الخميس، 7 مارس 2019

فرقة أوبرا القاهرة تتألق على المسرح الكبير بعرض فاتن لـ "عايدة"






تعد أوبرا عايدة من أشهر الأوبرات التي تعد ركيز أساسية في الريبوتوار العالمي وكذلك الريبورتوار المصري لعروض الأوبرا العالمية، فالإنتاج المصري لأوبرا عايدة يعتبر مميزاً مقارنة بمختلف الإنتاجات الأخرى لها على مستوى عالم، لما يتمتع به الديكور من عظمة تفصح بقوة عن العصر الفرعوني، الوقت الذي كانت تهيمن فيه قوة الجيوش المصرية على المنطقة من حولها، إضافة إلى الأزياء الفاتنة والمصممة لأبطال الأوبرا وكذلك المجاميع والراقصين والراقصات، الذين يقدمون تابلوهات راقصة ناعمة تتوخى الحركات الشهيرة للرقص الفرعوني والتي نراها بالتفصيل على جدران المعابد في جنوب مصر.
قدم فيردي ثمانية وعشرين أوبرا، كانت عايدة أكثرهم تميزاً لما يتجلى فيها من جمال للألحان التي تفصح بقوة عن الأسلوب الإيطالي، وكذلك لأن فيردي اهتم في هذه الأوبرا بالصوت البشري كثيراً، كأهم وسيلة للتعبير الإنساني، وأيضاً اهتمامه بقوة التعبير الدرامي، وثراء الكتابة الأوركسترالية.

في العرض الذي حضرته بالمسرح الكبير، لم أشعر أن السوبرانو اليابانية ميتشي ناكامارو التي لعبت وغنت دور عايدة، في المستوى اللائق لهذا الدور، فقد شعرت بأن صوتها مخنوقاً وأنها غير قادرة على الإتيان بالنغمات المطلوبة على روعتها ورونقها، هذا عدا تشنجها المبالغ به في الأداء خاصة آريا "عد إلينا ظافراً" التي من المفترض أن تعبر عن الصراع الدائر في نفس عايدة الممزقة بين والدها وشعبها وبين حبيبها راداميس، ما جعلها نقطة الضعف الحقيقية في العرض بشكل عام. أما التينور الكوري جيمس لي فقد منح شخصية راداميس بهاءً حقيقياً من قوة وصفاء صوته وبراعته في أداء دور قائد جيوش مصر، كما برع في غناء آريا "عايدة ملاك السماء" في الفصل الأول والتي تعبر من خلالها شخصية راداميس عن حبه العميق لعايدة، فهذه الآريا صعبة خاصة نهايتها، حيث تنتهي بخفوت شديد على نغمة حادة، وهو ما يمثل صعوبة كبيرة لأي تينور بشكل عام، وهو ما لم يكن صعباً بالنسبة لجيمس لي الذي تميز بنقاء الصوت وسلاسته.
أما دور الأميرة الفرعونية أمنيريس فقد عشقتها بصوت السوبرانو العالمية مونتسيرات كابالي الإسبانية، وفي مصر أحببت أداء جولي فيظي لها، لكنني هذه المرة سمعتها بصوت السوبرانو المصرية أمينة خيرت، والتي كانت مفاجأة حقيقية بالنسبة لي، فلقد استحوزت تماماً على أذني وأشجتني بما لم أكن أتوقع أن يكون لدينا في مصر مثل هذه السوبرانو الرائعة، خاصة في مشهد محاكمة راداميس، حيث نسمع صوت رامفيس والكهنة خلف الكواليس وهم يحاكمون راداميس، بينما نرى أمنيريس على المسرح تحاول الدفاع عنه مستجدية الكهنة والآلهة للعفو عنه، وهو ما أدته أمينة صوتياً وتمثيلياً بشجون أثار الدمع في عيني ووجدت قلبي يخفق بشدة تأثراً وحزناً.
كان أداء رضا الوكيل لدور الكاهن رامفيس كما اعتدنا معه دائماً مهيباً، فهو من أهم أصوات الباص باريتون في العالم، ونفخر جميعاً بأنه مصري ، كذلك جاء أداء عماد عادل لدور الملك الحبشي أموناصرو معبراً، وأسامة جمال لدور الفرعون المصري دقيقاً.

ونلاحظ دائماً في عرض أوبرا عايدة المصري، تميز الكورال وهو الذي يقوده أستاذ الكورال باسكال روزيه، فهذه الأوبرا تحتوي على كثير من الأجزاء التي تحتوي على إنشاد الكورال، مثل إنشاد الكاهنات في ختام الفصل الأول. نحن أيضا نعيش الكثير من الأجواء الفرعونية في كثير من المشاهد من خلال الموسيقى التي تستخدم بعض الآلات التي تشيه الآلات الفرعونية القديمة مثل الهارب وبعض آلات النفخ، مثل الأجزاء الموسيقية التي تتخلل ختام الفصل الأول والثاني، خاصة التي تصاحب رقصات الباليه التي صممتها إرمينيا كامل بوعي شديد الرهافة لتجمع بين الحركات الراقصة الفرعونية والحركات التقليدية للباليه.
قُدمت أوبرا عايدة لأول مرة في دار الأوبرا المصرية التي بناها الخديوي إسماعيل في 24 ديسمبر عام 1871 وحقق العرض نجاحاً كبيراً، ويتحقق ظن فيردي فتصبح أوبرا عايدة من أكثر الأوبرات العالمية شهرة وإبهاراً حتى وقتنا الحالي. وقد استوحى قصة هذه الأوبرا المؤلف المسرحي مارييت من بعض ظواهر الحياة والعادات المصرية القديمة التي ظهرت على نقوش المعابد، مثل طقوس الكهنة ومواكب النصر ودفن الخائنين أحياءً، وهي العقوبة التي حكم بها على راداميس قائد الجيش المصري، وقد نسج حولها قصة عاطفية ربطها بالحرب التاريخية بين مصر وإثيوبيا.

جاءت أوبرا عايدة لتمثل مرحلة فنية جديدة وصل فيها أسلوب فيردي إلى قمة النضج، حيث اهتم اهتماماً بالغاً بالدراما وحاول تجنب الأسلوب الإيطالي الذي يقسم الأوبرا إلى فقرات منفصلة تستعرض مهارات أداء المغنيين على حساب تسلسل الدراما، كما تأثر فيها بأسلوب معاصره الألماني ريتشارد فاجنر في ربط الشخصيات الرئيسية للأوبرا مثل (عايدة وأمنيريس والكهنة) بألحان تؤديها الأوركسترا عند ظهور الشخصية على المسرح.
استهل فيردي الأوبرا بمقدمة موسيقية قصيرة بناها على لحنين أساسيين يرمزان للصراع الأساسي في القصة بين الحب والولاء، فاللحن الأول رقيق ناعم وهو لحن عايدة، وتبدأه آلات الفيولينة ثم تشاركها الفيولا، أما اللحن الثاني فهو لحن الكهنة وهو لحن صارم غليظ تؤديه آلات التشيلو ثم يتصاعد لتؤديه الأوركستر كلها ونسمع معه أصداء لحن عايدة الذي تعيده الفيولينة مرة أخرى باقتضاب ليخفت تدريجياً وتنتهي المقدمة بهدوء.
لقد شاهدت أوبرا عايدة مرتين على المسرح الكبير ومرة في سفح الأهرامات، ومرة في دبي التي استضافت فرقة الأوبرا الإيطالية، هذا إضافة إلى تسجيل فرقة أوبرا سان فرانسيسكو المتوفر على يوتيوب، هذا إضافة إلى استماعي للآريات الأوبرا الشهيرة بشكل منفصل، ومع ذلك لا يمكن أن أشعر بالملل منها، فهي بحق عمل أوبرالي يتجاوز الزمان ولا يتوقف عند حدود مرحلة منه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق