الجمعة، 5 أبريل 2019

اللهجة المحلية التونسية تعزل "ذاكرة قصيرة" عن الجمهور في القاهرة






مازال المسرح التونسي متأثراً بأحداث الثورة ويتفاعل معها، وبدا ذلك واضحاً في مسرحية "ذاكرة قصيرة"، الذي عُرض ضمن فعاليات المهرجان العربي للمسرح الذي شهدت القاهرة دورته الحادية عشرة، وإن كان هذا العرض يتمتع بما يتيحه النظر عن بعد لأي تجربة، فعندما نكون في قلب الأحداث تتحكم فينا انفعالاتنا وبالتالي لا تتمتع نظرتنا بالمنطقية المطلوبة للحكم عليها، لكن بالابتعاد عنها يمكننا النظر إليها بكثير من الحكمة وشمول الرؤية للتجربة ككل، وهذا ما جعل عرض "ذاكرة قصيرة" قادر على تحليل تأثيرات ما عُرف بالربيع العربي أكثر من أي عمل مسرحي تونسي آخر تناول هذه الثورات.


تحكي المسرحية عن الجيلاني الذي يرسله والده إلى تونس العاصمة ليعمل في مطبعة عمه، ومن خلال عمله يدمن القراءة، ليتحول إلى برجوازي صغير مثقف ويبدأ في تكوين علاقات مع مختلف شرائح المجتمع، لكن مساره هذا يُقطع بالقبض عليه عام 2009 بتهمة الخيانة، وبينما يتعجب من مسألة اعتقاله هذه، يكتشف أن ابنه الضابط حسن هو من وشى به للسلطات، فيدخل في إضراب عن الطعام في الوقت الذي يترقى فيه ابنه ويعتلي منصباً كبيراً. يدخل الجيلاني إلى المستشفى على إثر إضرابه عن الطعام وهناك يتعرف على الممرضة نزهة ويقيم معها علاقة جنسية، ما يجعلها تتعرض للطرد من المستشفى بعد أن تُضبط مع الجيلاني في حالة تلبس. في الشارع تتعرف على حسن الذي يجبرها على الاندساس وسط المعتصمين والتعرف على عمران أخيه الذي قاطعه بعد وشايته بأبيه، ورغم علمها بأنها حامل من والده الجيلاني إلا أنها تتزوجه وتسجل الطفل باسمه.
يعود الجيلاني إلى السجن ولكن مع اندلاع الثورة والحريق الذي شب في السجن، يهرب مع بعض المساجين فيتلقى رصاصة في رأسه ويموت، لتتلقى أسرته التي تبرأت منه في حياته بسبب اتهامه بالخيانة، دعوة من الرئاسة لحضور مراسم تكريمه.


في ألف ليلة وليلة أجلت شهرزاد موتها بالحكي اليومي المستمر، لتنال فرصة جديدة في الحياة، وهذا ما اتبعه مؤلف ومخرج العرض "وحيد عجمي" بمنح الشهيد الجيلاني فرصة جديدة في الحياة بالحكي عنه، واختار شخصاً بعيداً عن أسرته ليتولى هو الحكاية، وهو شخصية مريم، الصحفية المتزوجة من السلطة، وتعمل على اقتفاء أثر الجيلاني بعد إرسال دعوة تكريمه من القصر الجمهوري، ما يعطي انطباعاً بشيوع حكاية الشهيد وعدم اقتصارها على فرد بعينه، حيث يصبح ملكاً للمجتمع بأكمله وليس فقط لأسرته أو لأي جهة أخرى، كما نجد هنا مريم ممثلة للسان السلطة.
يتداخل بعض الرواة الآخرين في المسرحية، لتتضافر الحكايات في النهاية لرسم صورة لذلك الشهيد. وقد جاءت الحكايات كلها تقريباً من داخل البيت ويتم الانتقال منه إلى عوالم أخرى مثل السجن، ثم العودة مرة أخرى إلى البيت في شكل دائري دليلاً على الصيرورة التي تحكم الحكاية بأكملها، فيما عدا القصر الرئاسي الذي تصطدم فيه أسرة الجيلاني بحقائق كثيرة لم يعلموا بها من قبل.


الديكور في المسرحية بسيط للغاية، فأنت لا ترى سوى مقعدين مع بعض "المايكات"، التي يتبادلها الأبطال ليحكي كل واحد منهم جزءً من الحكاية، كما أن المخرج قدم أسلوب التشخيص الأقرب لأداء المهرجين وهذا ما تبدو عليه الشخصيات نفسها من خلال المكياج والملابس، حيث تسخر الشخصيات من بعضها البعض بهدف إضحاك الآخرين الذين يتحولون في كثير من الأحيان إلى جمهور.
الإضاءة جاءت قاتمة مع اختلاف ألوانها، ربما لأن المخرج رغب في أن تبقى الشخصيات غير محددة الملامح أو مموهه وكذلك لتعميق إحساس المتفرج بالحركات الأشبه بحركات عرائس الماريونيت، حتى أن وجوه الممثلين نفسها تم تشكيلها بحيث تأخذ طابع المهرج الذي لا يحمل وجهه أي تعبيرات إنسانية حقيقية أو حميمة، بل إنه يحمل وجهاً مبتسماً وحياديا طوال الوقت ومهما كانت الأحداث والمشاعر المحيطة به.


بقى أن أشير إلى أن اعتماد مسرحية "ذاكرة قصيرة" على اللهجة التونسية المحلية، قلل من فرص تفاعل الجمهور معها، خاصة وأن العرض قائم على الحكي المباشر، كأن يقف الممثل أمام ميكروفون ليحكي من خلاله عن وقائع الأحداث من وجهة نظره، وهو ما لاحظته أثناء العرض في المسرح القومي، من مغادرة الكثيرين لمقاعدهم أثناء العرض حيث اشتكوا من كونهم لا يفهمون شيئاً، وهو ما يؤخذ على العرض الذي كان على صناعه الوضع في الاعتبار، أنه ليس عرضاً محلياً ولكن عرضاً يستهدف جمهور متعدد الجنسيات واللهجات العربية، وبالتالي استخدام الفصحى كان ضرورياً بل وحتمياً أيضاً، فلقد ضاعت جماليات العرض في المحاولات المستميتة للجمهور كي يفهم، واضطر كثيرون إلى المغادرة بانطباع سيئ عن المسرحية، التي تستخدم أيضاً تكنيكاً غير اعتيادي بالنسبة للمسرح العربي، ما عمق فكرة عزلتها الجماهيرية.  

المقال منشور في جريدة القاهرة عدد 2 مارس 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق