الجمعة، 17 نوفمبر 2017

الأوركسترا يفتتح مهرجان الموسيقى العربية بتجربة خاصة تحتاج إلى تطوير

لا أستطيع أن أقول؛ إن تكوين أوركسترا بهذا الحجم من أجل تقديم مؤلفات عربية يُعد الأول من نوعه في مصر والمنطقة، فلقد شهد مهرجان الموسيقى العربية في دورات سابقة له العديد من الأوركسترات التي لعبت مؤلفات موسيقية لمؤلفين مصريين وعرب مصاحبة آلة شرقية كصولو مثل العود، لكنني يمكنني أن أقول إن ما قدمه الأوركسترا وبهذه التوليفة من الآلات الموسيقية في حفل افتتاح الدورة السادسة والعشرين من مهرجان الموسيقى العربية، يُعد عملاً نادر الحدوث في عالمنا العربي، لأننا وببساطة قمنا بالفصل العنيف بين كل ما هو عربي وما هو أوركسترا سيمفوني، فالسيمفونية مستقرة في وجداننا على أنها مُؤلف غربي ومن الصعب التفاهم معها عربياً رغم محاولات العديد من المؤلفين الموسيقيين المصريين والعرب تقديم مؤلفات سيمفونية، لم تحظ بالترحاب الكافي، ربما لأنها حاولت الدمج بين مفهوم الموسيقى الغربية ومفهوم الموسيقى الشرقية، ما كان غريباً على أذن حتى المهتمين والمتابعين.

مؤخراً برزت الموسيقى التصويرية الخاصة بالمسلسلات والأفلام، كمتنفس وحيد للمؤلفين الموسيقيين العرب، يقدمون من خلالها أفكارهم الموسيقية، وربما كان الراحل الكبير عمار الشريعي والموسيقار عمر خيرت، أبرز من حمل لواء هذا المسار ونقله إلى خشبة المسرح، ليكون شكلاً متناغماً يجمع بين رضا الجمهور والإطار العام لما هو معروف موسيقياً بالسيمفونيات.
عندما ذهبت إلى حفل افتتاح الأوبرا لحضور الأوركستر الذي تم تكوينه خصيصاً من أجل تقديم مؤلفات الموسيقيين العرب للدراما، تخيلت أنه سيتم العمل على تكوين مؤلف متعاشق لمجموعة من مؤلفات كل موسيقار، ليتم عزفها بشكل أشبه بالسيمفونية الكاملة، وذلك كان هو الوضع الأمثل أو الذي نحتاج لأخذ خطوة شجاعة لتنفيذه، لكن ما حدث هو تقديم عدداً من الموسيقات الخاصة بمجموعة من المسلسلات بشكل منفرد لكل مُؤلف موسيقي، وهو في رأيي الأمر المعتاد والذي لا يمثل إضافة كخطوة مستقبلية على طريق تطوير وتحديث القوالب الموسيقية العربية والتي وصلت حالياً لنوع من أنواع التشبع والجمود.
رغم ذلك جاءت التجربة مميزة ولم تخلو من النقاط الإيجابية التي تُحسب لهذا المجهود المميز، فلقد تم تقسيم العمل الموسيقي ككل إلى أقسام درامية، وربما في رأيي جاءت على عكس فكرة التصاعد الدرامي، حيث بدأ الأوركسترا بعزف المؤلفات التي تُجسد قمة الصراع أولا، والتي لعب بطولتها بامتياز المؤلف الموسيقي الكبير رعد خلف، الذي تم لعب ثلاث مقطوعات له هي : (مسلسل نابليون والمحروسة، ومسلسل مشرفة رجل من هذا المكان، ومسلسل حرب الجواسيس الذي تم دمجها  مع موسيقى مسلسل عابد كرمان).

وفيما عدا موسيقى مسلسل "مشرفة رجل من هذا الزمان" والتي كانت ناعمة وهادئة ومكتوبة للآلات الوترية بشكل خاص حيث لعب فيها الكمان والفيولا دوراً رئيسياً مع خلفية خافتة للتشيلو والكونترباص، تأتي باقي المؤلفات لتُعبر بقوة عن عقلية رعد التي تضج بقوة نبضات الحياة في قمة صراعها، فأنت أثناء مشاهدتك للأوركسترا وهو يعزف مقطوعة مسلسل "نابليون والمحروسة"، ستتوه عينيك بين الحركات الديناميكية الضاجة بالسرعة والتوتر المتصاعد لكل الآلات الموسيقية على المسرح، فلم يكن لآلة واحدة منها مجال للسكون والكمون، بل كان لكل واحدة دور مهم، وبدون صولوهات، فبأسلوب بوليفوني عالي الاحترافية جعل رعد الأوركسترا يعمل كخلية نحل مخضرمة، فالأوركسترا يستقبلك ودون سابق إنذار بقرعات قوية من آلة "التيمباني" الضخمة وعلى غير المعتاد يلعب "الباص درام" دوراً بارزاً بينما تقدم آلات النفخ جميعها (فلوت – ترومبيت – ترومبون – كورنو – فرنش كورن – فاجوت – أوبوا – باستوبا) حواراً منحوت الملامح ويمكن تمييزه بوضوح. هكذا كانت البداية التي خطفت آذان الحضور وحبست أنفاسهم لتضج القاعة بالتصفيق في النهاية.
جاءت موسيقى مسلسل "الكابوس" للمؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا في نفس الوقت الدكتور أحمد عاطف كفاصلة بين موسيقى رعد خلف وموسيقى الموسيقار التونسي الشاب أمين بوحافة، حيث تميزت الموسيقى بدور بارز لآلة الفيولا التي لعب الصولو الخاص بها دكتور أحمد عاطف بنفسه حيث انه صوليست هام ومرموق في مجاله، وكان صولو الفيولا الذي تكرر مرتين هو أبرز ما في المقطوعة.
يأتي بعد ذلك التصاعد الدرامي المعكوس لعمل الأوركسترا، حيث بزوغ المشكلة أو الحبكة الدرامية للعمل الموسيقي الشامل ، وقدمه بامتياز الموسيقار التونسي أمين بوحافة من خلال الموسيقى التي وضعها لأربعة أعمال درامية هي (جبل الحلال و جراند اوتيل ولا تطفئ الشمس و حارة اليهود)، والتي كانت الغلبة فيها للوتريات مع دور بارز لآلة البيانو وبدء ظهور صوت آلة الهارب، وبالطبع لعب على البيانو أمين بوحافة بنفسه على آلة بيانو خاصة تم إضافتها إلى المسرح أثناء عزف أعماله، إضافة إلى آلة الأوكرديون بشكلها الحديث المتمثل في كي بورد موصل ببوق نفخ عن طريق الفم، قدم بوحافة من خلال مزجه مع البيانو مهارة فائقة في العزف.
نعومة مقطوعات بوحافة شكلت وحدة متكاملة لم يشعر معها المستمع أنه ينصت إلى مقطوعات مختلفة، إضافة إلى صولو التشيلو الذي لعبه محمود صالح والذي أضفى شجناً وصوتاً رخيماً معتقاً للمقطوعات الموسيقيى التي عبرت بصدق عن الصراعات النفسية الداخلية المكتومة للإنسان.

كانت المقطوعات الموسيقية السابقة بالحفل فيما عدا "الكابوس"، قريبة أو متسقة أكثر مع الروح الموسيقية الغربية حيث لم تلعب فيها الآلات الموسيقية الشرقية التي كانت موجودة على المسرح (ناي،عود وقانون) دوراً يُذكر وربما اختفى بعضها تماماً مثل القانون والناي، لكن الموسيقار المصري تامر كروان أعاد معنى الموسيقى الشرقية المتطورة بمعناها الحرفي الشجي إلى الأوركسترا، من خلال مؤلفاته لمسلسلات ( ذات، سجن النسا، واحة الغروب)، حيث انضم إلى الأوركسترا عازفان لآلتين إيقاعيتين شرقيتين هما الرق والدف، واستطعنا أن نسمع بوضوح صوت العود والقانون، بينما ارتدت الوتريات جلباباً شرقياً فخماً أضاف زهواً محبباً على الأوركسترا وجذب آذان المستمعين على مقاعد الجمهور، خاصة عندما شدا المُطرب الغول وائل الفشني أغنية واحة الغروب، والذي أبهر بها الجميع حيث صوتاً فخماً يتلاعب بالمقامات ويصعد ويهبط على الطبقات الصوتية بانسيابية مبهرة.
وكما يقولون ختامه مسك، جاءت مؤلفات الموسيقار المصري الكبير راجح داوود من خلال موسيقى تتر مسلسل "هوانم جاردن سيتي" والتي غنت أغنيتها نهال نبيل. بعد ذلك  انضم إلى الأوركسترا (الكبار) من الصوليستات وعلى رأسهم الدكتورة إيناس عبد الدايم على الفلوت وهاني البدري على الناي، بينما لعب الكلارينت عمرو إمام والتشيلو محمود صالح، والبيانو والأورغن محمود مخيمر، والعود محمد عرفة، بينما قدم الأداء الصوتي سيد إمام، وذلك لمتطلبات المزج الموسيقي الرائع لمجموعة من مؤلفات الموسيقار راجح داوود وكان من بينها البسكاليا الشهيرة خاصته، حيث المعنى الحقيقي للموسيقى السيمفونية الشرقية والتي ربما يتفرد بها داوود وحده على الساحة العربية الآن حسب معلوماتي الخاصة.

ومن أكثر المزازيك الملهمة التي وضعها داوود في مؤلفاته؛ الحديث الرائق للفاجوت والعود، وكذلك الجدل الحاد الناعم بين آلتي النفخ الشرقية والغربية الفلوت (إيناس عبد الدايم) والناي (هاني البدري)، لينضم إليهما في الجدل القانون ويُشكل الرق والدف ظهيراً شعبياً زاهياً لهم في الخلفية، فمما لا شك فيه أن راجح داوود من أميز المؤلفين الموسيقيين الذين قاربوا في مؤلفاتهم بين الآلات الشرقية والغربية حيث أثبت أن بإمكانهما التفاهم والتحاور بتناغم.
وفي لفتة هامة تُعبر عن أن الفن الراقي المُعبر عن حركة التنوير العربية لا يتم إلا تحت لواء مصر، انتهت الحفل بعزف رشيق وخاطف لأغنية "اسلمي يا مصر"، التي لحنها الراحل صفر علي وصاغها أوركسترالياً الموسيقار الكبير راجح داوود.

تم نشر المقال في جريدة القاهرة الثقافية 7 نوفمبر 2017 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق