الأربعاء، 1 مايو 2019

"المجنون" .. نص فلسفي ومغامرة إخراجية غير مسبوقة عربياً




رغم إغراق نص "المجنون" الذي كتبه الراحل قاسم محمد نقلاً عن النص الأصلي لجبران خليل جبران، في التأمل الصوفي حول موقع الإنسان من الصراعات الكونية وغياب الروحانيات أمام الماديات التي تبسط هيمنتها يوماً بعد يوم وتضيق الخناق على المعاني الخلاقة مثل الحق والعدل والجمال والخير، إلا أن المخرج والسينوغراف الإماراتي محمد العامري تعامل مع النص الذي يتشابك فيه الأدب والفلسفة والشعر بشكل بصري شديد التركيز.
حطم العامري حوائط الشكل التقليدي لمسرح العلبة الإيطالي واختار الشكل الدائري ليُثبَت في منتصف خشبة مسرح البالون في القاهرة أثناء المهرجان العربي للمسرح، بحيث يحيط به الجمهور في شكل نصف دائرة فوق الخشبة نفسها ونظراً للإقبال الجماهيري الكبير على العرض اضطر كثيرون إلى الوقوف أو الجلوس على الأرض بين المقاعد ليشاهدوا هذه التجربة المسرحية المجنونة.


تبدأ المسرحية بشاشة تليفزيون تقدم صورة مشوشة، لينسحب تدريجياً ويُلقى في سلة قمامة ليختفي عن المسرح ويبدأ في الظهور مجموعة من الأشخاص الذين يرتدون ملابس الأطباء، يجلسون على مقاعد حول الفضاء الدائري وكأنه طاولة كبيرة مستديرة، ليتساءلون حول حقيقة شخص حطم القوالب وأثار أسئلة صعب الإجابة عليها، ليظهر بعد ذلك البطل أو المجنون الذي يتساءلون عنه والذي لعب دوره الممثل مروان عبد الله صالح باقتدار شديد، حيث أجاد في تأدية كافة التحولات للشخصية وأظهر قدرة إبداعية مميزة في الأداء التراجيدي والكوميدي في نفس الوقت، حيث أن العامري استطاع أن يفك التركيز التأملي العميق بتقديم بعض المشاهد في قالب كوميدي كسر من حدة فلسفية النص واستطاع أن يقربه لذهنية الجمهور.


قدم محمد العامري قراءة بصرية منوعة للنص، مستخدماً الكثير من التكنولوجيا المسرحية الحديثة، إضافة إلى إبراز معادل سينمائي لصورة مسرحية حداثية استحوزت على أبصار المشاهدين، مقدمة تجربة مسرحية ربما تكون الأولى من نوعها بالنسبة لهم، فإن كان الفراغ المسرحي الدائري قد قدم من قبل، إلا أن التعامل التكنولوجي المغرق في الحداثة الذي قدمه العامري من خلال "المجنون" يعد جديداً على المسرح العربي، وربما كان غريباً أيضاً فلقد خطف البصر بعيداً عن تأمل قيمة النص الفلسفية، فتاهت المعاني في التكنولوجيا ما سطح بعض النقلات الدرامية للمسرحية بعض الشئ.
أضاف العامري تشوهات ملموسة على جسد البطل أيضاً، فعبر بشكل بصري عن العراك الفكري داخل العقل بارتداء البطل لطاقية على هيئة تلافيف المخ، كما أظهر ما يشبه الخياطة الجراحية من أول السرة وحتى منتصف القفص الصدري ليتفرع كدلتا باتجاه الكتفين، فظهر وكما يُشق عن صدره لاكتشاف ما يعتمل داخله بشكل مرئي، ما يجعلنا نتساءل عن سبب فرد العضلات في إظهار البراعة في المكياج المسرحي، بشكل لم يكن في ظني مطلوباً، حيث أن الحوار والصراع الفلسفي الذي يقدمه النص كافياً كما أنه يدعو المشاهد إلى تشغيل عقله، بينما تحويل كل معنى إلى معادل بصري يجعله يتوه في التفاصيل والألوان الكثيرة في الصورة ما يعطل حواسه الميتافيزيقية في مقابل الحواس الحسية.


 يعبر نص قاسم محمد المأخوذ عن جبران، عن ذلك الإنسان الذي نأى بنفسه عن كل مبتذلات العصر الذي يدخل الكون في صراعات عدة تبعده عن إنسانيته، لكنه وحده يعلن رفضه لكل جهل وتطرف وعنف، ويدخل في رحلة يبحث خلالها عن العمق الإنساني، فهذا المجنون هو الذي قرر أن يمشي عكس التيار العام الجارف محارباً كل الأقنعة والزيف، ما يجعله غريباً وسط المجموع ويضعه في بؤرة النبذ والكراهية، ومحاولة القضاء عليه، لأنه ببساطة غير مفهوم لهم ويمثل حرباً على الحياة التي يسيطرون بها على الكون، ما يشكل تهديداً لاستمرارهم، فيكون القرار هو التخلص منه ومن أي نسل قد يكون له في المستقبل.
يحتدم الصراع في العمل المسرحي وتأتي لحظة النهاية، حيث المواجهة بين المجنون وبين الذين يدرسون حالته الغريبة، لنجد أنفسنا في النهاية نشاهد البطل يتناول "مايك" في يده ويفصح عن رسالته وهي "المحبة"، وهنا نجد أنفسنا بعد كل هذا الطريق الفلسفي والسينوغرافيا البصرية المكثفة، أمام الحكمة الأخلاقية التي يرغب العرض في تقديمها للمشاهد، مُقدمة بشكل مباشر وعن طريق "مايك"، وهو ما شكل ردة درامية بالنسبة لي، وكأننا عدنا إلى المسرح الأخلاقي الذي يقف فيه البطل ويقول "مورال" المسرحية أو الحكمة الأخلاقية في شكل خطابي مباشر للمشاهد، فقد كنت أتمنى أن يترك المخرج مساحة تفكير للمشاهد، ليستخلص بنفسه المعنى من وراء العمل المسرحي، بدلاً من تجسيد كل شئ منذ لحظة البداية وحتى عند النهاية، بشكل بصري وخطابي مباشر.
لا يمكن إنكار أن المخرج والسينوغراف محمد العامري خاض تجربة مسرحية مفعمة بالجنون، فالنص وقيمته الفكرية شديدا الحساسية والجموح، احتاج إلى وعي جديد يقارب بينه وبين مفردات العصر المغرقة في المادية، ومن هنا جاءت تجربة العامري المغايرة لكل ما هو سائد ومألوف، ليقدم معادلاً بصرياً يفكك النص المغرق في ميتافيزيقيته ويقدمه بشكل عصري يشبع المشاهد الحديث للمسرح ويجذبه إليه، ما جعله يدخل ضمن الترشيحات النهائية للفوز بجائزة سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي للمهرجان العربي للمسرح في دورته الحادية عشرة والتي أقيمت في القاهرة.

المقال منشور بجريدة القاهرة بتاريخ 23 ابريل 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق