحمل الكثير من الغموض والسؤال.
وينتصر مناضل عنتر في مسرحيته "الجلسة" إلى الشر حيث يجعل الشيطان يُغوي الفتاة بقتل نفسها في لحظة مخادعة بقمة الصراع بينه وبين رجلي الدين، فيفوز بحبس أنفاس المشاهدين الذين تسود بينهم حالة صمت ثم تساؤل إن كانت المسرحية قد انتهت؟ ليدركوا الأمر بعد لحظات تمر عليهم وكأنها زمن طويل، بعدها ينهض الجميع من مقعده في وصلة تصفيق لا تنتهي. وربما انتصر مناضل للشيطان بمسرحيته ليدلل في النهاية عدم قدرة الدين على مخاطبة الناس الآن من خلال طرحه التقليدي الذي لا يناسب العصر، لكن هذا الأمر كان بالنسبة لي مثل موجة أفلام المخدرات التي تنتهي بأن مصير المدمن الفناء ولكن بعد أن يعيش حياة حافلة بالاستمتاع واللذة.
مسرحية "الجلسة – شغل عفاريت" نص مسرحي تقليدي مصنوع بحرفية شديدة المهارة والروعة، ولذلك أتمنى أن يحضره الجميع ولكن بعقل نقدي حيث الاستسلام لطرح المحتوى الفكري للمسرحية مخادع وفي رأيي ينتصر للسلفية على الفكر الحداثي في تناول علاقة الدين بأزمات النفس البشرية والصراع بين الإنسان وتقاليد المجتمع الرجعية الخانقة.
تم نشر المقال في جريدة القاهرة بتاريخ 7 نوفمبر 2017 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق