الخميس، 21 مارس 2019

"شابكة" مسرحية مغربية تجمع عناصر التجريب والمسرح التقليدي في توليفة جاذبة للجمهور





أوطان يضيع فيها العمر ولا يبقى في النهاية إلا الاستمرار في هذا الضياع، نزجي الوقت بأشياء لا قيمة لها سوى استدعاء الحسرة بين لحظة وأخرى، أو إطلاق بكائيات على عمر ولى لم يكن في أيدينا أن نغيره. ربما يكون هذا هو ما يرغب عرض "شابكة" المغربي أن يقوله، وربما يرغب في أن يقول غيره الكثير، فهو نص مفتوح على تأويلات عدة، منها على سبيل المثال، التعليب، فأن تعيش معلباً أو مقولباً في نمط واحد مفروض عليك، لكنك لا تدرك أنك دُجنت قابلاً وصاغراً، تعتقد أنك تفعل شيئاً ذو قيمة، ولا تدرك أن عمرك ضاع داخل شيئ لم تختره أو تفهم سببه إلا بعد فوات الأوان.

استخدم مؤلف النص الكاتب المسرحي الكبير عبد الكريم بورشيد رمزين لهذه العولبة أو القولبة، هما الثلاجة والمذياع، الذي يعيش بطلا العرض جوارهما ملتصقين، فالزوج الذي عاش عمره كله بين الوظيفة والزواج، لم يعد يجد ما يفعله في حياته سوى أن يلتصق بالثلاجة ليأكل، أما الزوجة "صالحة"، فقد عاشت عمرها بين أروقة التعليم، تناضل من أجل نشر العلم والقيم الفاضلة بين تلاميذها، لكنها بعد أن أحيلت إلى التقاعد لم تجد سوى المذياع لتلتصق به، ربما عاودها نبض الحياة مع متابعة الأخبار والموسيقى والدراما المختلفة التي يقدمها، بينما ابنهما يعاني من لا قيمة كل القيم التي زرعتها فيه أمه منذ الصغر، فهي لم تقيه العوز والفقر وافتقاد أبسط متطلبات الحياة.
يدور الصراع بين صالحة وزوجها، الذي يلومها على كل خيباته، ويتهمها بأنها سبب ضياع حياته، ويبكتها لأنه تزوجها وهو لا يدري سبباً مقنعاً واحداً للزواج، بينما تتشبث صالحة بما تبقى لها من قيم وتحرص على أن يظل بيتها منضبطاً.


هذا الصراع الذي يبدو تراجيدياً، يغلفه بورشيد في قالب كوميدي يقرب المسافات بين الصراع الدائر على خشبة المسرح وبين الجمهور، فبرغم أن المسرحية تم تقديمها على مسرح الجمهورية ضمن العروض المتنافسة على جائزة المهرجان العربي للمسرح، وبرغم أنها تستخدم اللهجة الدارجة المغربية، إلا أنها استطاعت أن تصل إلى الجمهور الذي ملأ القاعة وينتمي لجنسيات عربية مختلفة، واستطاعت أن تفوز بتصفيقهم الحاد.


أما المخرج أمين ناسور الذي أعد النص للعرض، فقد قدم رؤية إخراجية إبداعية، وبرغم أن أحداث المسرحية تصلح لأن يتم فردها على خشبة المسرح بالكامل، إلا أنه بنى بيتاً من طابقين يتوسط الخشبة، وسُلطت الأضواء عليه بينما تم إظلام عمق وجوانب المسرح، فركز أبصار المشاهدين على منطقة الأحداث بشكل بدى متعمداً كي يعبر عن الضيق والفقر الذي تعاني منه شخوص مسرحيته، أما معالجته لفكرة المذياع الذي تتابعه الزوجة صالحة عن كثب، فقدمه بفكرة فنية أضفت عناصر فرجة مبهجة على أحداث المسرحية، حيث جعل من الراديو شخصاً حقيقياً يحمل الجهاز في يده أو يرتديه كقناع على رأسه، وفقا لما تقتديه الحاجة الدرامية، فهو يحمله في يده عند إذاعة نبأ ما ويرتديه في رأسه عندما يبدأ عزف الموسيقى. كما جسد الموسيقى نفسها فنحن نشاهد امرأة تعزف على "الكي بورد" وتحمل الميكروفون في يدها يميناً ويساراً لتغني في المساحة التي ترغب فيها، وكذلك هناك عازفان للكمان يقدمان تنويعات موسيقية في نوع من التنافس المغلف بالكوميديا وبدون أي نوع من الحوار، فهما يتبادلان أو يتنافسان العزف ويعبران بأسلوب المايم.


 اتسمت الحركة في "شابكة" بالحيوية التي بعثت روحاً مختلفة وغير اعتيادية، فأمين نسور استطاع أن يقدم لغة بصرية أقرب إلى التجريب رغم استخدامه لأدوات مسرحية تقليدية كي يصل إلى الجمهور دون أن يكون هناك حاجزاً بين العرض وبينهم، فأنت تتابع حواراً جدلياً متشابكاً طوال الوقت بين الزوج وصالحة وابنهما، ولكنك في نفس الوقت تتابع حركتهم على المسرح بطريقة تعبيرية يستخدمون فيها الجسد بشكل كبير كي يعبروا عن المعنى الذي تناقشه المسرحية.
الخيوط التي تتشابك في مسار الدراما ليست كثيرة، بل هي بسيطة جداً ولكن معالجة أمين نسور للنص جعلها تتصاعد في توتر وحِدة مغلفة بالضحك حتى نصل إلى لحظة النهاية، عندما يتأكد الجميع، كل واحد فيهم على حدة، بأن حياته ضاعت هباءً تحت يافطات معلقة لقيم العمل والزواج والإنجاب، وذلك عندما يذيع الراديو نبأ اعتلاء واحد من طلاب "صالحة" الفاشلين منصب وزير، بل تولى ثلاث حقائب وزارية في وزارة واحدة، ما يثيرهم جميعاً وتتداعى على أذهانهم أعمارهم الضائعة داخل اروقة المبادئ التي لا تجلب سوى الفقر وسط عالم من الفاسدين، إلا "صالحة" التي ترفض الانجرار ورائهم في محاولة لاستغلال معرفتها بهذا التلميذ الفاشل الوزير، في محاولة لانتشالهم من الفقر.


يشتبك أمين نسور من خلال أبطاله مع الجمهور أيضاً، فنجد الأبطال يتفاعلون مع الجمهور ويطلبون منه أن يجيب على تساؤلاتهم في بعض المواضع، كما أنه نجح في اختيار فريق عمله، فعازفي الكمان تميزا في عزفهم وأدائهم الحركي الدرامي الصامت، بينما برع عبد الله شيشة الذي لعب دور الزوج في أدائه الذي تطلب الكثير من المرونة والحركة، كذلك جاء أداء حنان خالدي مميزاً ونجحت في تجسيد دور المرأة العجوز المتشبثة بقيمها ومبادئها بشكل كوميدي خفيف فاز بالكثير من ضحكات الجمهور.

إن عرض "شابكة" استطاع بنجاح أن يجمع بين حسنيين المسرح الجماهيري ومسرح النخبة، مقدما توليفة جديدة ومنضبطة أعتقد تماماً أنها ستعيد الجمهور إلى صالات العرض المسرحي.

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 12 مارس 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق