الاثنين، 25 مارس 2019

"في الانتظار" .. محاكاة مملة لـ "جودو" صمويل بيكيت





في مسرحية "في الانتظار" والتي تُعرض الآن بقاعة صلاح عبد الصبور على مسرح الطليعة، يعود بنا المؤلف المسرحي سعيد حجاج إلى زمن مسرحيات العبث والتي نتجت عن العدمية التي أصابت أوروبا بعد ويلات الحروب العالمية، فكان السؤال الرئيسي هو: ما جدوى الحياة؟ ما جعل المفكرين والفلاسفة يعيدون التفكير في ثوابت الحياة وبدأت المجتمعات الأوروبية في اتخاذ منحىً فردي انعزالي أثر بشكل كبير في التركيبة الاجتماعية والأفكار المسيطرة عليها واهتزت العلاقة بين الإنسان والله بشكل كبير. فإذا ما بحثنا عن سبب يدعو حجاج إلى كتابة العبث منطلقين من نفس الدوافع الأوروبية، سنجد مبررات محلية قومية لاتخاذه هذا المنحى، فنحن نعيش في عالمنا العربي واقعاً محموماً تأكله الصراعات، حيث الحروب تنتشر من حولنا في أكثر من بؤرة، والإنسان تهتز ثوابته في مواجهة كل هذه الصراعات، كما تأخذ العلاقة بين الإنسان العربي وربه تشكيلات مغايرة، وتُعاد الصياغات الدينية وتُفتح الأبواب للأسئلة الوجودية.


كنت أتمنى أن ينطلق سعيد حجاج بفكرة عبثية جديدة، لكنه استسلم لمحاكاة الكاتب المسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت في مسرحيته العبثية الأشهر على الإطلاق "في انتظار جودو"، محاكاة تكاد تصل إلى حد التطابق، فشخوص مسرحيته تتلخص في "عزوز" الشخصية المفكرة والمثقفة التي تفكر طوال الوقت في لغز الوجود وهي نفسها شخصية "فلاديمير"، و "صفوان" الشخصية التي تمثل العامة من الناس والذي لا يهتم سوى باحتياجاته الطبيعية ويضيع عمره في دائرة البحث عن الطعام والشراب ويتعرض لكافة صنوف القهر في سعيه هذا وهي نفسها شخصية "استراجون". الشخصيتان مربوطتان ببعضهما البعض بشكل جدلي مُحير رغم أنهما طوال الوقت يحاولان الانفصال لكنهما لا يستطيعان، وهناك شخصية الأب الذي يجر ابنه بحبل ويعامله معاملة السيد للعبد من أجل تحقيق أهدافه الشخصية، وهي نفسها شخصية "لاكي" في مسرحية بيكيت، الذي يجر عبده "بوزو" بحبل ويمارس عليه صنوف القهر معلناً سيادته، لكنهما أيضاً ينتظران. ونفس الشئ نطبقه على استخدام القبعات والتي ترمز إلى العقل والقدرة على التفكير فمن يرتدي القبعة يستطيع أن يفكر ويعبر عن رأيه.


يقدم حجاج شخوص بيكيت في أغلفة مغايرة قليلاً، فعزوز يحمل عوداً يعزف عليه من حين لآخر ويعبر عن نفسه بالغناء مستخدماً أغاني راقية مثل "جئت لا أعرف من أين" للموسيقار محمد عبد الوهاب ويتفوه بكلمات فرنسية، بينما صفوان يعبر عن نفسه بأسلوب شعبي مصري مستخدماً أغاني شعبية حديثة مثل أغنية "أبص لروحي" لعبد الباسط حمودة، أو "أنا مش عارفني" لنفس المُغني، بينما شخصية الأب الذي يجر ابنه بحبل يجسد الأبوية المصرية وتعنتها بفرض أفكار تقليدية وتقييد حركة الابن حتى لا يكون أي شئ سوى تكرار لشخص أبيه الذي هو بدوره تكرار لشخص أبيه وهكذا دواليك.
هناك أشخاص آخرون بمسرحية "في الانتظار، لم أر لوجودهم أي معنًا أو سبباً درامي، مثل شخصية المطربة التي تلعب في البداية صوت رجع الصدى لعزوز المثقف، ثم تتحول فجأة إلى خادمة "المُنتظر" التي تعلن أنه لن يأتي، وهي متواجدة طوال الوقت في وضع ثابت تقريباً على المقعد أسفل الشجرة العجفاء أو واقفة جوار جزعها.


قدم سعيد حامد خليطاً فكرياً مرتبكاً في نسيج مسرحيته، فلقد تأرجح بين فكرة عبثية الوجود وبين فكرة التواكل على الله وانتظار فرجه، فظهر النص مرتعشا غير قادر على طرح تساؤلات العصر الوجودية والخاصة بظرف منطقتنا الراهن، ومختبئاً في رداء ديني وكأن الكاتب يحاول درأ اتهام الإلحاد عنه، وهو ما يدعو للسخرية فلقد كان من الأسهل تعريب نص بيكيت وتقديمه كما هو دون عناء إعادة محاكاة في قماشة مسرحية شديدة الترهل للأسف، فالشخوص بدت سطحية باهتة في التعبير عن رؤاها، كما لا أجد مبرراً درامياً لأن تتقدم شخصية صفوان في العمر دون شخصية عزوز، حيث لعب دور صفوان اثنان من الممثلين وهما ياسر عزت (مرحلة الشباب) وفكري سليم (مرحلة الشيخوخة)، إضافة إلى استخدام تيمات مستهلكة للدلالة على عبثية الوجود الانساني في مواجهة أقدار الآلهة وبشكل مباشر جداً مثل شخصية "سيزيف" في الميثولوجيا الإغريقية.
رغم أن محمود فؤاد صدقي طور في رؤية الديكور الخاص بمسرحية "في انتظار جودو" الأصلية، ولم يكتف بالشجرة العجفاء على الطريق المقفر، حيث قدم تكويناً متكاملاً للشجرة بتقسيمها إلى ثلاث مستويات، مستوى سُفلي تخرج منه أيدٍ تعبر عن الاستغاثة، ومستوى وسط لجزع الشجرة المكتوب على فروعها أسماء من انتظروا، عليه مقعد أسفل الطاقة الدائرية المفتوحة على المستوى العلوي والذي يجلس عليه هيكل عظمي لشخص انتظر حتى فنى وتحلل، إلا أن المخرج حمادة شوشة لم يتعامل مع هذا التكوين الذي يعطي مساحة كبيرة لديناميكية الحركة داخل الفضاء المسرحي، وعطل كثيراً من مفاتيحه، فلم يتعامل مطلقاً مع الفتحة السفلية التي تخرج منها الأيدي المستغيثة ولا مع الطاقة العلوية المؤدية إلى قمة الشجرة، وثبت شخصية المُغنية "رجع الصدى/ خادمة المُنتَظر" والتي ليس لها سبباً درامياً من الأساس، أسفل هذه الطاقة فعطلها تماماً.
المخرج أيضاً وزع عازفي موسيقى العرض داخل الفضاء المسرحي بين الشخصيات الرئيسية، وأضاف شخصيتين لراقصة وراقص، ليلعبا شيئاً أشبه بخيال الظل للشخصيات فزحم المساحة المسرحية وأربك الحركة داخل فراغها دون أن يكون هناك قيمة مضافة للدراما التي نتابعها.


لقد مضى زمن مسرح العبث أو اللامعقول والذي قدمه توفيق الحكيم للحركة المسرحية ببراعة، ولكني لا أنكر أنه من الممكن استدعاء هذه النوعية من الدراما المسرحية، خاصة وأننا نعيش واقعاً عربياً يقترب من الواقع الذي عاشته أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، لكن رغم تشابه هذا الواقع في خطوطه العريضة، فالاختلافات الفكرية والمرجعيات الثقافية والتكوينات النفسية للشخصية العربية مختلفة تماماً، ما يفرض نسيجاً درامياً مختلفاً عن ما شاهدته بمسرحية "في الانتظار"، التي لم تنجح حتى في الاستحواذ على انتباه المشاهدين.

المقال منشور في جريدة القاهرة 19 مارس 2019 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق