الأربعاء، 24 أبريل 2019

"الهلالي" عرض راقص مزج بين روح الشرق وفنون الغرب





ربما يتحقق الحلم لأول مرة في رأيي المتواضع ويخرج للنور عرض راقص مصري نطلق عليه باليه، أو عرض رقص معاصر يحتوي على تابلوهات باليه راقصة بشكل صريح. عرض يقدم تفاصيل قصة عربية تراثية يتم التعبير عنها بتصميمات راقصة رُسمت حركاتها باحترافية كانت منتظرة منذ زمن بعيد، حيث كانت أغلب العروض الراقصة المُنتجة بواسطة فرق مصرية تحمل في طياتها نوعاً من التغريب في التعبير ويبدو تصميم رقصاتها وكأنها حركات منقولة دون وعي بماهية ثقافتنا حتى وإن كنا نستخدم فنوناً راقصة غربية.



هذا ما فعله عرض "الهلالي" من إنتاج فرقة فرسان الشرق للتراث والذي عُرض على خشبة مسرح الجمهورية بالقاهرة، إضافة إلى مسرح سيد درويش بالإسكندرية والأوبرا بدمنهور. قصة العرض مأخوذة من سيرة أبوزيد الهلالي التراثية الشهيرة، حيث تم تقسيمها إلى عشرة مشاهد راقصة، صمم حركاتها وأخرجها دكتور عصام عزت بتميز إبداعي ملحوظ، حيث نبدأ بمشهد ثنائي للهلالي وزوجته يعبر عن حبهما الشديد لبعضهما البعض، حمل المشهد الكثير من العذوبة والدفئ، وساهمت الإضاءة الناعمة في تعميق تواصل المشاهدين به، ما شكل افتتاحية ناجحة لاستدراج المشاهد بسلاسة والانغماس في باقي الأحداث الراقصة.



يأتي المشهد الثاني والذي نرى فيه الزوجة وهي حامل، تذهب إلى بحيرة الأمنيات لترى شكل الطائر الذي سيمثل وليدها، فتتوالى الطيور في الظهور من خلال تصميم راقص مليئ بالحركة التي تغمر جنبات المسرح في دياليكتيك شديد التفاعل بين الراقصين الذين يجسدون الأنواع المختلفة للطيور، حتى يظهر غراب أسود يفرق الطيور التي تتحد ضده، فيتحول إلى طائر ناري يرهبها وتخاف الاقتراب منه، ولقد ساهمت الموسيقى والأزياء في تجسيد هذا المشهد، فاتسمت الموسيقى بدرامية غامضة وقوية وعبرت الملابس بشكل كبير عن أشكال الطيور وحركتها، والتي أبدع الكريوجراف في تشكيل تناغم حركي مليئ بالجدل من خلال الراقصين الذين شكلوا الشخصيات المختلفة للطيور.

تتوالى الأحداث بعد ذلك، حيث تظهر الضغينة التي يحملها العم لأخيه وطمعه في أن يستأثر بالحكم وحده دون أخيه، رغم ما يظهره له من محبة ورعاية لابنته الصغيرة، لكن عندما تلد زوجة الهلالي وتكتشف أن ولدها أسود البشرة يسود الحزن أرجاء القصر ويخفون الأمر عن والده، لكن العم يكشف له هذه الحقيقة ويشككه في شرف زوجته، فيطردها مع طفلها ويحرمها من ابنتها الصغيرة، بينما ينزوي حزناً ويتحقق مراد العم بالاستيلاء على الحكم.
تتشرد الأم مع وليدها أبوزيد حتى ينقذها أمير زحلان من الصحراء ويصطحبهما إلى قبيلته التي يتربى فيها الطفل ويحب فتاة من القبيلة، وفي اليوم الذي تحتفل فيه القبيلة ببلوغ أبو زيد سن الرجولة، تغير قبيلة الهلالي عليهم فيخرج الجميع مع أبوزيد للدفاع عن قبيلتهم، ويواجه أبوزيد عمه ويقتله، فيتصدى له والده ويشتبك معه في صراع عنيف حتى تأتي والدته وتخبره أن الهلالي هو أبوه.


أدى دور أبوزيد الراقص أحمد عاطف، الذي يجمع بين قوة الحركة وليونة الجسد في نفس الوقت، فهو راقص باليه محترف استطاع أن يطور أدائه ليجمع بين التعبير الجسدي المعاصر في الرقص وبين احترافية حركات الباليه شديدة الدقة، وقد ظهر هذا المزج المميز في أدائه الملفت بعرض "الهلالي"،  كما أن الراقصة ياسمين سمير والتي لعبت دور الأم أظهرت رهافة شديدة الحساسية في تعبيرها الجسدي لكل المشاعر التي تحملها شخصية الأم بالسيرة الهلالية، كما أظهرت أيضاً انضباطاً ملحوظاً في أدائها الراقص وهو ما لا نعتده في عروض الرقص المعاصر بشكل عام. نفس الشئ بالنسبة للراقصتين فاطمة محسن التي جسدت دور الحبيبة وهدير حلمي التي جسدت دور الأخت أو ابنة الهلالي، فالراقصتين نشرتا بأدائهما الشديد الراهفة والدقة، روحاً مبهجة منحت المشاهدين لحظات من السمو الوجداني. أما نادر جمال الذي جسد دور الأب فهو راقص بالفطرة كما يقولون، حيث لا تشعر بأنه يبذل أي مجهود في أدائه الراقص ويبدو وكأنه خٌلق ليرقص فقط، كما استطاع عبد الرحمن الدسوقي تجسيد الشر في دور العم باحترافية فهو راقص مخضرم يعرف كيف يفصل الحركة على مقاس الزمن فوق خشبة المسرح.


ولا يمكن بأي حال أن يخرج كل هذا الانضباط في الأداء بدون مصمم رقصات ومخرج يعرف جيداً كيف يفسر الأحداث بحركة الجسد، والملاحظ بقوة أن دكتور عصام عزت لا يعيد تجسيد حركات محفوظة ومكررة لدرجة الملل منذ تسعينيات القرن الماضي، فهو يعرف كيف يغزل كريوجراف مختلف وإن كان في النهاية مًضفراً من روتين راقص معروف، أظهر في استخدامه احترافية عالية في تأويل الحدث بحركات الجسد ولم يركن لاستسهال ما يُعرف بحركات الرقص المعاصر التي دأب كثيرون على رصها دون تفكير، إضافة إلى استعانته بروتين رقصات الباليه بشكل لم يُخرج الحدث من إطاره الشرقي البحت، حتى أنه جسد صوراً مشهدية بالغة الشرقية من خلال حركة جسد غربية بحتة، مثل مشهد ولولة نساء القصر بعد اكتشافهم للون بشرة الوليد السوداء.
ولا يمكن أن نغفل حيوية الديكور المستخدم في عرض "الهلالي"، فلقد لعب دوراً كبيراً في نجاح العرض، حيث قدم أحمد زايد ديكوراً متنوعاً عبر بقوة عن الأماكن المختلفة التي تنقلت بينها المشاهد، كما نجحت أيضاً هالة محمود في تصميم ملابس تجمع بين القدرة على التعبير عن الروح الشرقية العامة للحكاية وإمكانية التحرك داخلها بسلاسة بواسطة الراقصين، هذا غير الروح المبهجة التي قدمتها لنا من خلال ملابس الطيور والحبيبة والأم والابنة.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق