الاثنين، 15 أبريل 2019

"تقاسيم على الحياة" مسرحية تقدم الجنون كخلاص وحيد من مأساوية الواقع







يثبت الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف أن نصوصه مازالت قادرة على التعبير عن دواخل البشرية حتى الآن، فرغم مرور عقود كثيرة على كتابته لنص "العنبر رقم 6"، إلا أن المخرج العراقي الكبير جواد الأسدي استطاع أن يخرج منه عملاً يحاكي الواقع، وليس أي واقع، بل الواقع العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، فرغم أن الأسدي في مسرحية "تقاسيم على الحياة" حافظ على نفس الخطوط الدرامية لقصة تشيخوف، حيث استخدم نفس الأسماء ونفس الأبعاد النفسية للشخصيات، إلا أنه رسم نهايات مختلفة من أجل طرح رؤيته الخاصة بالعمل، فالعرض الذي قُدم على خشبة مسرح السلام بالقاهرة ضمن فعاليات المهرجان العربي للمسرح، يحكي قصة عشر شخصيات تعيش داخل مصحة نفسية، حيث تجسد تلك المصحة ذلك العالم الفاسد الذي تحكمه الصراعات السياسية الكبرى والتي دائماً ما يضيع بين قدميها الإنسان بكل ما لديه من طموحات بسيطة في الحياة، كأن يأكل ويشرب ويتزوج وينجب أطفالاً أصحاء، لكن على الرغم من عادية هذه المتطلبات وعدالتها، فإن الإنسان لا يستطيع أن يحققها في مقابل عجلة الدمار الشامل التي تديرها سلطة وحشية طامعة.


من خلال إضاءة كابية وحوائط حديدية ينقل الأسدي للمشاهد إحساس السجن الذي لا سبيل للفرار منه، فعلى جانبي خشبة المسرح يستقر حائطان حديديان مصمتان تماماً، أما في العمق نجد ثلاثة أبواب تكسر حدة الحائط الصلد، يطل من أعلاها ثلاثة نوافذ مربعة صغيرة، تخرج منها إضاءة توحي بلهيب النار المتقد والذي نشاهد المرضى دائماً يطلون منها في إيحاء بمحاولاتهم المتكررة لطلب النجدة والخلاص. في ظل هذا الديكور القاتم الذي تتخله إضاءة دموية، نتعرف على الطبيب والذي لعب دوره برصانة مفرطة الفنان مناضل داوود، حيث يحاول طوال الوقت إقناع المرضى بضرورة وجودهم داخل المصحة النفسية فيقول:" طالما توجد سجون ودور مجاذيب فلابد أن يبقى فيها أحد"، ما يكرس لهيمنة السلطة على الحياة ووجوب استسلام الإنسان لها، فهذه المصحة ما هي إلا رمز للعالم الذي نعيش فيه، وهنا أيضاً يأتي الإسقاط على الواقع السياسي العراقي، والذي تعرض بسببه الإنسان العراقي لكثير من الويلات التي تدفع العقل البشري إلى الجنون، لكنه لم يكن هناك مفر من الاستسلام للعيش داخله والانغماس داخل الجنون الكبير. وتلعب شخصية الطبيب في "تقاسيم على الحياة" دور الراوي العليم أيضاً ضمن الحبكة الدرامية للنص، فهو ينقل للمشاهد بعض من الأحداث التي تقع خارج أسوار المصحة، كما يمنحنا رؤية أعمق وأكثر تفصيلاً للشخصيات في المسرحية، مثلما فعل مع شخصية الممثل وشخصية إيفان الفيلسوف.


تجسد شخصية الممثل في المسرحية "الفنان أو المثقف" وسط هذا العالم الشره للدمار، فهو يفقد قدرته على الإبداع ولا يستطيع إمتاع جمهوره أو مداعبة خياله، فيختار طواعية أن يدخل إلى المصحة ليهمش ذاته بنفسه بدلاً من البقاء داخل واقع لم يعد يحتاج إليه. أما إيفان الذي جسد شخصية المُفكر أو الفيلسوف، فيحاول طوال الوقت الخروج من المصحة إلى العالم الخارجي، فهو دائماً في حالة اعتقاد أن هناك حياة مفتقدة في الخارج أو أنه بإمكانه أن يغير الواقع المأساوي للحياة بأفكاره، لكن الطبيب يواجهه دائماً بوجوب استمرار إقامته داخل المصحة.


هناك أيضاً شخصية عالم الاقتصاد الذي يفهم اللعبة جيداً ولا يحاول تحديها، حتى انه لم يقاوم اغتصاب السلطة لابنته أمام عينيه لأنه يعرف أن هذه الأحداث تقع في ظل الصراعات الجيوبوليتيكية، وقد تم رسم هذه الشخصية بنوع من الكوميديا السوداء التي ترسم ابتسامة مرة على الشفاة، فهو يعلم أن الطعام في المصحة شحيح وسيئ ومع ذلك يزينه للمرضى ويتناوله معهم في لذة متصنعة وكاذبة، لكنه يؤكد لهم أن عليهم قبول الأمر من أجل الجيوبوليتيك التي لا يستطيع الإنسان العادي بمتطلباته البسيطة التافهة أن يوقفها عن الحراك في خطتها العالمية المرسومة والمدروسة بقوة.


شخصية الموسيقي الصامت أيضاً، جاءت بارعة في تشخيصها، فهي لا تتحدث أبداً فقط تخرج إلينا من إحدى الغرف لتعزف مرة على الكمان ومرة أخرى على التشيلو، بينما تجسد حالة الاستسلام الوديع للسلطة، دون نقاش أو مجادلة، وعلى الجانب الآخر يختار جواد الأسدي نزلاء المصحة جميعاً من الشباب وكأنه يؤصل لفكرة الزوال المحتم أمام السلطات الغاشمة التي لا تأبه للحياة من أجل تحقيق أطماعها، فلقد سجن الأسدي المستقبل في مصحة نفسية لا سبيل إلى الخروج منها.
جاء عرض "تقاسيم على الحياة" بديعاً على الرغم من مأساويته، فهو لم يترك لنا أي مساحة لأمل، حيث انتهى بانتحار الممثل أو المثقف واستسلام الطبيب للجنون، ما يجعلنا نتساءل؛ ألم يكن من الممكن أن نرى أي رمز لأمل في الأفق داخل تفاصيل هذا العمل؟

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 9 ابريل 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق